رجّح محللون سياسيون أن تمضي حكومة دولة مالي في مفاوضاتها مع شركة "فاغنر" الروسية، لنشر المئات من عناصرها المسلحة في البلاد المنهكة بالحرب الواقعة وسط الساحل الإفريقي.
يأتي ذلك في ظل تراجع واضح للدور الفرنسي بدول مجموعة الساحل الإفريقي الخمس، التي تشكل ساحة تنافس دولي نظراً لموقعها الاستراتيجي كنقطة ربط بين مختلف دول القارة السمراء وثرائها بالموارد الطبيعية.
تنامي النفوذ الروسي في الساحل الإفريقي
تعتبر روسيا من البلدان التي بدأت تولي اهتماماً خاصاً لدول مجموعة الساحل الإفريقي الخمس: موريتانيا وبوركينافاسو ومالي وتشاد والنيجر.
وكانت وكالة رويترز ذكرت أن الحكومة الانتقالية المُشكّلة في مالي بعد الانقلاب، والتي يهيمن عليها الجيش، على وشك توقيع اتفاق مع شركة المرتزقة الروسية، ينص على تدريب الجيش وحماية كبار المسؤولين بالبلاد.
وتأتي مساعي باماكو لإبرام اتفاق مع "فاغنر" بعد إبرام موسكو اتفاقات عسكرية مع عدد من دول الساحل، فقد وقعت روسيا اتفاقات عسكرية مع عدد من دول المجموعة، كان آخرها مع موريتانيا في 24 يونيو/حزيران المنصرم، واتفاقات عسكرية مشابهة مع مالي عام 2015، والنيجر في 2017.
ويعمل عناصر "فاغنر" الذين نشطوا كمرتزقة حروب في ليبيا وسوريا وغيرها من الدول خلال السنوات الماضية، على تدريب الجيوش المحلية للدول المتواجدين فيها، وحماية الشخصيات المهمة ومحاربة المتمردين أو الجماعات الإرهابية، وحماية مناجم الذهب والألماس واليورانيوم في النقاط الساخنة.
نشر المئات من عناصر "فاغنر" في مالي بعد تراجع فرنسا
وأشار الباحث الموريتاني المتخصص في شؤون دول الساحل، أحمد ولد محمد المصطفى، لوجود مؤشرات تدل على أن الحكومة المالية وصلت مراحل متقدمة في التفاوض مع شركة "فاغنر"، بشأن نشر المئات من عناصر الأخيرة في البلاد.
وذكر المصطفى لوكالة الأناضول، أن بيانات الرفض لهذه الاتفاق التي صدرت من الحركات الأزوادية النشطة في شمال مالي والعديد من الدول الأوروبية، تؤكد أن المفاوضات بين "فاغنر" وباماكو وصلت لمراحل متقدمة، وأن هناك جدية لدى السلطات المالية في المضي قدماً بهذا الاتفاق.
كما أفاد المحلل السياسي الموريتاني أحمد سالم ولد يب خوي: "بات من الواضح للجميع أن السلطات في مالي لديها رغبة حقيقة في الخروج من دائرة النفوذ الفرنسي، ما يعني أنها ستدفع بقوة لتوقيع الاتفاق". ولفت ولد يب خوي، في حديث للأناضول، أن العديد من النخب الإفريقية باتت تدفع للخروج عن النفوذ الفرنسي.
الإحباط من التواجد العسكري الفرنسي في المنطقة
بدوره، يرى الصحفي المتخصص في الشؤون الإفريقية، محمد جوب، أن المعلومات المتداولة والعلاقة التي تربط عدداً من كبار قادة الجيش المالي مع روسيا، تُظهر أن سلطات مالي ستمضي في توقيع الاتفاق مع "فاغنر".
واعتبر المصطفى أن الحضور الروسي في مالي ودول الساحل تَسَارع خلال الفترة الأخيرة، موضحاً أن العلاقات التي تربط كبار ضباط الجيش المالي بموسكو ستساهم بشكل كبير في إتمام الاتفاق مع "فاغنر"، رغم الرفض الدولي الواسع.
وأشار أن الموقف الروسي بدول الساحل يعززه أيضاً علاقة موسكو بالدولة الأقوى في المنطقة وهي الجزائر، وحجم الإحباط من التواجد العسكري الفرنسي في المنطقة.
وأردف: "عموم المشهد يوحي بأن لدى روسيا فرصة لتعزيز نفوذها في الساحل، ولن تدخر أي جهد في أن يتعزز حضورها أكثر من خلال إبرام اتفاق نشر عناصر شركة فاغنر في مالي".
التأثير على الاستثمارات الفرنسية في الساحل الإفريقي
في السياق، يرى الصحفي السنغالي المتخصص في الشؤون الإفريقية، محمد جوب، أن مساعي روسيا لإيجاد موطئ قدم لها بدول الساحل ستواجه صعوبات، من أبرزها كون المنطقة تابعة للنفوذ التقليدي الفرنسي، ولن تدخر باريس جهداً في منع موسكو من دخولها.
وأضاف جوب للأناضول: "بالإضافة إلى كون فرنسا تعتبر منطقة الساحل منطقة نفوذ لها، فإن لها مصالح اقتصادية كبيرة في المنطقة، منها استثمارات في مجال اليورانيوم والغاز". وأكد أن روسيا ستواجه مصاعب قوية في التغلغل بمنطقة الساحل.
فيما أفاد الباحث المصطفى بأن "المنطقة تغص بالأجندات المتصارعة، فأمام الروس إذا دخلوا، النفوذ التقليدي للفرنسيين والوافدين الأمريكيين الجدد الذين يسعون لموطئ قدم بالساحل، واتخذوا من النيجر بوابة لذلك، كما أن لتركيا مساعيها لإيجاد موطئ قدم هناك".
