"الإرهاب الأبيض اليميني أخطر على أمريكا من إرهاب الجماعات المتطرفة المنسوبة للإسلام"، هذا ما تكشفه أرقام وتقارير أمريكية رسمية، ولكن رغم وضوح هذه الحقيقة، لماذا تجاهلتها الوكالات الأمنية الأمريكية، ومَن المستفيد من التحريض على المسلمين وتجاهل الخطر الحقيقي؟
بدأ الأمر بعد أحداث الـ11 من سبتمبر/أيلول، إذ تحرّكت الحكومة الأمريكية سريعاً للحيلولة دون وقوع هجمات أخرى، على يد المتشددين الإسلاميين داخل الولايات المتحدة. وأنفقت مليارات الدولارات على أجهزة إنفاذ القانون الجديدة مع منح الوكالات سلطات واسعة لمراقبة الأفراد داخل الولايات المتحدة وخارجها، بعد أن أعلن جورج بوش الابن الحرب على الإرهاب.
ولكن في أثناء قيام مكتب التحقيقات الفيدرالي ووكالة الاستخبارات المركزية ووزارة الأمن الداخلي (المؤسسة حديثاً) بتفتيش البلاد وجميع أنحاء العالم بحثاً عن المسلمين المتشددين؛ تم التجاوز عن خطرٍ آخر: وهو خطر المتشددين المؤمنين بسيادة العرق الأبيض داخل الولايات المتحدة، والذين استمرت الزيادة في أعدادهم ونفوذهم خلال العقدين الماضيين، حسبما ورد في تقرير لصحيفة The Guardian البريطانية.
بالأرقام خطر الإرهاب الأبيض اليميني يفوق الإرهاب الإسلامي عدة مرات
حيث كان المتشددون اليمينيون هم المسؤولين عن 16 من أصل 17 جريمة قتل متشددة داخل الولايات المتحدة عام 2020، بينما كانت 41 من أصل 42 جريمة قتل متشددة في عام 2019، مرتبطةً باليمين المتطرف. وبين عامي 2009 و2018، كان اليمين المتطرف هو المسؤول عن 73% من ضحايا جرائم التشدد داخل الولايات المتحدة.
ورغم الهيمنة الإحصائية لجرائم اليمين المتشدد والمؤمنين بسيادة البيض داخل الولايات المتحدة؛ نجد أن الوكالات الاستخباراتية الأمريكية قد خصّصت الشطر الأعظم من مواردها للتعامل مع التهديد المتصوّر للإرهاب الإسلامي.
إذ تقول المؤلفة وأستاذة الجامعة الأمريكية، سينثيا ميلر-إدريس: "أدت صدمة أحداث الـ11 من سبتمبر/أيلول إلى صناعة آلة ضخمة تُثير الإعجاب داخل الولايات المتحدة وحول العالم، حيث تأسَّست وكالات وفرق عمل جديدة كلياً، لكنها خلقت معها بعض النقاط العمياء. ونجحت تلك الآلة بالطبع في تعطيل المؤامرات والتحذير من التهديدات. ولكن في الوقت نفسه، كان الخطر الآخر يتزايد ويتصاعد دون أن تلتفت إليه الآلة".
وقضت الحكومات المتعاقبة الشطر الأعظم من العقدين الماضيين، في تخصيص جُل مواردها للتحقيق مع المسلمين، سواءً داخل أو خارج الولايات المتحدة. ففي عام 2019، مثلاً، قال مكتب التحقيقات الفيدرالي إن 80% من عملاء مكافحة الإرهاب في الوكالة يركزون على قضايا الإرهاب الدولي، بينما لا ينشغل بالإرهاب المحلي سوى 20% منهم فقط.
