تمثل الرقائق الإلكترونية أو أشباه الموصلات حجر الزاوية في تصنيع كل شيء تقريباً من الهواتف الذكية وأجهزة التلفزيون إلى السيارات وتوربينات الرياح، لكنها في الوقت نفسه تنتج انبعاثات كربونية هائلة تسبب التغير المناخي.
ومع تحول التغير المناخي إلى أمر واقع يدفع العالم كله ثمنه الباهظ بالفعل من طقس متطرف كالارتفاعات القياسية في درجات الحرارة والسيول والفيضانات وارتفاع منسوب البحار والمحيطات، وما يسببه ذلك من كوارث مميتة حول العالم كحرائق الغابات والفيضانات المدمرة، وجدت صناعة الرقائق الإلكترونية نفسها فجأة في قفص الاتهام.
وبعد أن أصبحت صور الفيضانات والحرائق تتصدر عناوين الصحف حول العالم، أصدر خبراء المناخ في الهيئة التابعة للأمم المتحدة توقعاتهم الجديدة بشأن مستقبل الكوكب، وهو ما مثل "جرس إنذار للجميع"، بحسب وصف ألوك شارما الوزير البريطاني ورئيس مؤتمر الأطراف الخاص بالمناخ والمنتظر عقده في بريطانيا نوفمبر/تشرين الثاني المقبل.
معضلة صناعة الرقائق الإلكترونية
في ظل هذا القلق العالمي المتزايد بسبب التغير المناخي، يواجه قطاع صناعة الرقائق الإلكترونية معضلة حقيقية، وتناولت صحيفة The Guardian البريطانية هذه القصة في تقرير لها بعنوان "قطاع صناعة الرقائق الإلكترونية لديه سر ملوث يتعلق بالمناخ"، ألقى الضوء على مأزق تلك الصناعة الحيوية وكيفية الخروج منها.
أما مصطلح التغير المناخي الذي أصبح يتردد طوال الوقت على لسان الجميع فهو إلى التغييرات طويلة المدى في الأحوال الجوية لكوكب الأرض. وتتمثل هذه التغييرات في الارتفاع الشديد لدرجة الحرارة وهطول الأمطار بغزارة مسببة فيضانات قاتلة، ويحدث هذا التطرف في الطقس بصورة متسارعة وربما في نفس الأماكن، مما يؤدي إلى موجات طقس حار وعواصف، وارتفاع منسوب المياه، والنتيجة باختصار هي نقص الغذاء.
وبالنسبة لقطاع صناعة أشباه الموصلات أو الرقائق الإلكترونية، فإن الطلب على رقائق السليكون يتزايد باطراد، وأشباه الموصلات تلك تدخل في صناعة كل شيء من الهواتف الذكية وأجهزة التلفاز إلى توربينات الرياح، لكن عملية تصنيعها لها تكلفة باهظة، إذ تُخلف انبعاثات كربونية هائلة.
لذلك فإن الصناعة تواجه معضلةً حقيقية. فتحقيق أهداف سياسات مقاومة التغير المناخي العالمي يعتمد، ولو جزئياً، على صناعة أشباه الموصلات. أشباه الموصلات جزء لا يتجزأ من المركبات الكهربائية، وأنظمة الطاقة الشمسية، وتوربينات الرياح. غير أن تصنيع الرقائق نفسه يُسهم في تفاقم الأزمة المناخية. ويتطلب الأمر قدراً كبيراً من الطاقة ومن المياه، ويُمكن أن تستهلك منشأة تصنيع الرقائق ملايين الغالونات من المياه يومياً، كما أنها تُنتج نفايات خطيرة.
وفيما تجد الصناعة الأضواء المسلطة عليها تتزايد باستمرار، تبدأ في محاولة السيطرة على الأثر الذي تتركه على المناخ. وفي الأسبوع الماضي تعهدت شركة تايوان لصناعة أشباه الموصلات TSMC المُصنع الأكبر للرقائق في العالم، والتي تُزود بالرقائق شركة Apple، بالوصول إلى صفر انبعاثات بحلول عام 2050. تهدف الشركة إلى "توسيع تأثيرنا الأخضر ودفع الصناعة نحو استدامة منخفضة الكربون" كما قال رئيسها مارك لوي.
