مازالت أسباب موجة التهدئة التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط غامضة بالنسبة للكثيريين، ولكن ثمة من يعتقد أن الولايات المتحدة لها دور في هذا الأمر دون قصد.
فالقصة التي لم تُروَ من الشرق الأوسط خلال الأشهر القليلة الماضية هي الزيادة الهائلة في النشاط الدبلوماسي بين الجهات الإقليمية الفاعلة، الذي شرعت فيه دول المنطقة، حسبما ورد في تقرير لموقع Responsible Statecraft الأمريكي.
فلقد سعت الإمارات العربية المتحدة وتركيا لحل التوترات بينهما، وفي هذا الصدد التقى مستشار الأمن القومي الإماراتي طحنون بن زايد بالرئيس التركي رجب طيب أردوغان في أنقرة الشهر الماضي. وكانت القوتان تتناحران في العديد من الساحات في الشرق الأوسط، بما في ذلك ليبيا.
إضافة إلى ذلك، كانت تركيا، بقيادة أردوغان، داعماً رئيسياً لجماعة الإخوان المسلمين، التي يعتبرها الإماراتيون التهديد الأيديولوجي الأساسي لهم، فيما تعتقد تركيا أنَّ الإمارات استهدفتها في عام 2016 من خلال دعم الانقلاب العسكري الفاشل ضد أردوغان، لكنهما تبدوان الآن عازمتين على الحد من التوترات السياسية من خلال زيادة التعاون الاقتصادي.
علاوة على ذلك، سعت أنقرة إلى تخفيف حدة التوترات مع القاهرة، وعاد القطريون أيضاً إلى الحوار مع المصريين مع تحسين العلاقات مع الرياض، التي رفعت الحصار المفروض منذ أربع سنوات على الدوحة في وقت سابق من هذا العام، وينخرط القطريون حتى في ذوبان الجليد مع الإماراتيين، على النحو الذي اقترحه اجتماع الشهر الماضي في الدوحة بين أمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني وطحنون بن زايد، وهو أعلى مستوى تشاور ثنائي بين البلدين منذ بدء الحصار على الدوحة في 2017. وفي هذا الأسبوع فقط استضاف ولي العهد السعودي محمد بن سلمان الشيخ طحنون وأمير قطر في منتجع على البحر الأحمر، حيث وقفوا لالتقاط صورة بدوا فيها مُسترخين.
عقد قمة بغداد في حد ذاته إنجاز
جاءت قمة بغداد تتويجاً لموجة النشاط الدبلوماسي في الأشهر الماضية، بهدف إرساء الأساس لنظام أمني إقليمي جديد، وألقى الرئيس العراقي برهم صالح باللوم في الحالة الأمنية المحزنة للمنطقة على "انهيار أنظمة الأمن والتعاون فيها"، وهو ما كان محقاً فيه. وشكَّلت هذه القمة انطلاقة، ليس بسبب القرارات التي توصل لها أطرافها، بل لانعقادها أصلاً ولمن حضر، وهم: وزراء خارجية إيران والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة وتركيا، بالإضافة إلى قادة مصر وقطر والكويت والبحرين.
وأشار وزير الخارجية العراقي، فؤاد حسين، إلى أنَّ "حقيقة أننا نجحنا في جمع الدول المتنافسة معاً على طاولة واحدة وبدء الحوار بينها ليس أمراً مهماً لهم ولنا فحسب، بل للمنطقة بأسرها".
ووصفها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، الذي حضر القمة أيضاً، بأنها "تاريخية"، وأصدر الرئيس جو بايدن رسالة تهنئة غير ملحوظة لبغداد لاستضافتها "قمة إقليمية تفتح آفاقاً جديدة".
إنَّ أهم اختراق دبلوماسي في طور الإعداد هي بالطبع الانفراجة بين المملكة العربية السعودية وإيران، الخصمين الرئيسيين في المنطقة. ويستضيف العراقيون اجتماعات سرية رفيعة المستوى بين الخصمين منذ وقت سابق من هذا العام، ووقف قادة إيرانيون وسعوديون وإماراتيون كبار معاً لالتقاط الصور في بغداد.
