ستظل ذكرى هجمات 11 سبتمبر/أيلول الدامية في الولايات المتحدة مرتبطة دائماً بتنظيم القاعدة الذي أسَّسه أسامه بن لادن قبل نحو 33 عاماً، فما أسرار بقاء التنظيم طوال تلك الفترة؟
صحيفة The Guardian البريطانية تناولت سر طول بقاء القاعدة في تحليل أعده جاسون بروك مراسل الصحيفة والصحفي المتخصص في الشرق الأوسط وحربي أفغانستان والعراق، تزامناً مع الذكرى العشرين لهجمات سبتمبر/أيلول 2001.
فقصة تأسيس التنظيم تعود إلى صيف عام 1988، عندما تجمَّع اثنا عشر رجلاً أو نحو ذلك في مدينة بيشاور الحدودية الباكستانية، بينما كانت الحرب الأفغانية ضد الغزو السوفييتي في الجهة الأخرى من الحدود في أفغانستان تبلغ ذروتها، في ظل مواجهة مئات آلاف المجاهدين المحليين للمحتلين السوفييت وأتباعهم المحليين.
سر اختيار "القاعدة" اسماً للتنظيم؟
كان الرجال الذين ربما التقوا في واحدٍ من بيوت الضيوف التي استُخدِمَت باعتبارها مكاتب ونُزُلاً للزائرين الأجانب في بيشاور، كلهم من الشرق الأوسط، وكان معظمهم في باكستان لفترة طويلة، لكن لم يضطلع إلا بدور هامشي جداً في حرب التحرير الأفغانية الدائرة إلى الغرب منهم، لكنَّ حفنة منهم كانوا مع قائدهم الفعلي، وهو سعودي ثري يُدعى أسامة بن لادن، حين واجه هجوماً سوفييتياً على قاعدة داخل أفغانستان قبل ذلك بعام.
وقد اجتمعوا لمناقشة قضايا مختلفة: المشكلات الإدارية في تدفق التمويل والمساعدات الأخرى من الخليج، والتنافسات الشخصية بين كبار قادة من يُسمّون بـ"العرب الأفغان" ومقرهم في بيشاور، وغيرها الكثير.
لكنَّهم أرادوا أيضاً الحديث عن مشروع جديد: إنشاء وحدة من المقاتلين الإسلاميين الملتزمين والمتمرِّسين الذين يمكن نشرهم في أي مكان يحتاج فيه المسلمون إلى حمايتهم، وستكون المجموعة أيضاً طليعة يمكن أن تجذب مزيداً من المجندين ونشر الأفكار المتطرفة لأتباعها، وسيكون اسمها "القاعدة".
وكان اللفظ العربي الذي اختير اسماً للتنظيم في أواخر الثمانينيات يعني أموراً كثيرة: "مبدأ تنظيمي" أو "الأساس الصلب لبناء ما" هما أحد التفسيرات المحتملة، لكن قبل كل شيء "قاعدة عسكرية".
كانت تلك هي الطريقة التي يشير بها أولئك الرجال للمعسكر المحصن الذي كانوا لتوِّهم قد ردوا السوفييت عنه في أول معركة حقيقية في حملتهم. وكانت تلك أيضاً هي الطريقة التي يشير بها المقاتلون والجيوش إلى المعاقل قبل فترة أطول بكثير، في أفغانستان وفي أنحاء العالم الإسلامي. الفارق هو أنَّ القاعدة لن تكون مجرد موقع جغرافي، بل طموحاً أيديولوجياً دولياً.
كيف استطاعت "القاعدة" البقاء؟
ثم كانت القاعدة وبن لادن مسؤولين عن هجمات الحادي عشر من سبتمبر/أيلول في نيويورك وواشنطن، التي أسفرت عن سقوط 3 آلاف قتيل. أدَّت هذه الهجمات إلى حرب إدارة بوش على الإرهاب، وغزوي أفغانستان والعراق، ومطاردة أدَّت إلى مصرع بن لادن عام 2011، والكثير من التداعيات العالمية المزلزلة.
