تفرض إسرائيل حصاراً على قطاع غزة منذ أكثر من 14 عاماً بهدف إجبار حركات المقاومة على "نزع السلاح"، لكن وزير الخارجية يائير لابيد قال إنه يعمل على استراتيجية جديدة عنوانها "الاقتصاد مقابل الأمن".
حديث لابيد بشأن الاستراتيجية الجديدة يأتي في سياق هدوء متوتر يشوب الأجواء بين إسرائيل من جهة، وحركة حماس التي تتولى مسؤولية إدارة قطاع غزة من جهة أخرى، منذ وقف إطلاق النار الذي توصل إليه الطرفان، بوساطة مصرية، يوم 21 مايو/أيار الماضي.
كان اتفاق وقف إطلاق النار قد أنهى أحدث جولات الحرب بين تل أبيب وحركات المقاومة الفلسطينية في القطاع المحاصر، والتي استمرت 11 يوماً وشهدت انقلاباً استراتيجياً في موازين القوة بين الطرفين، بعد أن وصلت صواريخ المقاومة إلى جميع المدن والمناطق الإسرائيلية وأصابت الحياة في إسرائيل بشلل تام، في انتصار لم يكن متوقعاً حققته المقاومة الفلسطينية رغم الفارق الهائل في الإمكانيات العسكرية بين الجانبين.
وكان من أبرز تداعيات حرب غزة الأخيرة خسارة بنيامين نتنياهو منصبه كرئيس للوزراء، رغم أنه تسبب في إشعال الحرب سعياً للتشبث بالمنصب وتفادي الإدانة في محاكمته بالفساد، ومن ثم تولى ائتلاف غير متجانس بزعامة نفتالي بينيت ولابيد- حكومة برأسين- المسؤولية، والآن يبدو أن لابيد- الذي يفترض أن يتولى رئاسة الحكومة بعد عامين- يسعى للتوصل إلى اتفاق "سلام" مع قطاع غزة بشروط جديدة.
ما بنود استراتيجية لابيد المقترحة؟
جاء كشف لابيد عن خطته الجديدة أو استراتيجيته للتعامل مع قطاع غزة خلال مشاركته في المؤتمر السنوي لمعهد سياسات مكافحة الإرهاب بجامعة رايخمان الإسرائيلية، تحت عنوان "السياسة اللازمة لإسرائيل تجاه غزة".
ومهد وزير الخارجية لتلك الخطة، من خلال تغريدات له على تويتر، قال فيها: "منذ أن غادرت إسرائيل قطاع غزة في عام 2005، واجهت مراراً جولات عنف تسببت في معاناة وأضرار لسكان الدولة (إسرائيل) والاقتصاد. السياسة التي انتهجتها إسرائيل حتى الآن لم تغير الوضع بشكل جذري".
ومن ثم استعرض لابيد سياسته الجديدة بالقول: "علينا اتخاذ خطوة كبيرة متعددة السنوات. هذه نسخة واقعية لما كان يُطلق عليه ذات مرة "إعادة الإعمار مقابل نزع السلاح". الغرض من هذه الخطوة هو خلق الاستقرار على جانبي الحدود. الأمنية والمدنية والاقتصادية والسياسية".
وفي تفاصيل خطته المقترحة، قال لابيد إن البنية التحتية في غزة في المرحلة الأولى من الخطة، ستحصل على تحسين هي في أمس الحاجة إليه، مضيفاً: "سيتم إصلاح نظام الكهرباء وربط الغاز وبناء خطة لتحلية المياه وإدخال تحسينات كبيرة على نظام الرعاية الصحية وإعادة بناء البنية التحتية للإسكان والنقل".
وفي حال سارت المرحلة الأولى بسلاسة، ستشهد غزة عندئذ بناء جزيرة اصطناعية قبالة سواحلها تسمح بإنشاء ميناء، وسيتم إنشاء "رابط مواصلات" بين غزة والضفة الغربية، بحسب تقرير لهيئة الإذاعة البريطانية BBC حول تفاصيل خطة لابيد.
ماذا اشترط لابيد في خطته المقترحة؟
من المهم هنا توضيح أن ما أعلنه لابيد هو خطة تمت صياغتها حتى الآن في مكتبه ولم يتم عرضها على بينيت أو الحكومة الإسرائيلية حتى تتحول إلى سياسة رسمية، كما أن هناك تساؤلات جوهرية بشأن ما أعلنه لم يقدم إجابات بشأنها.
فالمرحلة الأولى تتمثل في إعادة الإعمار وتقديم الاحتياجات الإنسانية في القطاع المحاصر، مقابل إضعاف قوة حماس العسكرية عبر قوات دولية، بحسب ما قاله لابيد دون أن يقدم توضيحات بشأن أي قوات دولية يقصد وما يعنيه ذلك من الأساس.
والمرحلة الثانية، بحسب لابيد، "تكون بضمان الأمن، وقبول غزة بتفاصيل المرحلة الأولى، إضافة إلى تولي السلطة الفلسطينية زمام الأمور على صعيد الإدارة المدنية والاقتصادية في القطاع".
ولم يقدم وزير الخارجية الإسرائيلي كذلك تفسيراً لكيفية تولي السلطة الفلسطينية زمام الأمور في قطاع غزة دون إجراء انتخابات فلسطينية كانت مقررة بالفعل في أبريل/نيسان الماضي، لكنها لم تتم بقرار من رئيس السلطة محمود عباس بسبب رفض تل أبيب مشاركة سكان القدس المحتلة في تلك الانتخابات.