كانت التغطية الضئيلة التي تلقتها قمة بغداد تميل إلى التركيز على الدور الذي فاز به العراق حديثاً بصفته محوراً دبلوماسياً في المنطقة، بدلاً من السؤال الأكثر أهمية، وهو سبب حدوث كل هذا الآن. وبالتأكيد لا بد من التساؤل كيف تغيرت هياكل الحوافز للعديد من الدول الإقليمية فجأة لصالح الدبلوماسية كلها في نفس الوقت؟
ما أسباب موجة التهدئة في الشرق الأوسط؟
لا يكمن الجواب في التعب من الصراع لأنه من غير المرجح أن يعاني جميع الفاعلين من هذا الإرهاق تقريباً في نفس الوقت، بدلاً من ذلك الإجابة هي في الطريقة التي يؤثر بها الانسحاب العسكري لواشنطن من الشرق الأوسط في تحليل التكلفة والعائد على جميع الفاعلين عندما يتعلق الأمر بمواصلة تنافسهم خارج عالم الدبلوماسية (إذ قلة في المنطقة على استعداد للمراهنة على أنَّ ما حدث في أفغانستان لن يتكرر).
ومثلما كتبت Foreign Policy في أبريل/نيسان، "لم يتعلق الأمر كثيراً بما فعلته واشنطن، بل بما توقفت عن فعله، أي عندما توقفت أمريكا عن طمأنة شركائها الأمنيين في المنطقة بأنها ستستمر في دعمهم دون قيد أو شرط، بغض النظر عن السلوك الطائش الذي ينخرطون فيه، بدأ سلوك شركائها بالمنطقة يتغير.
إنَّ ابتعاد واشنطن عن التورط في خلافات وحيل شركائها في الشرق الأوسط أجبر قوى المنطقة على النظر أخيراً إلى الدبلوماسية على أنها أفضل خيار لها.
ورغم أنه من السابق لأوانه تحديد ما إذا كانت عملية بغداد ستنجح، لكن يبدو أنها تُثبِت صحة توقعات استراتيجية ضبط النفس الكبرى، بأنَّ انسحاب بايدن الوشيك من المنطقة قد أطلق العنان، كما هو متوقع، لإمكانات غير مستغلة للجهات الفاعلة في الشرق الأوسط لحل مشكلاتها بنفسها ومحاولة بناء الهياكل اللازمة لضمان منطقة أكثر سلاماً واستقراراً. كل ما كان على واشنطن فعله هو التوقف عن تزويدهم بخيار عدم الحياد عن الطريق.
وإضافة إلى ما يقوله التقرير من دور للانسحاب الأمريكي في تشجيع القوى الإقليمية على التفاهم مباشرة، لا يمكن استبعاد أن أحد أسباب هذه التغييرات فشل محاولات المحور الثلاثي الإماراتي والسعودي في تحقيق تغييرات على الأرض، خاصة في سوريا وليبيا.
فالتطورات العسكرية والسياسية المتسارعة في الشرق الأوسط تفيد بأن أياً من المحورين المتنازعين لم يحسم الانتصار، ولكن المحور التركي القطري وحلفاءه قد حجزوا طاولة في التفاوض حول مصير قضايا المنطقة، بعد أن صمدوا أمام الحصار على قطر والحرب في ليبيا سوريا وغزة، وأصبح وضع حلفائهم أقوى من حالهم في مرحلة نهاية الربيع العربي، وبعدما كان هدف الثلاثي هزيمتهم تماماً، أصبحت هناك قناعة باستحالة ذلك.
كما أن هناك مؤشرات على توتر العلاقات داخل ما يمكن تسميته بالمحور الثلاثي، وتحديداً السعودية والإمارات، كما بدا واضحاً في أزمة الخلاف على الحصص النفطية داخل أوبك.
والأمر ينطبق على الصراع السعودي الإيراني، فمزيد من المواجهة سواء في اليمن أو لبنان أو عبر الخليج، لن يغير النتائج الميدانية كثيراً.
ويرى البعض أيضاً أن نهاية عهد ترامب، الذي منح لبعض حلفائه حرية التصرف كما يشاؤون، بل شجعهم على التصرفات المتمادية، أعادت صوت العقل للمنطقة.
هل تسير أفغانستان في نفس الاتجاه؟
ويرى الموقع أن الانسحاب الأمريكيي من أفغانستان قد يُحدث تطورات مماثلة في أفغانستان أيضاً.
إذ تدعو بكين إلى اجتماع من أربع دول، يضم إيران وروسيا وباكستان والصين، "لتعزيز التنسيق لمنع الفوضى وكبح الإرهاب وإعادة بناء السلام". وسيحدد الوقت وحده ما إذا كانت هذه الدول ستنجح دبلوماسياً فيما فشلت فيه الولايات المتحدة عسكرياً.
لكن هناك شيء واحد واضح: الدبلوماسية لا تصنع دعاية تلفزيونية جيدة، إذ لن تحصل هذه القصص على نفس التغطية مثل هجوم إرهابي مروع في مطار مزدحم، لكن سواء قدمت مؤثرات بصرية جيدة أم لا، فهذه هي النتائج الحقيقية لانسحاب الولايات المتحدة الوشيك، ويجب الاحتفال بها.