بعد سلسلة "تصفيات" في ليبيا طالت في الفترة الأخيرة قادة عسكريين في ميليشيا اللواء الليبي المتقاعد خليفة حفتر، جاء الدور هذه المرة على أحد عناصر ميليشيا الكانيات في مدينة ترهونة، الذي أُلقي القبض عليه بتهمة قتل ضابط كبير من ورشفانة في 2019.
وهذه الخطوة الأخيرة تعكس رغبة حفتر في تصفية قيادات ميليشياته والعناصر المتورطة في جرائم حرب أو جرائم ضد الإنسانية، المطلوبة دولياً، سواء من محكمة الجنايات الدولية على غرار الرائد محمود الورفلي، الذي اغتيل بمدينة بنغازي (شرق) في 25 مارس/آذار الماضي، قبيل الانتخابات الرئاسية المرتقبة في ديسمبر/كانون الأول القادم.
حفتر يصفي "الأوراق المحروقة" قبيل الانتخابات الرئاسية
وفي 27 يوليو/تموز الماضي، قتلت ميليشيات حفتر محمد الكاني، زعيم ميليشيا الكانيات، المطلوب لدى محكمة الجنايات الدولية، الذي فُرضت عليه عقوبات أمريكية وبريطانية، لتورطه في المقابر الجماعية بترهونة (90 كم جنوب شرق طرابلس).
وبعد شهر وبضعة أيام من تصفية الكاني، أعلنت المباحث الجنائية في مدينة المرج (شرق بنغازي) الخاضعة لميليشيات حفتر، إلقاءها القبض على أحد المتورطين في اغتيال العميد مسعود الضاوي، قائد اللواء 26 من مدينة ورشفانة (جنوب طرابلس)، أثناء عدوانهم على العاصمة طرابلس (أبريل/نيسان 2019- يونيو/حزيران 2020).
واعترف القاتل، ويدعى إيهاب فرج العجيل (من ورشفانة)، في تسجيل مصور أُخفي فيه وجهه، أنه اشترك في عملية اغتيال الضاوي، مع 7 أشخاص آخرين بينهم شقيقه "عماد"، الذي تلقّى أوامر القتل من محسن الكاني، القائد الميداني لميليشيا الكانيات بترهونة (قتل هو الآخر في 13 سبتمبر/أيلول 2019).
ويقول تقرير لوكالة الأناضول إن حفتر يواصل تصفية الأوراق المحروقة في صفوف ميليشياته، التي من شأنها توريطه مع محكمة الجنايات الدولية، أو مع الدول الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة وبريطانيا.
كما أن مشروعه للترشح للرئاسيات المرتقبة، في 24 ديسمبر/كانون الأول المقبل، تقتضي ألا يكون متورطاً في جرائم حرب أو جرائم ضد الإنسانية أو حتى انتهاكات لحقوق الإنسان.
لذلك يحاول حفتر الظهور كرجل يحترم القانون، ويحارب القتلة حتى ولو كانوا من أتباعه، لتبرئة نفسه من هذه الجرائم، وترك مسافة بعيدة بينه وبين ميليشيا الكانيات سيئة الصيت، المرفوضة حتى من أنصار حفتر في الشرق، ناهيك عن ضحاياها في الغرب الليبي.
اعتقالات وتصفيات في صفوف عناصر اللواء التاسع ترهونة
وبإظهار اعترافات إيهاب فرج العجيل، للرأي العام، وتأكيده أن محسن الكاني من أعطى الأوامر لشقيقه عماد العجيل، باغتيال الضاوي، يبرئ فيها حفتر ذمته من هذه "الجريمة"، ويحمل الكانيات وحدهم وزرها.
ومن المتوقع أن يكون اعتقال إيهاب العجيل، ونشر اعترافاته، مقدمة لتبرير حملة اعتقالات وتصفيات في صفوف عناصر اللواء التاسع ترهونة، الذين فروا إلى الشرق بعد هزيمة حفتر بطرابلس في يونيو/حزيران 2020.
إذ هدّد عناصر من اللواء التاسع بالانتقام لمقتل محمد الكاني، متهمين صدام حفتر بالوقوف وراءها، خاصة في ظل حديث محللين ليبيين وناشطين إعلاميين عن وقف ميليشيات حفتر لرواتب عناصر الكانيات، منذ أشهر، وتذمرهم من سوء أحوالهم الاجتماعية بعد هروبهم من ترهونة.
المنافسة بين حفتر وسيف الإسلام القذافي
الأمر الآخر الذي قد يكون له علاقة بالتعجيل في اعتقال أحد منفذي عملية اغتيال الضاوي، ونشر اعترافاته بالصوت والصورة، في 1 سبتمبر/أيلول الجاري، إعلان موقع مقرب من النظام السابق، ترشح سيف الإسلام القذافي، "رسمياً" لرئاسيات 24 ديسمبر/كانون الأول.