وكشف لابيد عن أن تلك الخطة الهادفة، بحسب كلامه، إلى تحسين الوضع المعيشي للفلسطينيين في قطاع غزة مشروطة بأن تتوقف حركات المقاومة في القطاع عن "مهاجمة إسرائيل"، بحسب مزاعم وزير الخارجية الإسرائيلي.
ولم يكن لابيد متحفظاً في الكشف عن هدفه من وراء تلك الاستراتيجية وهو إقناع الفلسطينيين، المحاصرين في القطاع ويعانون من ظروف إنسانية كارثية بسبب الحصار، بأن "عنف حماس ضد إسرائيل هو سبب عيشهم في ظروف من الفقر والندرة والعنف والبطالة المرتفعة، بلا أمل".
ماذا تعني خطة لابيد المقترحة؟
يعاني سكان قطاع غزة، وهم أكثر من مليوني فلسطيني، أوضاعاً معيشية متردية للغاية؛ جراء الحصار الإسرائيلي المستمر للقطاع، منذ أن فازت حركة "حماس" بالانتخابات التشريعية في 2006.
وبجانب هذا الحصار، يشن جيش الاحتلال الإسرائيلي من حين إلى آخر عمليات عسكرية على غزة، أحدثها العدوان الأخير الذي استمر 11 يوماً بين 10 و21 مايو/أيار الماضي، وانتهى بوساطة مصرية.
واللافت في تلك الخطة الجديدة التي أعلن عنها لابيد، بغض النظر عن مدى واقعية إمكان تنفيذها بالشروط التي أعلنها، أن وزير الخارجية قال إنه ناقش الخطة مع عدد من قادة العالم منهم وزيرا خارجية الولايات المتحدة وروسيا، إضافة إلى مسؤولين في مصر والاتحاد الأوروبي والخليج، رغم عدم مناقشة الخطة مع الحكومة الإسرائيلية نفسها.
ويرى بعض المحللين الإسرائيليين أن كشف لابيد عن خطته بتلك الطريقة على الأرجح هو بمثابة "بالون اختبار" لقياس رد الفعل، خصوصاً أن لابيد كان حريصاً على ختام تفاصيل خطته بالتركيز على نقطتين، أولاهما أن "هذا ليس عرضاً للتفاوض مع حماس"، والثاني "عدم تنازل إسرائيل عن جهودها في مجال الأسرى والمفقودين".
وتحتفظ حماس، منذ الحرب على غزة عام 2014، بجنديين إسرائيليين كأسرى، دون أن تدلي بأي تفاصيل عن مصيرهما، بالإضافة إلى إسرائيليين اثنين تقول إسرائيل إنهما دخلا قطاع غزة لاحقاً في ظروف غامضة.
لكن بعيداً عن تصريحات لابيد الخاصة بعدم التفاوض مع حماس أو التخلي عن جهود استعادة الأسرى، فإن الحديث عن "الاقتصاد مقابل الأمن" بديلاً عن "نزع السلاح مقابل رفع الحصار" يمثل انتصاراً للمقاومة الفلسطينية، بحسب كثير من المحللين الإسرائيليين أنفسهم.
ما الجديد في خطة لابيد بشأن غزة؟
لكن ما أعلن عنه لابيد كخطة جديدة للتعامل مع قطاع غزة ليس جديداً في واقع الأمر، بحسب تقرير لصحيفة The Times of Israel، شكك في قابلية تنفيذ ما طرحه وزير الخارجية من الأساس.
وبرر لابيد طرحه لخطته الآن بالقول إن "الظروف السياسية في إسرائيل وفي السلطة الفلسطينية لا تسمح بحدوث تقدم دبلوماسي في الوقت الحالي، لكن في غزة يمكن أن يحدث ذلك ويجب أن نقوم بذلك الآن".
وبحسب تقرير الصحيفة، قدم مسؤولون إسرائيليون من قبل خططاً مشابهة تتعلق بإصلاحات في البنية التحتية المنهارة في القطاع المحاصر دون أن ينتج أي شيء على أرض الواقع. بل إن كثيراً من المشاريع التي ذكرها لابيد، مثل توصيل الغاز الطبيعي لغزة وإنشاء محطات صرف صحي ومحطات لمياه الشرب والسماح بإنشاء ميناء بحري، تم طرحها من قبل بالفعل.
لكن الفلسطينيين دائماً ما ينتقدون تلك "الخطط الاقتصادية" لأنه، من وجهة النظر الفلسطينية، لن يكون هناك حل حقيقي للصراع دون تسوية سياسية تعيد لهم حقوقهم في أرضهم لإقامة دولة فلسطينية مستقلة.
وعلى الجانب الآخر، يرفض اليمين الإسرائيلي، الذي ينتمي إليه نفتالي بينيت رئيس الوزراء الحالي وتلميذ نتنياهو، تلك "المبادرات الاقتصادية"، معتبرين إياها "مكافأة" لحركة حماس التي تحكم قطاع غزة.
وينطبق هذا المنطق، من وجهة النظر الفلسطينية، على الرفض القاطع لصفقة القرن التي كان الرئيس الأمريكي السابق يريد تنفيذها كوسيلة لوضع نهاية للصراع الرئيسي في الشرق الأوسط الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني- من وجهة نظره. وكان سبب الرفض هو عرض "مغريات اقتصادية" للفلسطينيين مقابل التخلي عن حقهم في إقامة دولة فلسطين المستقلة وعاصمتها القدس الشرقية.