إزالة الكربون ليس أمراً هيناً
تستهلك شركة TSMC وحدها نحو 5% من إجمالي استهلاك تايوان للكهرباء، وفقاً لأرقام منظمة Greenpeace، مع توقعات بأن تبلغ النسبة 7.2% عام 2022، واستهلكت نحو 63 مليون طن من المياه عام 2019 فقط.
وقد أصبح استهلاك الشركة من المياه مثار جدل خلال موسم الجفاف الذي ضرب تايوان هذا العام، والذي كان الأسوأ منذ نصف قرن، ما حرَّض المزارعين ضد الشركة.
أما في الولايات المتحدة، فقد أنتج مصنع واحد، مصنع Intel البالغة مساحته نحو 800 مترا مربع تقريباً والواقع في أوكتيلو بولاية أريزونا، حوالي 15 ألف طن من المخلفات في الشهور الثلاثة الأولى من العام الجاري 2021، 60% منها تقريباً مخلفات خطيرة. كما أنه استهلك 927 مليون غالون من المياه العذبة، ما يكفي لملء 1400 مسبح أولمبي، واستخدم 561 مليون كيلووات/ساعة من الطاقة.
وفضلاً عن استهلاك الطاقة واستهلاك المعدات، فإن تصنيع الرقائق "مسؤول عن أغلب انبعاثات الكربون" من الأجهزة الإلكترونية، وفقاً ليوديت غوبتا الباحث في جامعة هارفارد والذي شارك في كتابة ورقة بحثية عام 2020.
والآن يتضاعف التركيز على القطاع بسبب النقص في الرقائق الحديثة الذي فرضه ارتفاع الطلب على الإلكترونيات نتيجة إغلاق المصانع إثر تفشي وباء كوفيد.
وفي سوق ضيقة، وجد صانعو السيارات أنفسهم في مؤخرة قائمة انتظار الرقائق، خلف عملاء أشباه الموصلات الأكبر حجماً مثل Apple، الذين يستخدمون الرقائق لمنح القوة الحوسبية للهواتف الذكية، وأجهزة الكمبيوتر المحمول، وغيرها من الأجهزة. فأوقفت جنرال موتورز الإنتاج في العديد من مصانعها في أمريكا الشمالية في سبتمبر/أيلول الجاري، بينما قالت تويوتا إنها ستخفض صناعة السيارات بنسبة 40% في الشهر نفسه.
التوسع في خطط إنتاج الرقائق الإلكترونية
وفي محاولة لزيادة الإنتاج دشنت العديد من الدول برامج كبرى لتعزيز الصناعة. يقترح قانون Chips for America تمويلاً بقيمة 52 مليار دولار على مدى خمس سنوات لصناعة أشباه الموصلات في الولايات المتحدة.
أما الاتحاد الأوروبي فقد أصدر تشريعاته الخاصة التي تهدف إلى زيادة حصته في سوق الرقائق العالمية إلى 20% بحلول عام 2030. ووصفتها رئيسة المفوضية الأوروبية، أورسولا فون دير لاين في خطابها عن حالة الاتحاد الأوروبي الأسبوع الماضي، بأنها "مسألة سيادة تقنية".
غير أن هذه الطموحات قد تأتي في مواجهة محتملة مع الأهداف المناخية الدولية. يهدف كل من الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة إلى الوصول إلى منتصف الطريق نحو صافي انبعاثات كربونية يقترب من الصفر بحلول عام 2030، وإلى الصفر بحلول عام 2050. لكن مع نمو صناعة أشباه الموصلات، فسيتنامى كذلك أثرها الكربوني.
ومع ذلك، فإنه وسط ضغوط من المستثمرين وصناع الإلكترونيات الحريصين على إبلاغ العملاء عن سلاسل توريد أكثر مراعاة للبيئة، يعمل قطاع أشباه الموصلات على تكثيف إجراءات معالجة أثره المناخي. وقالت سوهيني داسغوبتا، مهندسة التصميم الرئيسية في شركة ON لصناعة أشباه الموصلات، للغارديان: "مؤخراً بدأت أرى آثارنا على البيئة تتصدَّر خط المواجهة".