وشدد المتحدث قائلاً: "كل المؤشرات تدل على أن الدور الفرنسي في الساحل سيشهد تراجعاً كبيراً خلال الفترة القادمة، إذ يرى الرأي العام في مالي ودول الساحل الإفريقي أن الأوضاع الأمنية تدهورت أكثر رغم مرور 8 سنوات على التواجد العسكري الفرنسي بالمنطقة".
ارتباك فرنسي وتحذيرات أوروبية من تسلل "فاغنر" للساحل
حتى وقت قريب، كانت ألمانيا الدولة الأوروبية الوحيدة التي انضمت إلى فرنسا في التحذير من تسلل "فاغنر" إلى مالي، بعد أن ظهرت في ليبيا إلى جانب قوات خليفة حفتر، ثم في جمهورية إفريقيا الوسطى. والتخوف الغربي أن تكون باماكو محطة لقفزة جديدة في بلدان الساحل وإفريقيا الغربية، بما يهدد المصالح الأوروبية ويشكل "حصان طروادة" للنفوذ الروسي.
وكان آخر من أدلى بدلوه في هذه المسألة وزير الخارجية الأوروبي، جوزيب بوريل، الذي أطلق تهديدات، الثلاثاء 21 سبتمبر/أيلول 2021، من نيويورك، بمناسبة مشاركته في أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة. وذهب المسؤول الأوروبي إلى ما سبقته إليه باريس وبرلين؛ أي تحذير باماكو من أن اللجوء إلى خدمات المجموعة الروسية "من شأنه التأثير جدياً على العلاقة بين الاتحاد الأوروبي ومالي".
لم يُشر بوريل إلى ما يمثله حضور فاغنر من تهديد للمصالح الأوروبية، مركزاً بدلاً من ذلك على الانتهاكات التي ترتكبها، وعدم تقيّدها بالقوانين المرعية الإجراء بقوله: "نحن نعلم كيف تتصرف هذه المجموعة في أجزاء من العالم"، مشيراً بشكل خاص إلى ما ينقل عن تجاوزات ترتكبها المرتزقة الروسية في جمهورية إفريقيا الوسطى.
يقول الباحث الموريتاني المصطفى، إن "فرنسا تعاني من ارتباك شديد وهو ارتباك يمكن فهمه في سياق فشل كل الأجندات التي راهنت عليها خلال الفترة الأخيرة".
وأضاف: "الرهان الفرنسي بدأ أولاً بمحاولة الحصول على قوة مشتركة لمجموعة دول الساحل، من خلال الحصول على اعتماد في مجلس الأمن، وفقاً للبند السابع، لكن المشروع الفرنسي الذي قدم بهذا الصدد أجهضه التلويح الأمريكي بالفيتو، وهذا ما أجّل الانطلاقة الفعلية لهذه القوة".
وزاد: "ثم راهنت فرنسا بعد ذلك على إيجاد قوة أوروبية تحل محل قواتها (برخان)، فأطلقت عملية أخرى لإحلال قوات أوروبية محل قواتها، لكن هذه الخطوة أيضاً واجهت تمنعاً ألمانياً، برفض برلين الانخراط في هذا المسار، وهو ما أجهض أيضاً هذه المحاولة الفرنسية".
ماذا قدمت فرنسا لدول الساحل بعد 8 سنوات من وجودها العسكري؟
لكن باريس فشلت حتى الآن في الإجابة عن السؤال: ماذا قدمت فرنسا لمالي ودول الساحل بعد 8 سنوات من وجودها العسكري؟
يتفق الباحثون على أن اتفاق السلطات المالية وشركة "فاغنر"، في حال توقيعه، سيكون بداية لتوسع روسي في جميع بلدان دول الساحل، وقد يتمدد إلى العديد من دول القارة السمراء.
وكانت فرنسا أطلقت عملية "برخان" العسكرية في مالي عام 2014، بهدف القضاء على الجماعات المسلحة في منطقة الساحل الإفريقي والحد من نفوذها.
ومجموعة دول الساحل "جي 5″، هي تجمع إقليمي للتنسيق والتعاون تأسس عام 2014، حيث يقع مقر أمانتها العامة بالعاصمة الموريتانية نواكشوط. ويهدف التجمع إلى مواجهة التحديات الأمنية والاقتصادية، والعمل على حشد تمويلات واستقطاب استثمار أجنبي للنهوض ببلدانه الأعضاء، وفق ما يعرفه التكتل نفسه.
وتنشط بمنطقة الساحل الإفريقي العديد من التنظيمات المتطرفة، بينها فرع "القاعدة ببلاد المغرب"، حيث تشن هذه التنظيمات من حين لآخر هجمات تستهدف الثكنات العسكرية والأجانب بدول الساحل، خصوصاً في مالي.
وفيما تحولت منطقة الحدود الثلاثة المشتركة بين مالي والنيجر وبوركينافاسو إلى معقل جديد للتنظيمات المتشددة، أخفقت عملية "برخان" الفرنسية، التي تضم 5100 جندي في تطهير المنطقة من المسلحين، رغم وجود قوات من الاتحاد الإفريقي ووصول دعم عسكري من دول أوروبية.
وأعلنت فرنسا، مطلع يوليو/تموز 2021، أنها ستستأنف العمليات العسكرية المشتركة في مالي، بعد تعليقها مطلع يونيو/حزيران الماضي، عقب انقلاب عسكري بالبلاد هو الثاني خلال أقل من عام.