ونقل موقع "بوابة إفريقيا الإخبارية" عن مصدر خاص، أن إعلان "سيف الإسلام" نيته الترشح للانتخابات جاء تزامناً مع "عيد الفاتح"، الذكرى 52 لانقلاب القذافي على الملك الراحل محمد إدريس السنوسي.
ولأن حفتر يَعتبر القذافي الابن منافسه الأول في أي انتخابات رئاسية نزيهة، فإنه من مصلحته التقرب من أنصار الأخير، ومن بينهم قبائل ورشفانة.
وأفضل ورقة يمكن لحفتر لعبها لكسب تأييد أبناء ورشفانة في الانتخابات المقبلة هي كشف حقيقة اغتيال مسعود الضاوي، والقبض على أحد منفذي الاغتيال، وتحميل مسؤولية إعطاء الأوامر لشخص ميت، ما يجعله بعيداً عن الشبهات.
قبائل ورشفانة المحسوبة على نظام القذافي وتحالفها السابق مع حفتر
العميد مسعود الضاوي كان يعد من القادة العسكريين البارزين لمنطقة ورشفانة، المحاذية للضواحي الجنوبية الغربية لطرابلس، المحسوبة على النظام السابق بزعامة معمر القذافي. وتحالفت ورشفانة مع حفتر، وأصبحت جزءاً رئيسياً من هجومه العنيف للسيطرة على طرابلس، الذي أطلقه في 4 أبريل/نيسان 2019.
وإلى جانب ورشفانة، اشتركت قوتان كبيرتان من المنطقة الغربية إلى جانب ميليشيات حفتر القادمة من الشرق، وهما اللواء التاسع ترهونة، الملقب بـ"الكانيات"، وجناح من مدينة الزنتان القوية (170 كلم جنوب غرب طرابلس) بقيادة اللواء إدريس مادي.
وبحسب أعيان قبيلة ورشفانة وشهادات أخرى، فإن مسعود الضاوي، حضر اجتماعاً في ترهونة، في 23 مايو/أيار 2019، برفقة كل من المقدم أنور منصور يحيى، والمقدم أحمد الرياني، وفي طريق عودتهم إلى جبهات القتال جنوبي طرابلس تم اغتيالهم جميعاً في منطقة "فم ملغة"، التابعة إدارياً لترهونة.
ووجه أعيان قبيلة ورشفانة تهمة اغتيال الضاوي ومرافقيه إلى اللواء التاسع ترهونة، باعتبار أن الاغتيال وقع في مناطق سيطرته البعيدة عن جبهات القتال، وقرروا إيقاف التعامل والتنسيق مع قبائل ترهونة "على جميع المستويات الاجتماعية والأمنية". بينما رفض مشايخ ترهونة هذا الاتهام، واعتبروا تحميل مدينتهم مسؤولية اغتيال الضاوي ورفاقه "محاولة لشق الصف وإحداث فتنة بين القبيلتين".
فيما زعمت ميليشيات حفتر، حينها، أن الضاوي قُتل إثر سقوط قذيفة هاون، وهو يعطي تعليماته بين جنوده، في ساحة المعركة، بمنطقة عين زارة، إحدى الضواحي الجنوبية الملتهبة بطرابلس.
وتقول مصادر للأناضول إن هذه الرواية غير الدقيقة كان الهدف منها تخفيف الاحتقان بين قبيلتي ورشفانة وترهونة، وتجنب دخولهما في اقتتال، خاصة أن أبناءهما كانوا يقاتلون في جبهة واحدة إلى جانب الميليشيات القادمة من الشرق، وهذا كان من شأنه إفشال الهجوم على طرابلس في أشهره الأولى بدل انتظار 26 شهراً لانهياره.
وحتى الآن لم يتضح السبب الذي دفع محسن الكاني للأمر باغتيال الضاوي ومرافقين، ولكن صفحات موالية لعملية بركان الغضب التابعة لحكومة طرابلس الشرعية تحدثت حينها عن خلاف بين محسن الكاني ومسعود الضاوي، حول اقتسام المؤن والأسلحة والذخائر التي وصلتهم من الشرق.
وقد يدعم ذلك اغتيال الضابطين خالد أبو عميد وكمال المباركي (من ورشفانة)، في مقرهما ببلدة سوق السبت، الواقعة على خط الإمدادات جنوب مطار طرابلس الدولي (خرج من الخدمة في 2014)، وذلك بعد ثلاثة أشهر من اغتيال الضاوي. واتهمت حينها ميليشيا صغيرة تسمى "الحبوطات" تعود أصولها إلى ورشفانة، لكنها كانت تخضع لإمرة ميليشيا الكانيات.
ولجوء الكانيات لتصفية قيادات من ورشفانة عبر عناصر "الحبوطات"، محاولة لتبرئة ذمتها في حال تم توقيف القتلة، والإيحاء بأن الأمر مجرد تصفية حسابات شخصية بين أبناء ورشفانة أنفسهم.