وتقول إنه منذ سنتين كانت الصناعة "تقف على الحياد في منتصف الصراع. نعم الاستدامة أمر مهم، لكننا لا نعلم ماذا نفعل حيال ذلك الأمر". لكنها الآن ترى حراكاً، وتقول: "كل يوم يظهر لنا في بريدنا الإلكتروني ما تفعله شركاتنا، وما تفعله غيرها من الشركات".
ويعتبر هذا الارتفاع الصاخب في أصوات ناشطي البيئة والمناخ مبرراً تماماً، في ظل ما يشهده العالم من كوارث مناخية بصورة يومية، وفي ظل تقارير تتحدث عن وجود دول ومناطق، منها الإمارات ومنطقة الخليج، مهددة بأن تصبح خلال عقود غير صالحة للعيش فيها من الأساس.
كيف يمكن مواجهة كارثة التغير المناخي؟
وفقاً لمارك لي، مُحلل قطاع أشباه الموصلات في مؤسسة Bernstein الاستثمارية، فإن بروز أفكار الاستثمار الأخلاقي كان لها دورها. يتزايد تسويق مديري التمويل لمبدأ "التمويل الأخضر" ويسأل المستثمرون أسئلة أكثر حول التأثيرات البيئية والاجتماعية والحوكمية (ESG) للشركات. يقول لي: "خلال السنوات الثلاث الماضية ارتفعت أصوات المستثمرين المهتمين بـ(ESG) أكثر من أي وقت مضى". مُضيفاً أن ذلك غيَّر من سلوكيات الشركات.
كما يساعد توافر الطاقة المتجددة بشكل أكبر صانعي الرقائق على تقليل انبعاثات الكربون الخاصة بهم. التزمت Intel بتوفير 100% من طاقتها من مصادر متجددة بحلول عام 2030، كما تعهدت TSMC بالمثل، ولكن بحلول عام 2050.
قالت المتحدثة باسم TSMC، نينا كاو، إن استهلاك الطاقة يمثل 62% من الانبعاثات التي تتسبب فيها الشركة. وقد وقَّعت الشركة عقداً العام الماضي مع شركة الطاقة الدنماركية Ørsted لمدة 20 عاماً، لشراء كل الطاقة من مزرعة رياح بحرية بقدرة 920 ميغاوات تبنيها Ørsted في مضيق تايوان.
وقال شاشي بارلا، محلل مصادر الطاقة المتجددة في شركة Wood Mackenzie لاستشارات الطاقة، إن الصفقة، التي وُصفت بأنها أكبر اتفاقية شراء للطاقة المتجددة للشركات في العالم، لها فوائدها لشركة TSMC. وأضاف أنه بالإضافة إلى ضمان إمداد نظيف بالكهرباء، فإن الشركة تدفع تكلفة الجملة وتقي نفسها صدمات الأسعار، "وتقتل عصفورين بحجر واحد".
وقال كليفتون فونستاد، أستاذ الهندسة الكهربائية وعلوم الكمبيوتر في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، إن تصرفات TSMC لديها القدرة على التأثير على بقية القطاع، قائلاً إنه "من المرجح أن تحذو الشركات المصنعة الأخرى حذوها".
بالإضافة إلى التحول إلى مصادر الطاقة المتجددة، يُمكن لصانعي الرقائق أيضاً رفع الفاعلية في المصانع، كما قال بيتر هانبري، خبير تصنيع أشباه الموصلات في شركة الاستشارات الإدارية Bain & Company. وقال إن المصنع هو أساساً "مستودع ضخم بداخله غرفة نظيفة"، ولخفض الانبعاثات، فإن "الجزء السهل هو المنشأة نفسها".
يُمكن لهذه المصانع أن تكون أكثر فاعلية في تنظيم الهواء والماء والحرارة والرطوبة والضغط. يُمكنها تقسيم المصانع بحيث يكون لدى أحد خطوط الإنتاج ضغط عالٍ، بينما يكون الضغط منخفضاً في خط آخر، ما سيُقلل من استهلاك الطاقة ويُبقي المنشأة بأكملها في حالة من الضغط العالي.
كما يُمكنهم جمع المزيد من البيانات واستخدام تقنيات تعلم الآلة لإطفاء المعدات حين لا تكون قيد الاستخدام، كما تقول هويلي غريس شينغ أستاذة الهندسة بجامعة كورنيل، والتي تعمل على المواد شبه الموصلة.