يختلف تعامل الحكومات حول العالم مع الرافضين لتلقي لقاحات كورونا، لكن يبدو أن "الإجبار" سيكون الخيارَ الحتمي في نهاية المطاف، وهذا ما كشف عنه التغيير الجذري في موقف الرئيس الأمريكي جو بايدن.
وتعتبر نظريات المؤامرة والمعلومات المضللة أبرز السمات التي ارتبطت بوباء كورونا منذ تفشيه في الصين ثم تحوُّله لجائحة عالمية مطلع العام الماضي (2020)، وتواصلت نظريات المؤامرة، مع التوصل للقاحات قبل نحو 10 أشهر، وهو ما نتج عنه رفض قطاع من المواطنين تلقي اللقاحات لأسباب متنوعة، أبرزها الخوف من الأعراض الجانبية.
وعلى الرغم من التفاوت الكبير بين الدول الغنية والفقيرة في القدرة على توفير جرعات اللقاح الكافية لمواطني كل منها، فإن فئة الرافضين لتلقي اللقاح موجودة في جميع الدول تقريباً، وتختلف طريقة التعامل مع هؤلاء من دولة لأخرى.
كيف تتعامل دول العالم مع رافضي اللقاحات؟
"أنت تختار.. اللقاح أو السجن. إذا رفضت، فسأحقنك بإيفرمكتين المخصص للخنازير"، ربما تكون تلك التهديدات المباشرة التي وجهها رئيس الفلبين دوتيرتي -الملقب بترامب الفلبين- للمواطنين الرافضين تلقي لقاحات كورونا، من بين الأكثر حدة في هذا الصدد.
وكان سبب تهديدات دوتيرتي، التي ترجع إلى أواخر يونيو/حزيران الماضي، إلى تباطؤ وتيرة التطعيم في البلاد بصورة لافتة، فمن بين 110 ملايين نسمة، لم يكن قد تلقى التطعيم سوى أقل من مليوني فلبيني، رغم توافر الجرعات.
لكن دولاً أخرى درست بالفعل توقيع عقوبات صارمة على مواطنيها الذين يهربون من تلقي لقاحات فيروس كورونا، بهدف الحد من انتشار الوباء والحفاظ على المتعافين، فإندونيسيا، على سبيل المثال، فرضت غرامات على الممتنعين عن التطعيم تقدَّر بأكثر من راتب شهر.
وفي البرازيل أصدرت المحكمة العليا حكماً قضائياً بعدم السماح للأشخاص الذين يرفضون تلقي لقاح كوفيد-19 بممارسة بعض الأنشطة والوصول إلى الأماكن العامة.
بينما قررت سنغافورة أن تكون عقوبة من يمتنع عن تلقي اللقاح هي الحرمان من اللقاح، إذ هددت السلطات بعدم حجز الجرعات للأشخاص الذين يرفضون التلقيح، وفي كوريا الجنوبية قالت السلطات إن الأشخاص الذين سيتخطون دورهم في التطعيم سيتم وضع دورهم بآخر الصف.
وكانت شركة إيبسوس، المتخصصة في استطلاعات الرأي، قد أجرت استطلاعاً في يونيو/حزيران الماضي في 15 دولة حول العالم، أظهر أن شخصاً من كل 5 أشخاص يرفض تلقي اللقاح؛ خوفاً من الآثار الجانبية، وبسبب التجارب السريرية المتسارعة.
كيف تغيرت لهجة بايدن نحو رافضي اللقاح؟
أما في الولايات المتحدة الأمريكية، فقد تبنى الرئيس جو بايدن لغة هادئة فيما يتعلق بلقاحات كورونا، مركزاً على ضرورة إقناع الرافضين للقاح ومعتنقي نظريات المؤامرة، في حرص واضح على عدم تعميق الانقسام في بلد بات فيه الانقسام الحزبي السمةَ الرئيسية.
وكان الرئيس السابق، دونالد ترامب، من أكثر زعماء العالم نشراً للمعلومات المضللة بشأن وباء كورونا منذ اللحظة الأولى، ويبدو أن الرافضين لتلقي اللقاح، بحسب ما تظهره استطلاعات الرأي، في أغلبهم، من أنصار ترامب من اليمين المتطرف، وكان ذلك أحد الأسباب الرئيسية التي جعلت بايدن يبتعد عن اللغة الحادة في تشجيعه الأمريكيين على تلقي اللقاحات، بحسب مراقبين.
لكن لغة بايدن تغيرت بشكل درامي خلال الأيام القليلة الماضية، ووصل الأمر إلى دعوته الشركات الخاصة والنقابات العمالية في البلاد إلى اتخاذ "إجراءات عقابية" بحق من يرفضون اللقاح.
وتناول تقرير لمجلة Politico الأمريكية هذا التحول في تقرير بعنوان "حان الوقت أخيراً: بايدن يشدد الخناق على من لم يتلقوا اللقاح"، رصد كيف أن بايدن قد غيّر أخيراً من طريقة "المهادنة والإغراء" إلى طريقة "العصا" في تعامله مع الفئة الرافضة للقاحات.
ففي ظل الارتفاع الواضح في أعداد المصابين خلال الأسابيع الماضية، رغم الاقتراب من تطعيم الغالبية من البالغين في الولايات المتحدة، وبالتزامن مع تراجع شعبية بايدن بسبب الانسحاب الكارثي من أفغانستان، شدد الرئيس من لهجته وبدأ ينتهج أسلوباً أكثر حزماً مع الرافضين للقاحات.