ولم يؤدِ هجوم واحد على يد تنظيم إرهابي واحد إلى مثل هذا التأثير منذ عام 1914، حين أدى اغتيال أرشيدوق فرديناند إلى إشعال الحرب العالمية الأولى.
لكن بعد مرور 20 عاماً على الهجمات، لا تزال القاعدة موجودة بشكل كبير. تشير الأبحاث إلى أنَّ الجماعات الإرهابية المفردة عادةً ما تبقى بين 5 إلى 10 سنوات، أو أقل حتى من ذلك، وبالتالي فإنَّ بقاء القاعدة لأكثر من 3 عقود يعتبر إنجازاً لا غبار عليه.
إذ إن التمتع بطول بقاء كهذا في مواجهة أوسع وأغلى وأكثر الجهود التي تُبذَل في مواجهة مجموعة واحدة تقدماً تكنولوجياً هو أمر أكثر إثارة للدهشة. ولا يتوقع أحد في هذه الذكرى السنوية المأسوية نهاية القاعدة، فكيف حققت القاعدة ذلك إذاً؟
الميزة الأولى التي تمتعت بها القاعدة هي إخفاقات ومواطن ضعف خصومها، إذ سعت دعاية التنظيم لتصوير الحكومات المحلية في أرجاء العالم الإسلامي باعتبارها فاسدة وعاجزة وقمعية واستئثارية. وهذه ليست انتقادات جائرة، ومن ثَمَّ تجعل أصداء حجة القاعدة بأنَّ هذه العيوب مرجعها رفض الصراط القويم الذي أوضحته النصوص والتقاليد الإسلامية المقدسة، يتردد بسهولة.
كما ساعدت أخطاء أولئك الذين يقودون الحملة ضد القاعدة في ذلك بصورة هائلة. ففي عام 2002، خسرت القاعدة ملاذها الآمن في أفغانستان، وقُتِل الكثير من قادتها. وتناثر الباقون في البلدان المجاورة أو هربوا لأبعد من ذلك، وظل أسامة بن لادن يتنقَّل من منزل آمن إلى آخر في باكستان لمدة عامين بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر/أيلول، وكانت القاعدة عملياً بلا دفّة.
كيف استفادت القاعدة من غزو العراق؟
لكنَّ الخطاب العدواني، وعدم فهم الطبيعة الأيديولوجية والمتفرقة للتهديد، وقبل كل شيء غزو العراق، كل ذلك أحيا فرص التنظيم، فقد شتت ذلك انتباه صانعي السياسة الأمريكيين وموارد الوكالات الأمنية الأمريكية.
وبدا أنَّ حرب الإطاحة بصدام حسين، التي جرى تبريرها جزئياً بوجود صلة كاذبة بين القاعدة والنظام العراقي، تُثبت الكثير من حجج بن لادن، ودفعت إلى زيادة كبيرة للغضب في أرجاء العالم الإسلامي، وفتحت أيضاً جبهة جديدة، وهو ما سمح للقاعدة بالعودة إلى المعركة.
لكن ذلك لم يسمح للقاعدة بالانتصار، فموجة العنف التي أطلق المتشددون العنان لها في منتصف عقد هجمات الحادي عشر من سبتمبر/أيلول كانت تهدف لترهيب الأعداء، ودفع الأعضاء الحاليين إلى التطرف، وحشد دعم جديد. وربما تكون حققت أول هدفين- جزئياً على الأقل- لكن ليس الهدف الثالث.
فمع كل حملة جديدة تندلع في الشرق الأوسط- في العراق والأردن وباكستان والسعودية- كان المتطرفون يخسرون أي تعاطف بين عامة الناس. وبحلول عام 2010 كان بن لادن قلقاً للغاية بشأن الكيفية التي أدَّت بها المذابح المتكررة بحق المسلمين الآخرين في تلطيخ اسم القاعدة، لدرجة أنَّه فكَّر في تغيير اسمها، وأرسل أوامر مشددة لأتباعه بخفض العنف.
لكنَّ عام 2011 كان سيئاً بشكل خاص للتنظيم، إذ قُتِلَ بن لادن في غارة أمريكية على منزله في بلدة أبوت آباد، شمالي باكستان، وقُتِلَت أو اعتُقِلَت ست شخصيات أخرى رفيعة في التنظيم أيضاً.
