اتسمت العلاقات بين الصين والهند بالتوتر والصراع على مدى أكثر من 6 عقود، وكشف كتاب جديد لوزير خارجية هندي أسبق أسراراً وتفاصيل تخص كواليس تلك العلاقة وكيفية تفوق بكين على نيودلهي.
وتناول تقرير لمجلة Foreign Policy الأمريكية أبرز ما كشفه كتاب وزير الخارجية الهندي الأسبق فيجاي جوخال، وأبرز محطات الصراع الصيني الهندي، الذي يشبه إلى حد كبير لعبة الشطرنج بين العملاقين الآسيويين.
وكانت العلاقات بين بكين ونيودلهي قد شهدت انخفاضاً كبيراً في المرحلة الحالية، بعد أن تراوحت بين الصعود والهبوط منذ أواخر الخمسينيات. ففي يونيو/حزيران 2020، دخل البلدان في أول مواجهةٍ دموية منذ زهاء الأربعة عقود، حيث وقعت اشتباكات بين الجيش الهندي والجيش الصيني في وادي جالوان بمنطقة لداخ المتنازع عليها. ولقي 20 جندياً هندياً وعدد غير معروف من القوات الصينية مصرعهم. ولكن المواجهة لم تنته بعد رغم الاجتماعات العديدة بين القادة المحليين.
لعبة الشطرنج بين الصين والهند
وقد جعلت هذه العلاقة المشحونة بين اثنتين من القوى الكبرى في آسيا من كتاب جوخال "اللعبة الطويلة: كيف يتفاوض الصينيون مع الهند The Long Game: How the Chinese Negotiate with India" كتاباً موضوعياً ولا يُقدّر بثمن.
إذ ليس هناك عملٌ آخر -أكاديمي أو غير ذلك- يتناول تحديداً سلوكيات الصين التفاوضية مع الهند بهذا المستوى من التحليل. كما أن جوخال، الذي عمل سفيراً هندياً في الصين بين عام 2016 و2017، يتمتع بموقعٍ فريدٍ من نوعه يسمح له بالاستفادة من معرفته الشخصية الكبيرة بالموضوع. ورغم تقاعده الآن، لكن وجهات نظر جوخال تُقدّم دلالات مهمة عن رأي الحكومة الهندية الحالية فيما يتعلق بالصين.
وتتبنى الكثير من الكتابات حول العلاقات الصينية الهندية نهجاً قائماً على الترتيب الزمني، لكن جوخال ركز على ست حلقات بارزة منذ عام 1949، والتي كانت لها تداعيات شديدة الأهمية على السياسات المعاصرة للبلدين.
وتشمل تلك الحلقات الست قرار الهند الاعتراف بجمهورية الصين الشعبية، والغزو الصيني للتبت، والتجارب النووية الهندية عام 1998، وضمّ الهند لمملكة سيكيم في جبال الهيمالايا، والاتفاق النووي المدني بين الهند والولايات المتحدة، وجهود الهند الناجحة لإضافة الباكستاني مسعود أظهر إلى قوائم الأمم المتحدة للإرهاب. وتكشف كل حلقةٍ منها عن رؤى مهمة لسلوكيات الصين التفاوضية، مثل الاستخدام الممنهج للقنوات غير الرسمية من أجل التعبير عن الاستياء إزاء قضيةٍ ما.
كيف تدير الصين مفاوضاتها مع الهند؟
ورغم الكثير من الكتابات عن التنافس المتزايد بين الهند والصين، لكن جوخال لم يسلك المسار نفسه. ويستعرض بدلاً من ذلك التفاصيل غير المعروفة عن المفاوضات الثنائية في كل من القضايا الست المذكورة.
وبعكس الكثير من زملائه السابقين في وزارة الخارجية، فإن جوخال جريء ويكتب بصراحةٍ مدهشة. حيث كشف مثلاً أنّ عرض الهند توقيع اتفاق "الضربة الأولى" مع الصين عقب الاختبارات النووية الهندية عام 1998 كان مجرد خدعة، لأنّ الحكومة الهندية كانت تعرف أنّ بكين سترفض العرض، لكنها أرادت الظهور بمظهرٍ أكثر مرونة وتصالحاً.
كما يتناول الكتاب مسألة اعتراف نيودلهي بجمهورية الصين الشعبية عام 1949، التي قال عنها جوخال إنّها كانت أبعد ما يكون عن الوضوح. ورغم تفضيل البعض في دوائر السياسة الخارجية الهندية الاعتراف المبكر، لكن آخرين كانوا أكثر حذراً ودعوا إلى ضبط النفس.
وربما انتصر رأي من يفضلون الاعتراف المبكر في النهاية -ولكن دون حل لمخاوف الهند الكبرى: بدءاً من وضع التبت ووصولاً إلى حدود الهند المباشرة مع الصين. ويعزو جوخال ذلك الفشل إلى هيمنة رئيس الوزراء الهندي آنذاك جواهر لال نهرو على شؤون السياسة الخارجية، والضعف المؤسسي لأجهزة صنع السياسة الخارجية.
