أصدرت فرنسا بياناً يُندد بالانقلاب العسكري في غينيا، لكن باريس لم تفرض عقوبات أو توقف التعاون العسكري والاقتصادي مع كوناكري، فهل تواطأت فرنسا للإطاحة بصديق الصين؟
وشهدت غينيا، إحدى المستعمرات الفرنسية السابقة في إفريقيا، انقلاباً عسكرياً السبت 5 سبتمبر/أيلول الجاري، قام به العقيد مامادي دومبويا قائد القوات الخاصة، الذي بث بنفسه بيان الانقلاب عبر الإذاعة والتلفزيون الحكومي، ليعلن اعتقال الرئيس ألفا كوندي وحلّ المؤسسات وتعطيل الدستور.
وبذلك تكون غينيا هي الدولة الإفريقية الثالثة التي تشهد انقلاباً عسكرياً خلال الأشهر القليلة الماضية، بعد تشاد ومالي، وجميعها مستعمرات فرنسية سابقة، ما يثير تساؤلات عميقة حول ما يحدث في تلك الدول وأسبابه وتداعياته، وسط أحاديث عن صراعات بين الدول الكبرى للاستيلاء على الثروات الطبيعية الهائلة في تلك الدول.
ولأن فرنسا هي المستعمر السابق لتلك الدول ولا تزال تهيمن على شؤونها السياسية بشكل كبير، من الطبيعي أن يكون موقف باريس من تلك الانقلابات تحت المجهر. واللافت هنا هو التباينات الصارخة في رد فعل فرنسا تجاه تلك الانقلابات، ما بين التأييد كما في حالة تشاد والتنديد بشدة كما في حالة انقلاب مالي الأخير، فماذا عن موقف باريس من انقلاب غينيا؟
باريس تدين الانقلاب دون "فرض عقوبات"
عند وقوع الانقلاب في غينيا كانت باريس من أولى العواصم المنددة به، حيث أصدرت الخارجية الفرنسية بياناً جاء فيه أنها "تدين محاولة الاستيلاء على السلطة بالقوة" في غينيا، وتدعو إلى "الإفراج الفوري وغير المشروط عن الرئيس ألفا كوندي".
لكن فرنسا، حتى الآن بعد مرور 9 أيام على الانقلاب، لم تفرض أي عقوبات على الانقلابيين في كوناكري، رغم أن مستعمرتها السابقة تخضع لنفوذها، ولم تجمد تعاونها العسكري معهم، مثلما فعلت قبل أشهر في انقلاب مالي.
من الناحية الرسمية المعلنة، تقف فرنسا إذن في صف الرافضين للانقلاب في غينيا، لكن كواليس المشهد السياسي والاقتصادي في البلاد تكشف جانباً مختلفاً تماماً من القصة.
وأولى جوانب تلك الكواليس يتعلق بالجنرال الفرنسي برونو كليمان بوليه، الذي كان يشرف على إعادة هيكلة الجيش الغيني بطلب من الرئيس المخلوع ألفا كوندي. وكان كوندي يثق بالجنرال الفرنسي بوليه أكثر من ثقته بقادة جيشه، خاصة من ذوي الرتب المتوسطة، بحسب تلميحات العقيد ديمبويا قائد الانقلاب.
وهنا تظهر تساؤلات تتعلق بالجهة التي وفرت الإمكانات اللازمة للقوات الخاصة وقائدها دومبويا، التي نفذت الانقلاب واعتقلت الرئيس، فهل يعلم الجنرال الفرنسي بوليه تلك الإمكانات التي بفضلها نجح الانقلاب، سواء بقصد منه أو من دون قصد؟
أما الجانب الآخر فيتعلق بعلاقة فرنسا بالرئيس المخلوع كوندي نفسه، إذ شككت باريس في نزاهة الانتخابات الرئاسية التي فاز فيها كوندي بولاية رئاسية ثالثة في 2020.
ووصف الإعلام الفرنسي ما حدث في غينيا في 2020 بأنه "انقلاب دستوري"، خاصة بعد سقوط عشرات القتلى من المتظاهرين الرافضين لتعديل الدستور، الذي يمنع كوندي من الترشح لأكثر من ولايتين رئاسيتين.
من هو دومبويا قائد الانقلاب؟
ربما تكون السيرة الذاتية لدومبويا، قائد الانقلاب، وعلاقته بفرنسا جانباً آخر يعمق ليس فقط التساؤلات ولكن الشكوك أيضاً بشأن احتمال وجود دور فرنسي خفي في أحدث الانقلابات في واحدة من مستعمراتها الإفريقية السابقة.