مطاردة مدفوعة بالإسلاموفوبيا
وفي خضم مطاردة الحكومة للإرهاب الإسلامي، انتُهِكَت الحقوق المدنية للمسلمين في أمريكا، وعانى كثير من المسلمين الأبرياء، حيث تم احتجاز أكثر من ألف شخص خلال الأشهر التي أعقبت أحداث الـ11 من سبتمبر/أيلول، وجرى التحقيق مع آلافٍ آخرين، في ظل وضع مساجد وأحياء المسلمين تحت المراقبة. كذلك ارتفعت معدلات جرائم الكراهية ضد المسلمين داخل الولايات المتحدة عقب الهجمات مباشرةً، ولم تتراجع بعدها مطلقاً.
وقالت سينثيا: "بعض التدخلات الفعلية التي نفّذتها السلطات كانت مدفوعةً برهاب المسلمين (الإسلاموفوبيا). وقد عززوا بذلك مشاعر الإسلاموفوبيا المعادية للمهاجرين".
وعقب الهجمات، تم سنّ قوانين جديدة مثل قانون الوطنية الأمريكي (باتريوت آكت)؛ لمنح الحكومة الأمريكية سلطات إضافية في ما يتعلّق بمراقبة واستهداف الأمريكيين، بينما حصلت وزارة العدل على سلطات أكبر للتحقيق مع الأفراد الذين ليس لهم سجلٌّ جنائي.
إذ قال مايكل جيرمان، العميل الخاص السابق في مكتب التحقيقات الفيدرالي: "كان هناك اختلافٌ واضح في المعاملة تجلّى في طريقة استهداف مكتب التحقيق الفيدرالي للمسلمين الأمريكيين ممن يقولون ببساطةٍ أشياء لا تعجب الحكومة، أو من لديهم علاقات مع أشخاص لا يُعجبون الحكومة، أو من اشتبهت الحكومة فيهم لمجرد كونهم مسلمين دون أن يرتكبوا أي جريمة عنف أو يتورطوا مع أي جماعة إرهابية. بينما فشل المكتب حتى في توثيق جرائم القتل التي ارتكبها المتشددون المؤمنون بسيادة العرق الأبيض".
وقد كشفت مراجعة تدقيق أجرتها وزارة العدل الأمريكية عام 2010، أنه بين عامي 2005 و2009، كان عدد عملاء مكتب التحقيقات الفيدرالي المكلفين بالتحقيق في قضايا الإرهاب المحلي لا يتجاوز 330 في المتوسط، من إجمالي نحو ألفي عميل في قسم مكافحة الإرهاب.
الشركات تدفع الحكومة لمطاردة الحركات المناصرة للبيئة، والضباط عنصريون بالفطرة
وليس قرار عدم التركيز على المتشددين البيض أو الإرهاب المحلي مجرد قرارٍ استراتيجي. إذ قال جيرمان إن تأثير المال والشركات الكبرى كان له دوره، حيث ضغطت الصناعات سياسياً على المشرعين ومكتب التحقيقات الفيدرالي نفسه، من أجل مطاردة الجماعات الاحتجاجية المناهضة للرأسمالية والمناصرة للبيئة بدلاً من المتشددين المؤمنين بسيادة البيض.
وحين سعت الحكومة الأمريكية ووكالات الاستخبارات لتوسيع نطاق عمليات جمع المعلومات الاستخباراتية عقب 11 سبتمبر/أيلول، حصلت الشركات الكبرى على ورقة تفاوض أخرى، بحسب جيرمان، مما أرسل بقضية المتشددين البيض واليمين المتشدد عموماً إلى أسفل قائمة الأولويات.
وقال جيرمان: "تُسيطر الشركات الكبرى على كثير من المعلومات الشخصية الخاصة بالأمريكيين، وقد بات الوصول إلى تلك المعلومات أمراً مهماً بالنسبة لمكتب التحقيقات الفيدرالي، لذا صار على المكتب أن يسترضي تلك الشركات بطريقةٍ أو بأخرى. علاوةً على حقيقة وجود مشكلات عنصرية متأصلة داخل مكتب التحقيقات الفيدرالي، حيث ماتزال الوكالة تعتبر منظمةً يُهيمن عليها الذكور البيض بشكلٍ كبير".
