"وحش ذو وجه مشوه، ولكنه يحمل بقايا ملامح بشرية يخرج ليلاً من مرأب منزل في ضاحية هادئة"، تبدو هذه الصورة المكررة في السينما بعيدة الاحتمال، ولكنها لم تعد كذلك؛ إذ يتزايد نشاط الباحثين الهواة الذين يتلاعبون بجيناتهم بشكل يقلق العلماء من تسببهم في موجة من الإرهاب البيولوجي.
فالأسترالي بول دابروا (41 عاماً) على سبيل المثال، يعتبر نفسه خبيراً في كل شيء، لذا يُفضّل إجراء تجاربه في الاختراق الحيوي (البيولوجي) داخل مطبخه. ويفعل ذلك في معظم الأحيان من أجل العثور على علاجٍ لمشكلاته الصحية الخاصة، وفي بعض الأحيان تكون التجارب للمتعة فقط، حسبما ورد في تقرير لصحيفة Financial Times البريطانية.
إذ شهدت السنوات الأخيرة نشاطاً أكبر من جانب مجتمع الباحثين الهواة، الذي ينتمي إليه دابروا، بفضل تراجع الأسعار وسهولة الوصول بشكلٍ أكبر إلى أدوات تعديل الجينات مثل Crispr. حيث أدّى ذلك إلى موجةٍ عالية من التجارب غير المراقبة داخل معامل مبنية بجهودٍ ذاتية، أو مرافق مجتمعية تُركّز على تحسين الذات بيولوجياً.
لقد استطاع تعديل جيناته بالفعل، وهذه هي النتيجة
ورغم افتقار شخصٍ مثل دابروا للتدريب الرسمي في مجال علم الأحياء الدقيقة (الميكروبات)، فإنه استخدم عمليات زرع البراز وتقنيات التعلم الآلي لتعديل بكتيريا أمعائه، ونجح في فقدان الوزن دون تغيير نظامه الغذائي اليومي.
ودفعته النتائج الإيجابية إلى محاولة تسويق تجربته الناجحة بمساعدة أحد المستثمرين الملائكيين، حسب تعبير الصحيفة البريطانية.
وهو يأمل ذات يوم أن يتمكن من جمع ثلاثة آلاف عينة من براز المتبرعين، حتى يُشارك النتائج علناً مع المجتمع العلمي.
وقد استقى دابروا غالبية معرفته في الحياة- وحتى الأجزاء الأكثر تعقيداً فيما يتعلق بتعديل الجينات- مباشرةً من الإنترنت، أو من خلال قوة إرادته الكبيرة التي دفعته للضغط على من يمتلكون المعرفة للحصول على الإجابات التي يُريدها.
إذ أوضح: "كلما شعرت بالملل كنت ألجأ إلى يوتيوب لمشاهدة محاضرات الفيزياء والأحياء بمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا. وأجريت بعض التجارب في المنزل أول الأمر، ثم أدركت أنني بحاجةٍ للمساعدة. فتواصلت مع أساتذةٍ في معهد ماساتشوستس وجامعة هارفارد، لأجدهم مرحبين للغاية بمساعدتي".
ذعر في الأوساط العلمية من الباحثين الهواة
وربما يبدو علماء "المرائب" أو ما يسمى بالـ"الباحثين الهواة"، وكأنهم مجرد ثقافةٍ فرعية ملتوية تابعة للمجتمع العلمي، لكن عقليتهم الخارجة عن المألوف بدأت تُثير الذعر بين أوساط المتخصصين في التهديدات البيولوجية داخل الحكومات والكيانات الدولية حول العالم.
ففي عام 2018 وصفت الدول الموقعة على معاهدة حظر الأسلحة البيولوجية عام 1972 عمليات تعديل، وتخليق، وتحريك الجينات وهندسة مساراتها الأيضية بأنّها من الأبحاث التي تندرج تحت توصيف "الاستخدام المزدوج"- أي أنّه من السهل استخدامها لأغراض الخير أو إلحاق الضرر على حد سواء.
وتخشى العديد من الأطراف الآن من أنّ زيادة سهولة الوصول إلى مثل هذه التقنيات قد يزيد من احتمالات استخدامها السيئ عرضاً أو عن عمد في تطوير أسلحةٍ بيولوجية، وذلك على يد أطراف مارقة بغرض تنفيذ هجمات جماعية أو مستهدفة.
يمكنهم التسبب في تخليق أمراض قاتلة
وتشمل التهديدات تقنيات تسلسل الحمض النووي الريبوزي منقوص الأوكسجين DNA التي وصل إليها دابروا رغم كونه هاوياً، والتي من السهل استخدامها لتربية مسببات أمراض فتاكة مثل الجدري.
إذ قال دابروا: "لو أراد الإرهابيون البيولوجيون ألا يكشف أحدٌ أمرهم، فيمكنهم شراء موالف حمض نووي مستعمل مقابل ألفي دولار. وستتكلّف العملية برمتها نحو 10 آلاف دولار، ويمكن تنفيذها داخل مطبخ".
