الطعنة التي تلقتها فرنسا من الولايات المتحدة عبر إلغاء صفقة بيع الغواصات الفرنسية إلى أستراليا واستبدالها بصفقة غواصات أمريكية بريطانية نووية، قد يكون لها انعكاسات على الشرق الأوسط.
وأعلنت فرنسا استدعاء سفيريها من الولايات المتحدة وأستراليا بعد الإعلان عن صفقة بيع غواصات أمريكية بريطانية عاملة بالطاقة النووية، بدلاً من صفقة غواصات أبرمتها فرنسا مع أستراليا تبيع بموجبها باريس لكنبيرا 12 غواصة عاملة بالديزل، الأمر الذي أصاب فرنسا بالغضب الشديد، لدرجة سحب سفيريها من واشنطن وكنبيرا.
الصفقة عمقت شكوك فرنسا بشأن المؤامرة الأمريكية البريطانية
يُطلق على الاتفاق الجديد اسم "أوكوس" AUKUS وينطوي على تلقى أستراليا لتكنولوجيا غواصات تعمل بالطاقة النووية. ومن المفهوم أن الاتفاق يأتي كوسيلة لتقوية أستراليا، التي تعد أحد الحلفاء الرئيسيين للولايات المتحدة وبريطانيا، في مواجهة الصين. ومع ذلك، يبدو أن الاتفاق يتعارض مع صفقة أخرى بين فرنسا وأستراليا، بالإضافة إلى أن الإعلان عنه جاء بلا أي اطلاعٍ مسبق لفرنسا أو غيرها من الحلفاء الأوروبيين.
كما أن الاتفاق الجديد يقوم بالأساس على تحالفات سابقة تنطوي عليها شبكة "الأعين الخمس" الاستخباراتية الحالية التي تضم دولاً مرتبطة بعلاقات تاريخية مع المملكة المتحدة، وإن كانت كندا ونيوزيلندا، العضوتان في تحالف "الأعين الخمس"، ليستا مشاركتين في صفقة أوكوس.
وتعد شراكة بريطانيا مع الولايات المتحدة في الصفقة مصدر إزعاج آخر لفرنسا، بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي وتبني جونسون لاستراتيجية "بريطانيا العالمية" التي تستهدف إلى حد كبير منطقة المحيطين الهندي والهادئ.
عمقت هذه الصفقة الشكوك الفرنسية القديمة بشأن عصابة من الناطقين بالإنجليزية تنتشر حول العالم تسعى لتحقيق مصالحها الخاصة مع استبعاد فرنسا.
يأتي الاتفاق أيضاً ليظهر الخلاف بين فرنسا وأمريكا بشأن الصين، فأحد خيارات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الرئيسية هي ألا تنجرف فرنسا في المواجهة القاسية المتزايدة بين الصين والولايات المتحدة.
بدلاً من ذلك، يريد ماكرون من فرنسا أن تقود الاتحاد الأوروبي نحو مسار وسط بين القوتين العظميين، مما يدل على "الاستقلال الاستراتيجي الأوروبي" في صميم رؤيته. لقد تحدث عن أوروبا المستقلة التي تعمل "بجانب أمريكا والصين".
كيف ستنعكس الصفقة الأسترالية على الشرق الأوسط؟
لطالما كان التعاون وثيقاً بين الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وأستراليا فيما يتعلق بسياسات منطقة الشرق الأوسط.
فقد كانت المملكة المتحدة حليفاً رئيسياً للولايات المتحدة في حربي العراق وأفغانستان. وكانت أستراليا والولايات المتحدة داعمتين أشد لإسرائيل على مر السنين، كما أن الزعيم البريطاني الحالي شخصية مقربة من إسرائيل، حسبما ورد في تقرير لصحيفة The Jerusalem Post الإسرائيلية.
على الجانب الآخر، فإن فرنسا لها أدوار بارزة في المنطقة، لكن سياساتها تتعارض أحياناً مع الدور الأمريكي.