أخيراً اعترفوا بأن مشكلة اليمين المتشدد أخطر تهديد لأمريكا
وظهرت في عام 2020، مؤشرات على توجيه مزيدٍ من الاهتمام لمشكلة اليمين المتشدد، حين قالت وزارة الأمن الداخلي إن المتشددين البيض يُمثلون "أكبر تهديدٍ قائم ومُميت على أرض أمريكا".
لكن ذلك التقرير صدر بعد أيامٍ فقط من تصريحات دونالد ترامب خلال حملته الانتخابية، حين طالب جماعةَ براود بويز "الأولاد الفخورين" المتشددة بالدخول في حالة "تأهّب"، حيث كان ترامب عازفاً بشدة عن إدانة عنف المتشددين البيض، كما رأى كثيرون أن تصريحاته عقب أحداث تشارلوتسفيل أضفت غطاءً من الشرعية على أفعال اليمين المتشدد. وفي خضم جائحة كوفيد، وبالتحديد في أبريل/نيسان عام 2020، طالب ترامب أنصاره بـ"تحرير ميشيغان!" بعد أن فرض حاكمها الديمقراطي أوامر البقاء في المنزل لتقليل العدوى.
ويُمكن القول إن أحداث العنف في ميشيغان كانت مجرد مقدمةٍ قاتمة لأحداث السادس من يناير/كانون الثاني عام 2021، حين ظهرت حركة اليمين المتشدد في واشنطن العاصمة وهاجمت مبنى "الكابيتول" مقر الكونغرس.
لكن جو بايدن لم يتردد مثل سلفه، في الحديث بوضوح عن خطورة هذه الأيديولوجية على المواطنين الأمريكيين، حيث قال في يونيو/حزيران، إن المتشددين البيض "أكبر تهديدٍ مميت" على حياة الأمريكيين، وفي الشهر نفسه أعلنت إدارته عن خطةٍ شاملة جديدة لعلاج المشكلة.
صحيفة Washington Post الأمريكية تناولت الجدال حول الخطر الداهم الذي يتعين على بايدن والغرب مواجهته وهو اليمين المتطرف، إذ أدت خمس سنوات من الترامبية (منذ ظهور ترامب على الساحة السياسية وفوزه بالرئاسة ثم خسارته في الانتخابات الأخيرة) إلى تسريع النقاش حول تهديد متشددي اليمين المتطرف عبر الديمقراطيات الغربية، فمن ألمانيا إلى نيوزيلندا إلى الولايات المتحدة، شن مسلحون يمينيون متطرفون هجمات إرهابية دموية. وكانت كراهيتهم للمهاجرين والليبراليين هي من حركتهم، وفي بعض الحالات يمكن رسم خط من تطرفهم إلى خطاب ترامب التحريضي.
أنصار ترامب يدافعون عن متشدد هدد بتفجير الكونغرس
وربما رحل ترامب، لكن لا يبدو أن انصياع بعض الجمهوريين للمتشددين اليمينيين سوف يتوقف. حيث خرج علينا في أغسطس/آب، عضو الكونغرس، الجمهوري مو بروكس للدفاع عن أحد أنصار ترامب، الذي هدّد بتفجير مبنى الكابيتول.
وهذه لعبةٌ خطيرة من المتوقع أن تستمر، خاصةً في ظل صعود الترامبية والتشدد اليميني للهيمنة على الأوساط السياسية المحافظة، حسب صحيفة The Guardian.
إذ قال المحلل الاستراتيجي بي دبليو سينغر، الذي عمِل مستشاراً للجيش الأمريكي ومكتب التحقيقات الفيدرالي: "لقد تحولت التوجهات المتشددة التي كانت مرفوضة إلى جزءٍ مقبول من سياساتنا وإعلامنا. وهذه حقيقةٌ مُرة يرفض كثيرون القبول بها. وهذا لم يبدأ في السادس من يناير/كانون الثاني الماضي، ولكن قبلها بسنوات حين تساهلنا مع وجهات النظر المتشددة تلك أول مرة، ثم احتفينا بها، لأنّها تزيد التفاعل مع الأخبار وتحصد أصواتاً أكثر".