وأردف أنّ الاضطراب العالمي الذي سببته جائحة كوفيد قد غيّر نظرة المسؤولين للأمر. حيث سلّطت الجائحة الضوء على مدى السهولة التي يمكن بها لأطراف غير حكومية أن تُطلق سلسلة من التغييرات البيولوجية الفتاكة من أجل إحداث دمارٍ عالمي عن عمد.
التعامل مع المخترقين البيولوجيين
بموجب شروط معاهدة حظر الأسلحة البيولوجية، تلتزم الدول رسمياً باتّخاذ كافة الإجراءات الممكنة لحظر أو منع تطوير الأسلحة البيولوجية ذات "الاستخدام المزدوج" من هذا النوع. ونظرياً، يعني هذا أنّ الدول مسؤولةٌ عن مراقبة وضبط أنشطة مثل تلك التي يمارسها دابروا.
ولكن عملياً، لم تتم صياغة المعاهدة في الأساس من أجل مواجهة التحديات التي يفرضها الإرهاب البيولوجي أو هذا النوع من العلماء الخارجين عن المألوف، الذين تشجعوا بفضل الوصول المتزايد لأدوات تعديل الجينات. إذ لا تزال العديد من قواعد السلوك الشائعة غامضةً فيما يتعلق بما هو مسموحٌ أو ممنوع في مختلف المجالات، وخاصةً حين يتعلق الأمر بساحة الهواة.
المشكلة أن جهل دابروا وغيره بالجوانب القانونية المتخصصة أمر خطير للغاية، خاصة أنها معقدة لدرجة أن الجهات العلمية نفسها تعاني من ضعف فهم الباحثين لها.
فوفقاً لبيرس ميليت، نائب رئيس الأمن والسلامة في مسابقة iGem Foundation العلمية، نجد أنّ مراكز التعلم في جميع أنحاء العالم تشهد نقصاً منهجياً في فهم قضايا الأمن البيولوجي. إذ قال ميليت للحضور في اجتماع معاهدة حظر الأسلحة البيولوجية والدول المشاركة بجنيف الشهر الجاري إنّ نحو 71% من الممارسين العلميين الذين شاركوا في أحد الاستطلاعات لم تكن لديهم خلفية عن تعريف مصطلح "البحوث ذات الاستخدام المزدوج المثيرة للقلق"، بينما لم يعرف 61% منهم تعريف "الاستخدام المزدوج".
"هكذا وصلنا لثورة الإنترنت".. بعض العلماء يؤيدون تجارب الباحثين
وقد بادر دابروا بجهوده الشخصية لمحاولة تنوير المسؤولين، مدفوعاً برغبته في منع الأطراف القليلة سيئة النوايا من تشويه سمعة مجتمع الهواة ككل، والتسبب في حظر أنشطتهم جميعاً بنهاية المطاف. وهو يشعر بأهمية ذلك نظراً لأنّ أعظم الاكتشافات العلمية قد انبثقت عادةً عن التفكير خارج الصندوق وسط بيئات غير مراقبة، حسب قوله.
إذ قال دابروا: "المخترقون البيولوجيون هم من كنا نصفهم بالعلماء في الماضي. ولم تعُد الأوساط الأكاديمية هذه الأيام تعجُّ بالعلوم الحقيقية أو الابتكارات التي كان يقدمها أمثال لينوردو دا فينشي. إنّ العلماء الحقيقيين هم أولئك الذين يملأون المرائب"، حسب تعبيره.
ويُردد بعض كبار العلماء نفس وجهة نظر دابروا، بعد أن سئموا البيروقراطية المرتبطة بتوفير التمويل اللازم للمشروعات التي يُفضلونها.
إذ قال ريتشارد مولر، عالم الفيزياء الأمريكي وأستاذ الفيزياء الفخري بجامعة كاليفورنيا: "إن أردت إنجاز اكتشافات مهمة عليك أن تعرف كيفية التحايل على المنظومة القائمة". إذ كشف مولر أنّه أعاد توجيه الأموال سراً من المشاريع الحاصلة على الموافقة لتمويل المشاريع المرفوضة الأكثر خطورة، وذلك خلال رسالةٍ بعثها إلى دورية Science العلمية عام 1980.
وصرّح مولر لصحيفة Financial Times البريطانية بأنّ ذلك الاعتراف أوقعه في مأزق، لكنه شعر بأنّه كان ملزماً بالإفصاح عن الممارسات غير المألوفة التي استخدمها لتوفير التمويل اللازم من أجل الاكتشافات التي حصد عنها العديد من الجوائز. وأوضح: "لذا يُمكننا القول إن تاريخ هذه الممارسات قديم. ويمكن اعتباري شخصياً أشبه بعلماء المرائب".
ويرى دابروا أنّ هذا النوع من الضغوط قد جعل ساحة الاختراق البيولوجي أكثر شبهاً بالساحة التي أحدثت ثورة الحوسبة داخل مرائب الطلاب المتسربين من الكليات، قبل أن تنتقل إلى وادي السيليكون، خلال السبعينيات والثمانينيات. لكن الفارق هذه المرة هو أنّه بدلاً من اختراق أنظمة الحاسوب، يتلاعب المخترقون البيولوجيون اليوم بالجينات.