ففي تصريحات صحفية من البيت الأبيض، الخميس 9 سبتمبر/أيلول، انتقد بايدن بشدةٍ رافضي اللقاحات، وقال إن "الإجراءات العقابية ستكون نتيجة طبيعية لمن يرفضون احترام القواعد الصحية"، مضيفاً أن "هؤلاء يتلاعبون بلقاحات تحمي من الوفاة ويعرّضون حياة أُسرهم وزملائهم في العمل للخطر".
وأعلن بايدن مجموعة من "الأمور الإلزامية، سيتم تطبيقها على جميع العاملين في الحكومة الفيدرالية وحتى الشركات الخاصة التي لديها أكثر من 100 موظف"، ومن لم يلتزم "ستوقَّع عليهم غرامات".
وعلق بول ماسلين، استشاري استطلاعات الرأي، على ما أعلنه بايدن، بالقول إن "الرئيس استخدم أقصى صلاحياته كي يواجه العدو الحقيقي. والعدو الحقيقي يتمثل في أحد أجنحة معارضي الرئيس"، في إشارة إلى الجمهوريين من أنصار ترامب، مضيفاً: "بايدن يقول الآن إنه أصبح حاسماً معهم، وهذا ما يعتبر موقفاً جاء في وقته".
هل يستطيع بايدن تنفيذ تهديداته لرافضي اللقاح؟
لكن إجراءات بايدن الإلزامية والتهديد بفرض عقوبات واجهتهما عاصفة من الرفض والانتقاد من جانب كثير من المسؤولين الجمهوريين، مشرّعين وحكام ولايات، ووصل الأمر إلى ساحات المحاكم.
وتناول تقرير لموقع Vox الأمريكي هذه الزاوية، في تقرير بعنوان "هل متطلبات بايدن الجديدة بشأن اللقاح غير قانونية؟"، رصد فيه مواقف الجمهوريين الرافضين لها، وخلص التقرير إلى أن "إجراءات بايدن على الأرجح قانونية، لكن هذا لا يعني أن القضاء الذي يميل إلى الجمهوريين سوف يمررها".
ويتركز رفض الجمهوريين لما أعلنه بايدن على الجزئية المتعلقة بالشركات الخاصة، وتدخل وزارة العمل الفيدرالية لفرض قواعد معينة، على تلك الشركات الالتزام بها، إذ قال بايدن إن "وزارة العمل تجهز حالياً قواعد طارئة تتطلب من الشركات التي يعمل فيها 100 موظف أو أكثر، وتلك الشركات يعمل فيها أكثر من 80 مليون أمريكي، إما إلزام الموظف بتلقي اللقاح وإما إجراء فحص كورونا كل أسبوع".
وكان لافتاً أن رد الفعل المباشر جاء من جانب بعض حكام الولايات الجمهوريين، الذين هددوا باللجوء إلى القضاء لرفض تدخل وزارة العمل الفيدرالية في شؤون الشركات الخاصة، وهو ما يشير إلى مدى تسييس كل ما يتعلق بالوباء واللقاحات، إذ لم تبدِ أي من الشركات الخاصة اعتراضاً على ما أعلنه الرئيس الديمقراطي.
ما تأثير إجبار رافضي اللقاح على تلقيه؟
الجدل المشتعل حالياً في أروقة السياسة الأمريكية بشأن كيفية التعامل مع الرافضين لتلقي لقاحات كورونا، يعيد طرح القضية التي صاحبت التوصل للقاحات كورونا منذ أواخر العام الماضي.
فمنظمة الصحة العالمية، منذ البداية، كانت تحذّر الدول من اللجوء إلى أي إجراءات عقابية بحق من يرفضون تلقي اللقاحات، على أساس أن ذلك سيعمق المشكلة وربما تزيد أعداد تلك الفئة من المؤمنين بنظريات المؤامرة.
لكن مع عودة الإصابات للارتفاع في الدول التي وفرت اللقاحات لأغلب مواطنيها، بسبب تفشي سلالة دلتا الهندية من الفيروس وهي أكثر سرعة في الانتشار، يبدو أن طريقة التعامل مع الرافضين للقاحات بدأت في التغير بشكل واضح، حتى في الدول الغربية والولايات المتحدة، حيث يتمتع المواطنون بحقوق دستورية تحفظ حقهم في الاختيار.
والقصة هنا تتعلق بمنطقين يبدو أن بينهما تعارضاً واضحاً، الأول يتمثل في حق الدولة في فرض إجراءات استثنائية في الحالات الصحية الطارئة خصوصاً الأوبئة، وتعطي تلك الحالات الدول الحق في فرض الإجراءات اللازمة لمواجهة الأوبئة.
أما الجانب الآخر من القصة فيتعلق بالحق في الاختيار من جانب المواطنين بشكل عام، ويمكن أخذ ارتداء الكمامة في الأماكن العامة كمثال، حيث عارض كثير من المواطنين في بعض الدول فرض ارتداء الكمامة، والأمر نفسه ينطبق على تلقي اللقاحات.
وما بين جانبي القصة، يتمسك كل طرف بموقفه، خصوصاً في ظل ظهور بعض الأعراض الجانبية الخاصة بلقاحات كورونا، سواء أسترازينيكا البريطاني أو فايزر الأمريكي/الألماني، لكن استطلاعات الرأي تظهر أن نسبة الرافضين لتلقي اللقاحات حول العالم تتراجع بشكل لافت.
لكن غالبية خبراء الأوبئة ومسؤولي الصحة حول العالم يُجمعون على أنه لا حل للقضاء على الوباء الذي أصاب العالم بالشلل إلا بتطعيم غالبية المواطنين حول العالم بلقاحات كورونا، إذ إن تلك اللقاحات بشكل عام، قد أثبتت فاعليتها في احتواء التفشي، وحتى من يتعرض للعدوى بعد تلقي اللقاح لا يحتاج غالباً إلى دخول المستشفى وقد لا يعاني من الأعراض من الأساس.