على سبيل المثال، ليست مصالح فرنسا في لبنان متماثلة دائماً مع مصالح الولايات المتحدة. فقد أبدت فرنسا مرونة في المحادثات مع حزب الله. كما حضرت الاجتماع الأخير في بغداد، والذي حضرت فيه تركيا وإيران ودول رئيسية أخرى في الإقليم، على خلاف الولايات المتحدة والمملكة المتحدة اللتين لم تحضرا هذا الاجتماع.
فرنسا تريد أن تكون بديلاً لأمريكا في المنطقة، فهل تستطيع؟
وتوضح هذه التحركات أن فرنسا تريد أن تضطلع بدور أبرز في الشرق الأوسط في الوقت الذي قد تكون فيه الولايات المتحدة وبريطانيا بصدد تغيير سياساتهما في المنطقة.
فالولايات المتحدة تريد التركيز على منافسيها الألد مثل الصين. وبطبيعة الحال، يقتضي ذلك استثمارات كبيرة في القوة البحرية. كما يعني تقليص الولايات المتحدة لسياساتها المتعلقة بمكافحة الإرهاب في الشرق الأوسط بعد مغادرة أفغانستان.
قد يؤثر تراجع الدور الأمريكي في الشرق الأوسط وصعود الدور الفرنسي على التوازن، في المنطقة، وقد يزداد هذا التأثير إذا حاولت باريس الانتقام من واشنطن ولو قليلاً عبر تقوية علاقتها مع خصم أمريكا "إيران"، أو على الأٌقل قد تؤدي رغبة واشنطن في امتصاص غضب باريس إلى تجاوبها مع بعض المساعي الفرنسية لحل أزمة لبنان الأمر الذي قد يخفف الخناق حول حزب الله.
وتشير صحيفة The Jerusalem Post بالفعل، إلى تأثيرات متوقعة بالنسبة لإسرائيل، فيما يتعلق بالأساس بما تعتبره تل أبيب تهديدات إيرانية مباشرة في أماكن مثل سوريا أو تهديدات بالوكالة مثل حزب الله اللبناني وأيضاً المجموعات المدعومة من طهران في اليمن والعراق.
إذ لما كانت هذه المجموعات لديها الآن تكنولوجيا الطائرات المسيَّرة الإيرانية المتقدمة، فقد يكون للتحول في العلاقات الأوروبية والفرنسية مع الولايات المتحدة وبريطانيا في المنطقة تداعيات على إسرائيل إذا تساهلت الدول الأوروبية إلى تعزيز التعامل مع إيران وتخفيف حدة المواقف من ميليشياتها.
كما أن هذا الخلاف قد يكون له تداعيات على محادثات الاتفاق النووي بين القوى الغربية وإيران.
حدود الثأر الفرنسي
ولكن الملاحظ أنه سيظل هناك محدودية لقدرات الانتقام الفرنسي عبر تعزيز العلاقات إيران، فحتى عندما أراد الاتحاد الأوروبي الاستمرار في العلاقات التجارية مع إيران بعد انسحاب ترامب من الاتفاق النووي، عصت الشركات الأوروبية حكوماتها ورفضت مواصلة علاقتها مع طهران خوفا من العقوبات الأمريكية.
فرغم وعود الاتحاد الأوروبي بالاستمرار في الاتفاق والعمل على حماية الشركات الأوروبية التي تتعامل مع إيران، ولكن الشركات الأوروبية لم تكن على استعداد لأن تقع تحت مقصلة العقوبات الأمريكية، حتى لو لم تكن لها تعاملات كبيرة مع الولايات المتحدة الأمريكية، لأن العقوبات الأمريكية على التحويلات بالدولار يمكن أن تدمر أي شركة حتى لو تكن تتعامل مع واشنطن بشكل كبير.
والمثال على ذلك شركة بيجو الفرنسية للسيارات التي ليس وجود تقريباً في الولايات المتحدة، بينما يعتبر السوق الإيراني مهماً لها للغاية، ورغم ذلك انسحبت منه خوفاً من مقصلة العقوبات الأمريكية.
وبالنظر إلى أن الخلاف الحالي فرنسي أمريكي بريطاني بالأساس، والدول الأوروبية الأخرى تحاول تجنب التورط فيه على ما يبدو، فإن قدرة فرنسا على تشكيل تحد للسياسة الأمريكية في المنطقة تظل محدود، وذات أثر تكتيكي في الأغلب.