وقد احتضن بعض مستثمري وادي السيليكون هذا النهج غير الرسمي للابتكار في علم الأحياء الدقيقة، إذ يرون فيه جزءاً لا يتجزّأ من حق الوصول العادل للعلاجات القائمة على الجينات. وهم يتفقون مع الرأي القائل إنّ الخلافات البيروقراطية حول التمويل والمنح ربما تُعيق عملية الابتكار أو تقودها باتجاه المخاطر الخاطئة.
"اكتساب الوظائف".. علماء يخلقون أمراضاً أكثر ضراوة
لطالما كانت محاولة تحقيق التوازن الصحيح لتجارب علمية تُشجّع على الابتكار دون زيادة المخاطر مهمةً بالغة الصعوبة في مجال علم الأحياء الدقيقة.
ومع ذلك، يقول مالك مجموعة Ergo الاستشارية آر بي إيدي إنّ توافر الأدوات الجينية الجديدة ربما قلب موازين المخاطر، لكن من الضروري ألا نصب كامل تركيزنا على مجال الاختراق البيولوجي.
إذ أوضح إيدي أنّ هناك أبحاثاً أكثر خطورة ولها "استخدامٌ مزدوج" محتمل يجري داخل المؤسسات الأكاديمية الرسمية منذ سنوات. ولا تعتمد الكثير من تلك الأبحاث على دراسة التقدم الجيني المعاصر، كما تجري وسط بيئات أقل انضباطاً مما يظن الكثيرون.
ويشمل هذا النوع من الأبحاث الأكثر خطورة أسلوباً بحثياً يُعرف باسم أبحاث "اكتساب الوظيفة". وتتضمن هذه الأبحاث التلاعب عن عمد بالفيروسات لجعلها أكثر عدوى، حتى يصير من الممكن دراسة اللقاحات والعلاجات المناسبة وتطويرها استباقياً.
وقد حظي هذا الأسلوب البحثي بتدقيقٍ دولي لأول مرة في نوفمبر/تشرين الثاني عام 2011، حين استخدمه عالم الفيروسات في جامعة إراسموس الهولندية رون فوشيه بنجاح لجعل إنفلونزا الطيور أكثر عدوى وقابلية للانتقال إلى البشر.
ولتخليق مسبب الأمراض شديد الفتك هذا أخذ فوشيه عينات من الإنفلونزا واستخدمها لحقن القوارض بالفيروس عدة مرات، ثم انتقى عينات من أكثر القوارض مرضاً لينقل العدوى منها إلى القوارض التالية في التجربة. وكانت بساطة هذه التجربة وقلة تكلفتها هي مصدر قلق الكثيرين.
وبالنسبة لسايمون واين-هوبسون، عالم الفيروسات المتقاعد، فإنّ المكاسب الوظيفية التي توصلنا إليها من تلك الأبحاث لم تكن تستحق المخاطر المنطوية عليها.
حلولٌ خطيرة
شهدت الأشهر الأخيرة زيادة تدقيقٍ في أنشطة أبحاث "اكتساب الوظائف" التي أُجرِيَت عقب تعليق أنشطة معهد ووهان لأبحاث الفيروسات، ومزاعم ارتباطه بأصول تفشي سارس-كوف-2. ومع ذلك، فقد أعاد التدقيق إحياء الجدالات القديمة حول مدى سلامة الأساليب المتبعة في أبحاث اكتساب الوظائف، وفوائدها، فضلاً عما إذا كان يجب تمويلها من القطاع العام.
وقد دفع هذا الغموض المحيط بالأمر بواين-هوبسون ليرى أنّ القوى التي تُجبر العلماء الهواة على التلاعب بمسببات أمراض يُحتمل أن تكون فتاكة في المرائب، هي نفس القوى الموجودة في مختلف أنحاء المجتمع العلمي. كما أنّ هذه القوى عادةً ما تختلق الأعذار أو تجد أساليبها المبتكرة للتحايل على القيود.
وأردف أنّ الناس يمكنهم دائماً العثور على "حلول قذرة" للتحايل على أكثر القوانين صرامة.
لكن المدافعين عن أبحاث اكتساب الوظائف يُقيمون حججاً مشابهة أيضاً. إذ يرون أنّه من الأفضل تمويل هذا النوع من الأبحاث وسط بيئةٍ رسمية، حيث يُمكن إخضاعها للرقابة والتأثير عليها بدلاً من حظرها ودفعها للتسرّب إلى المرائب غير الخاضعة للرقابة.
ويميل المسؤولون عن مراقبة التهديدات البيولوجية وإنفاذ معاهدة حظر الأسلحة البيولوجية إلى دعم الحلول من أسفل لأعلى، مثل تطوير قواعد السلوك وزيادة الوعي، لكن مشكلة هذا النهج أنّه تطوعي بحسب فيليبا لينزوس، عالمة الاجتماع.