ونتيجةً لذلك، سلّمت الهند الكثير من الأموال والممتلكات التي استحوذ عليها الحزب القومي الصيني (الكومينتانغ) في السابق إلى النظام الجديد دون أي توضيح بشأن مسألة الحدود. وبرضوخ الهند لمطالب الحكومة الجديدة المستمرة، فقد منحت للصين الأفضلية في وقتٍ مبكر.
استيلاء الصين على التبت وخداع الهند
وتفوّقت الصين من جديد على الدبلوماسيين الهنود بعد الاستيلاء على التبت عام 1950، حيث جادل جوخال بأنّ هدف الصين الأساسي بعد غزو جيشها للتبت واحتلالها كان القضاء على أي مظهر من مظاهر الحكم الذاتي الذي تمتّعت به المنطقة ذات يوم.
وبفضل تراثها الاستعماري البريطاني، كانت الهند قد ورثت بعض الامتيازات المحددة خارج حدودها في التبت، وهذا يشمل بعض مواقع التجارة والتمثيل القنصلي في العاصمة لاسا.
ومرةً أخرى أثبتت الصين براعتها في التعامل مع الهند. حيث أكّد رئيس الوزراء الصيني آنذاك للسفير الهندي حينها شفهياً أنّ بكين سوف تحترم مصالح نيودلهي في التبت. ولكن بمجرد غزو الصين للمنطقة، تراجع المسؤولون الصينيون عن وعودهم وضغطوا على الهند من أجل التخلّي عن امتيازاتها هناك.
ويجادل الكتاب بأنّ الهند قد صارت أكثر ذكاءً في التعامل مع الصين خلال الفترة التي أعقبت الحرب الباردة؛ حيث تبنّت الصين موقفاً متشدداً على نحوٍ خاص تجاه الهند عقب التجارب النووية التي أجرتها في مايو/أيار عام 1998.
وسعت بكين إلى التعاون مع واشنطن لفرض عزلةٍ على نيودلهي، والعمل المشترك من أجل الضغط عليها للتخلي عن ترسانتها النووية. لدرجة أنّها استغلت علاقاتها بالأحزاب الشيوعية الهندية لمحاولة التأثير على السياسة الهندية في العديد من القضايا الحاسمة أثناء مناقشتها.
ومع ذلك، كشف جوخال كيف نجح صناع السياسة الهنود ببراعة في تجاوز الضغوط الإقليمية والدولية. وبعد عدة جولات من المحادثات بين وزير الحكومة الهندية ونائب وزير الخارجية الأمريكي آنذاك، نجحت الهند في الاحتفاظ بترسانتها النووية الوليدة مع تقديم تنازلات بسيطة للولايات المتحدة.
كيف يمكن للهند أن تغير المعادلة؟
ويتطرّق الجزء الأخير من كتاب جوخال إلى الدروس الأساسية التي يمكن للهند تعلّمها من تاريخ تعاملاتها الطويل مع الصين، حيث حدّد جوخال الاستراتيجيات التي تستخدمها الصين باستمرار في الأروقة الدبلوماسية سواء مع الهند أو آخرين.
وتشمل تلك الاستراتيجيات: التحضيرات الدقيقة قبل بدء المفاوضات، ومحاولات فرض جدول الأعمال منذ البداية، واستخدام القنوات غير الرسمية للتأثير على الرأي العام، واختيار وجهات الاجتماعات بعناية، وتحديد معايير للطرف الآخر قبل بدء المحادثات. ويُمكن للاهتمام الدقيق بهذه السلوكيات البارزة أن يُمكّن الدبلوماسيين الهنود الحاليين والمستقبليين من تجنّب الإخفاقات المحتملة.
ويدق الكتاب جرساً مهماً لكافة صناع السياسة الهنود الحاليين. فبالنظر إلى براعة الصين في التفاوض مع الهند، نجد أنّ الدبلوماسيين بحاجةٍ إلى اليقظة فيما يتعلّق بالسياسات التي استُخدِمَت ضدهم في الماضي. ولا ينبغي أن يقعوا في فخ التأكيدات الشفهية الصينية أو يسمحوا لبكين بالتأثير على السياسات المحلية الهندية، كما يجب أن يُطوّروا فهماً أكبر لأساليب عمل الصين.
وفي هذا الوقت المشحون تحديداً من العلاقات الصينية-الهندية، نجد أنّ رواية جوخال الدقيقة والمستنيرة تُقدم دليلاً مفيداً وعملياً لزملائه السابقين في وزارة الخارجية بينما يُواجهون تحديات متواصلة من جانب الصين. وعلى غرار جوخال، عليهم أولاً تعريف أنفسهم على سياسات بكين المعاصرة.
وفي ظل الحرب الباردة المستعرة الآن بين الصين والولايات المتحدة الأمريكية، يكتسب كتاب جوخال أهمية خاصة، بحسب كثير من المحللين الأمريكيين والغربيين، إذ إن استراتيجيات الصين التفاوضية لا تزال هي المهيمنة على جميع أوجه التنافس مع واشنطن، ويبدو أن الصين تحقق كثيراً من أهدافها مقابل التراجع الأمريكي الواضح.