فمن المفارقات أن قائد الانقلاب العقيد مامادي دومبويا، من الرجال الذين خدموا في الجيش الفرنسي طيلة 15 سنة، في الفوج 25 من الفيلق (اللفيف) الأجنبي، لكنه قبل مغادرته في 2018 لتولي قيادة القوات الخاصة في بلاده ألقى خطاباً أمام حشد من الضباط، انتقد فيه النفوذ الفرنسي على بلاده، وعنصرية الرجل الأبيض.
وقال ديمبويا، المتزوج من فرنسية تعمل في الدرك الوطني، "إن البيض يسيطرون على السلطة، ولا يمكن لنا الوصول إليهم. على سبيل المثال، طلبت في العام الماضي (2017) ذخيرة لتدريب قواتي على إطلاق النار، لكنني لم أحصل عليها أبداً، لأن قادتي يخشون أنْ أستخدمها لإثارة انقلاب"، بحسب تقرير للأناضول.
وتحمل كلمات ديمبويا، قبل 3 سنوات، سخطاً على سلطات بلاده التي كان يقودها الرئيس ألفا كوندي، الذي يثق في الضباط الفرنسيين أكثر من الضباط الوطنيين، ويحرمهم من الذخيرة خشية أن يستعملوها في قيادة انقلاب، وهو ما حدث فعلاً.
فديمبويا، رغم استيائه الشديد من العنصرية التي يتعامل بها كوندي مع زملائه الفرنسيين مقارنة بهم، فإنه كان ممتناً لهم، لأنه تمكن عبرهم من الحصول على الذخيرة والوسائل التي مكنتهم فيما بعد من قيادة انقلاب عسكري ناجح، وهزيمة الحرس الرئاسي، الذي سبق له أن تصدى لمحاولة اغتيال الرئيس في 2011.
وبحسب ما نقلت عنه صحيفة "موندافريك" الفرنسية، يوضح العقيد ديمبويا، أن "الفرنسي الذي يأتي لتوفير التدريب لنا سيتلقى على الفور كل ما يحتاجه من حكومتنا، لذلك نحن سعداء بوصولهم (المدربين الفرنسيين) الذي يسمح لنا بتدريب قواتنا، لكننا منزعجون لرؤية أننا لا نستطيع ممارسة مهنتنا في ظروف جيدة، على عكس الأجانب الذين يفعلون ذلك من أجلنا".
إلا أن ديمبويا حظي بعد ذلك بدعم من الرئيس كوندي، واستدعاه من الجيش الفرنسي ليقود القوات الخاصة الغينية. فقائد الانقلاب لم يكن سوى ضابط صف برتبة عريف في الجيش الفرنسي، قبل أن يستدعيه كوندي، ويرقيه بسرعة عجيبة إلى أن وصل إلى رتبة عقيد خلال ثلاثة أعوام فقط.
والسر في ذلك قد يعود إلى أن ديمبويا ينحدر من قبيلة مالينكي، التي ينتمي إليها كوندي، التي تمثل خزّانه الانتخابي. لكن كوندي على الأغلب لم يتوقع أن الرجل الذي صنع منه ضابطاً كبيراً لحماية حكمه من أي انقلاب، سيكون الرجل الذي سيطيح به.
قطع الطريق على استثمارات الصين في غينيا
ويظل الاقتصاد والموارد الطبيعية التي تتمتع بها الدول الإفريقية هي مربط الفرس ولب الصراع الذي لا يتوقف بين الدول الكبرى للاستفادة من تلك الثروات، بحسب غالبية المراقبين والمحللين.
فخلف الغضب الفرنسي من الرئيس الغيني المخلوع كوندي أسباب اقتصادية غير تلك السياسية المعلنة، فالرجل فضل صداقة الصين على فرنسا، وكان يعتزم تسليم بكين رخص استغلال أحد أكبر مناجم الحديد في العالم، بعد تنازل ملياردير فرنسي-إسرائيلي عن حقوقه فيه إثر فضيحة فساد.
فغينيا بلد غني بالموارد الطبيعية، تتصارع عليها دول كبرى، رغم أن عدد سكانها لا يتجاوز 14 مليون نسمة، 85% منهم مسلمون، وناتجها المحلي لا يتجاوز 12.6 مليار دولار (صندوق النقد الدولي/ 2019).