كيف غيّر الظواهري استراتيجية القاعدة؟
كان بن لادن قلقاً في الأسابيع التي سبقت وفاته من أنَّه وتنظيمه وفكرهما قد هُمِّشوا من جرَّاء اضطرابات الربيع العربي. فالحشود في ميدان التحرير بالقاهرة وفي مناطق أخرى بالشرق الأوسط كانت تهتف من أجل الديمقراطية، وليس من أجل نظام إسلامي صارم.
وفي النهاية، كان خليفة بن لادن، أيمن الظواهري، وهو طبيب أطفال مصري سابق وجهادي مخضرم أكبر في السن، هو مَن وجد طريقة لاستغلال الفوضى واستعادة حظوظ القاعدة.
كانت مسيرة الظواهري باعتباره قيادياً في التنظيم عادية، وكان يفتقر إلى الكاريزما، ولم يكن محبوباً كثيراً داخل القاعدة أو الحركة الجهادية الأوسع نطاقاً، لكنَّه أظهر على الفور موهبة استراتيجية غير مُتصوَّرة وقدرة على تعلم دروس العقود الماضية.
كان الدافع الرئيسي لابن لادن في أواخر التسعينيات هو توجيه كل موارد التنظيم ضد "العدو البعيد"، أي الولايات المتحدة والغرب، وليس "العدو القريب"، أي الحكومات المحلية في الشرق الأوسط.
وجاءت أولى مشروعات بن لادن في هذا الاتجاه حين استهدف القوات الأمريكية في اليمن عام 1991، لكنَّها نضجت بعد ذلك بسبع سنوات بهجمات كبيرة فتاكة على السفارتين الأمريكيتين في كينيا وتنزانيا، أعقبها سريعاً بضربة بحرية ضد سفينة حربية أمريكية في خليج عدن. وبلغت هذه الجهود ذروتها في هجمات الحادي عشر من سبتمبر/أيلول، التي كانت مثيرة جداً للجدل داخل تنظيمه، وعارضها الكثيرون من قادة التنظيم الثانويون.
ابتعد الظواهري عن هذه الاستراتيجية، وأوضح أنَّ العدو البعيد لم يعد أولوية، وذلك في جزء منه لأنَّ هذه الهجمات أصبحت أصعب بكثير وفي جزء آخر بسبب الرد الذي يُرجَّح أن تثيره. وأبعد أيضاً القاعدة عن مبدئها "الجهاد فقط"، مؤكداً على أهمية بناء علاقات مع المجتمعات المحلية عبر العالم الإسلامي الذي كان يشعر أنَّه تحت التهديد.
وإذا ما وفرت القاعدة الحماية والأمن، بل وحتى الحكم، فإنَّها قد تبني دعماً جماهيرياً وتوسع نطاقها. وسرعان ما جاءت الاستراتيجية الجديدة بنتائج، فجلبت نفوذاً ومجندين جدداً في منطقة الساحل وشرق إفريقيا واليمن وفي أفغانستان، وهناك جرت محاولة جديدة لبناء العلاقات مع طالبان، وهو ما سيكون أمراً بالغ الأهمية بعد عقد من الزمن.
العلاقة بين "القاعدة" و"داعش"
ثُمَّ ظهر تحدٍّ جديد في عام 2014: مجموعة منشقة رفضت سلطة الظواهري بالكامل. وصفت المجموعة نفسها في البداية بـ"الدولة الإسلامية في العراق والشام" (داعش)، ثُمَّ وبمجرد استيلائها على مساحة من الأرض عبر هذين البلدين وإعلان تأسيس دولة خلافة، بات اسمها "الدولة الإسلامية" فقط.
كان يمكن أن تكون هذه كارثة للقاعدة، فتنظيم الدولة الإسلامية كان أسرع بكثير في استغلال الفرص التي وفَّرها الانتشار المذهل لوسائل التواصل الاجتماعي والهواتف الذكية، وبدا أنَّه حقق الهدف طويل الأجل الذي كانت تسعى القاعدة لتحقيقه، لكنَّ وحشية القادمين الجدد، إلى جانب استراتيحية الظواهري الأكثر براغماتية، اجتمعا ليمنحا القاعدة التغيير الذي كان بن لادن يفكر فيه قبل وفاته.
فبالمقارنة مع النزعة الدموية المتطرفة لدى تنظيم الدولة الإسلامية، حتى القاعدة بدت أقل تعطُّشاً للدماء. وكان أحد النصوص الرئيسية لكلا التنظيمين هو دليل للجهاد عُنوِنَ بصورة مبهمة بـ"إدارة التوحش". وقد فسر التنظيمان نصائحه بصورة مختلفة.
فاعتقد تنظيم الدولة والعدد المتزايد من أتباعها أنَّ العنوان يشير إلى استخدام الوحشية المفرطة، في حين اعتقدت القاعدة أنَّه يعني الحاجة للسيطرة على العنف. ومثلما فعل بن لادن أبعد الظواهري أيضاً تنظيمه عن كلٍّ من الطائفية وعقيدة الألفية تجاه منافسيه (أي الاعتقاد بأنَّهم سينتصرون على عدوهم انتصاراً عظيماً ثم يصبح العالم مثالياً يسوده السلام والسعادة).
وحين انهارت الدولة الإسلامية في 2019، كانت القاعدة في موضعٍ جيد يُخوِّل لها تبوء قيادة الحركة الجهادية العالمية مجدداً. لكنَّها لم تفعل ذلك بعد- ولا تزال الدولة الإسلامية تدافع عن هذا الدور وأحياناً بعنف- لكنَّها أعادت كسب أرض كبيرة. ومثَّل سقوط أفغانستان في يد حلفائهم طويلي الأمد في حركة طالبان دفعة إضافية. فأصدرت القاعدة بعد 10 أيام من سيطرة طالبان على كابول بيان تهنئة للحركة.
لقد بقيت القاعدة طوال 33 سنة لأنَّها تطورت، إذ تغيرت بمرور الوقت طوال تاريخها، فعلى الرغم من الطموحات الكبرى لمؤسسيها، كان التنظيم في البداية ضيقاً في نطاق تركيزه، وكانت السعودية، مسقط رأس بن لادن، من أبرز الأهداف.
وحتى ينشر التنظيم أيديولوجيته، سعى لشن هجمات كبيرة من شأنها لفت انتباه وسائل الإعلام التقليدية، التي كانت حينها السبيل الوحيد للوصول إلى جمهور واسع. ثم تحولت القاعدة إلى العدو البعيد ونفذت حملة عالمية النطاق بحق طوال عقد ونصف العقد، اتسمت في كل مكان بعولمة غير مسبوقة.
وأُعِيدَت هندسة استراتيجية تواصلها كي تواكب القدرات الجديدة لشبكات الأقمار الصناعية، واستفاد التنظيم بشكل كامل من الإنترنت الموجود في كل مكان حولنا الآن، للمساعدة في إدارة تنظيم مترام والتخطيط للهجمات. وتطورت القاعدة مجدداً على مدار السنوات العشر الأخيرة، مع انحسار تلك الموجة من العولمة في مواجهة الأزمات الاقتصادية ومقاومة تآكل الهوية الثقافية، فتحوَّل التنظيم بصورة مُنظَّمة إلى شيء أكثر محلية بكثير، وأدرك أنَّه في ظل البيئة الإعلامية الجديدة باتت المؤامرات المعقدة لا تسري بنفس جودة الهجمات "عديمة القيادة" التي تُستلهَم من وسائل التواصل الاجتماعي.
تظل فرص تحقيق هذا الطموح بإيجاد طليعة من المقاتلين الإسلاميين الذين سيجمعون العالم الإسلامي في انتفاضة هائلة ضد الحكام المحليين الكفار والغرب ضئيلة جداً، وآفاق أولئك الملتزمين بالمشروع غير واضحة. فالظواهري معتل الصحة، أو ربما قد مات فعلاً، ولا أحد يعلم مَن قد يكون خليفته أو ماذا قد يفعل، لكنَّ التاريخ يشير إلى أنَّ الاعتقاد بنهاية القاعدة، حتى بعد 33 عاماً، سيكون إفراطاً في التفاؤل.