لكن موقعها استراتيجي، حيث تطل على المحيط الأطلسي، ومحاذية لمنطقة الساحل الإفريقي الملتهبة أمنياً من جهة جنوب مالي، كما لا يفصلها عن موريتانيا من الجانب الأطلسي سوى غينيا بيساو والسنغال وغامبيا.
ولا تملك غينيا ثاني أكبر احتياطي من البوكسيت في العالم الذي يستخرج منه الألومنيوم وحسب، بل لديها منجم سيماندو، أحد أكبر مناجم الحديد عالمياً، وتبلغ احتياطاته 2.4 مليار طن ولا يتفوق عليه إفريقياً سوى منجم غار جبيلات بالجزائر (3.5 مليارات طن).
هذه الإمكانات المنجمية الهائلة في بلد لا تتجاوز مساحته 246 ألف كلم مربع، دفعت البعض لتلقيبه بـ"المعجزة الجيولوجية"، وهذا ما يفسر التنافس بين عدة أطراف وعلى رأسها فرنسا وإسرائيل والصين على حقوق استغلال منجم سيماندو لخام الحديد، الواقع في الجنوب الشرقي لغينيا على الحدود مع سيراليون.
وتمكن الملياردير الإسرائيلي الحامل للجنسية الفرنسية بني شتاينميتز، من إزاحة المجموعة الأنجلو-أسترالية من المنافسة، واستحوذ على حقوق استغلال منجم سيماندو ما بين 2005 و2010.
لكن انتخاب ألفا كوندي رئيساً للبلاد لأول مرة في 2010، بعد نصف قرن من الحكم الديكتاتوري، دفعه لتجميد رخص الاستغلال الممنوحة للملياردير الفرانكو-إسرائيلي، بسبب شبهة فساد. واتضح فيما بعد أن الملياردير الفرانكو-إسرائيلي متهم بتقديم رشوة بقيمة 10 ملايين دولار لإحدى زوجات الرئيس السابق لانسانا كونتي (1984-2008).
وفي 2019 اتفق نظام كوندي مع الملياردير "بيني" على التخلي عن المشروع مقابل إسقاط تهم الفساد عنه، إلا أن الادعاء السويسري واصل متابعته قضائياً. وفي ظل هذا الفراغ استغلت مجموعة شركات صينية الفرصة، واقتحمت السوق الغينية بثقلها، وحصلت على رخص لاستغلال بعض أجزاء منجم سيماندو، الذي تقدر تكلفته الأولية بنحو 9 مليارات يورو، تتضمن أيضاً إنشاء سكة حديدية لنقل خام الحديد من المنجم إلى ميناء سيتم إنجازه أيضاً.
كما عززت الصين نفوذها في غينيا بدعم من كوندي، الذي فتح أبواب بلاده للاستثمارات الصينية، ما أثار حفيظة فرنسا، التي مازالت تهيمن على البلاد سياسياً وعسكرياً، لكنها تخسر أمام بكين اقتصادياً. فمنجم سيماندو يمثل أهمية استراتيجية لعدة قوى عالمية، ومعركة اقتصادية تقودها الولايات المتحدة وحلفاؤها الأوروبيون لمنع الصين من التمدد في إفريقيا.
ووفقاً لما نقله موقع "فرانس أنفو"، من دراسة للباحثة البريطانية لورين جونستون، فإن "استخراج احتياطيات سيماندو من خام الحديد من شأنه أن يحول السوق العالمية، ويدفع غينيا إلى قوة تصدير خام الحديد إلى جانب أستراليا والبرازيل".
فالصين تستورد مليار طن من الحديد الخام، ثلثاه من أستراليا، واستغلال حديد غينيا سيؤدي إلى تخلص بكين من التبعية لحديد أستراليا، ويخفض من أسعاره الدولية، ما يقلص تكلفة المنتجات الصينية ويقوي من تنافسيتها في الأسواق الدولية.
بينما تحاول فرنسا ومن ورائها الولايات المتحدة حرمان الصين من هذه الجائزة، لذلك فإن الانقلاب الذي أطاح بكوندي، الصديق الوفي لبكين، يصب في مصلحة باريس وواشنطن. فكما أدى صعود كوندي إلى السلطة في الإطاحة بالاستثمارات الفرنسية الإسرائيلية في سيماندو، فإن الانقلاب عليه قد يطيح أيضاً بالاستثمارات الصينية في مناجم الحديد بالبلاد، وهذا ما تأمله باريس.