أصبحت بنجشير الولاية الوحيدة التي لم تسيطر عليها حركة طالبان بعد، فهل تتحول المنطقة التي ظلت بعيدة عن سيطرة الحركة في حكمها الأول لأفغانستان إلى بؤرة مقاومة مرة تطيل أمد الحرب مرة أخرى؟
وتقع ولاية بنجشير شمال شرق العاصمة الأفغانية كابول وتبعد عنها حوالي 150 كلم، وللمنطقة -وخاصة واديها- قصة طويلة من القتال والصمود منذ الإمبراطورية البريطانية ثم القوات السوفييتية، وحتى طالبان لم تتمكن من السيطرة على المنطقة خلال حكم الحركة لأفغانستان قبل الغزو الأمريكي.
وخلال الأشهر القليلة الماضية تمكنت طالبان من فرض سيطرتها على أفغانستان بسرعة قياسية حتى دخولها العاصمة كابول الأحد 15 أغسطس/آب وفرار الرئيس أشرف غني، ولم يتبقّ خارج سيطرة الحركة سوى بنجشير، التي يوجد فيها أمر الله صالح نائب الرئيس الهارب، وأحمد مسعود نجل أحمد شاه مسعود الزعيم الأشهر للمقاومة الأفغانية ضد الاحتلال السوفييتي.
بنجشير.. وادي الأسود
ولإقليم بنجشير تحديداً قصة وتاريخ يتباهى به الأفغان منذ مئات السنين، إذ تقع المنطقة شمال شرق العاصمة كابول، بالقرب من الحدود الأفغانية الباكستانية، وتبلغ مساحتها 3610 كيلومترات مربعة، وعدد سكانها 173 ألف نسمة وغالبيتهم من قومية الطاجيك التي ينتمي إليها أحمد مسعود أيضاً.
يُعرف الإقليم باسم "بنجشير" وتعني خمسة أسود باللغة الفارسية، لكن العرب يطلقون عليها اختصاراً اسم بنشير. ويشار إليه باسم وادي بنشير لأنه محاط بالجبال الشاهقة.
والاسم -حسب رواية الأفغان- مشتق من قصة تعود إلى القرن العاشر، حيث تمكن خمسة إخوة من وضع سد أمام مياه الفيضانات المتدفقة إلى الوادي في عهد السلطان محمود غزنة، فأطلق على الإخوة الخمسة لقب "الأسود الخمسة"، حسب تقرير لهيئة الإذاعة البريطانية BBC. ويتميز إقليم بنجشير بالجبال الشاهقة والأنهار العذبة والجمال الطبيعي الخلاب، وقد اكتسب الوادي مكانة مهمة لدى الأفغان.
مقاومة الاحتلال البريطاني والسوفييتي
وتوجد في الوادي الكثير من الأنفاق التي كانت ولا تزال ملاذاً وحصناً منيعاً للمقاومة ضد الأسلحة الجوية، إلى جانب التضاريس الوعرة والكهوف والأنهار والجبال الشاهقة. وظل وادي بنجشير، بقيادة أحمد شاه مسعود، عصياً على الروس خلال السنوات العشر من الغزو السوفييتي حتى انسحبت القوات السوفييتية من هناك دون أن تتمكن أبداً من السيطرة على الإقليم.
ووصف مارك غاليوتي، وهو بروفيسور وخبير في الشأن الروسي، في كتابه عن دفاع شاه مسعود عن هذه المنطقة الاستراتيجية بعبارة: "الأسد يروض الدب في أفغانستان". لكن قصة وادي الأسود الخمسة العصي على الغزاة ترجع إلى القرن التاسع عشر، إذ ظلت المنطقة بمنأى عن الإمبراطورية البريطانية أثناء محاولتها غزو أفغانستان.
وبعد أن اشتعلت الحرب الأهلية في أفغانستان بعد الانسحاب السوفييتي ونجاح حركة طالبان في فرض سيطرتها على البلاد وحكمها في الفترة من 1996-2001، قاد أحمد شاه مسعود المقاومة ضد الحركة طالبان، التي لم تتمكن بدورها من السيطرة على المنطقة رغم سيطرتها على البلاد كاملة.
وخلال تلك الفترة، جمع شاه مسعود مختلف الفصائل الأفغانية، وأنشأ التحالف الشمالي، الذي سيطر على شمال وشرق البلاد.
وربما يعود سبب عدم قدرة طالبان على بناء قاعدة جماهيرية لها في هذا الإقليم، إلى كون غالبية أنصار الحركة ينتمون إلى قومية البشتون، الذين يمثلون أغلبية بين سكان البلاد، بينما ينتمي سكان إقليم بنجشير إلى قومية الطاجيك، لذلك لم تلقَ طالبان ترحيباً في هذه المنطقة، بحسب مراقبين.
ويبلغ تعداد السكان في أفغانستان نحو 37.4 مليون نسمة -بحسب أحدث إحصاء- منهم نحو 3 ملايين لاجئ يتركزون في باكستان وإيران. وأبرز القوميات أو العرقيات البشتون، وهم يمثلون نحو 40 إلى 50% من السكان، وإليهم تنتمي حركة طالبان، وعرقية الطاجيك ويمثلون نحو 35%، ثم الهزارة والأوزبك ويمثل كلاهما نحو 9% من السكان، إضافة إلى عرقيات أخرى من التركمان والفرس وغيرهما.
ما الوضع الآن في بنجشير؟
أمر الله صالح، الذي كان نائب الرئيس في حكومة الرئيس الأفغاني الهارب أشرف غني التي أطاحت بها طالبان والمقيم حالياً في بنجشير، قال الإثنين 23 أغسطس/آب على تويتر إن طالبان حشدت قوات بالقرب من مدخل الوادي. ولا تزال المنطقة، حتى الآن، تخضع لسيطرة جبهة المقاومة الوطنية، التي أسسها أحمد مسعود.
وكان والده أحمد شاه مسعود، قائد حرب قوي قاد المقاومة ضد الاتحاد السوفييتي، ثم قاد الجناح العسكري للحكومة الأفغانية ضد الميليشيات المنافسة في تسعينيات القرن الماضي. وبعد سيطرة طالبان، كان القائد الرئيسي للمعارضة ضد حكمهم، حتى اغتيل على يد تنظيم القاعدة عام 2001.
ويحتضن وادي بنجشير ضريح أحمد شاه مسعود، الذي لُقب بـ"أسد بنجشير"، ويفخر سكان الإقليم بمقاومتهم لطالبان والسوفييت وغيرهم وبقائه إقليماً سلمياً إلى حد ما.
وكان المتحدث باسم طالبان ذبيح الله مجاهد، قد صرح في 22 أغسطس/آب، بأن قوات الحركة تحاصر المدينة، مشيراً إلى أن المفاوضات مستمرة من أجل استسلام القوات داخل بنجشير، وتسليمها لطالبان، لافتًا إلى أن الحركة ترغب في حل مشكلة المدينة عن طريق المفاوضات.
وفي مقابلة خاصة مع "عربي بوست" قال المتحدث باسم المكتب السياسي لحركة طالبان، محمد نعيم: "بعض مديريات ولاية بنجشير تخضع بالفعل لسيطرة طالبان، وهناك جزء بسيط منها لم يخضع لنا حتى الآن، إلا أن هذه المشكلة سيتم حلها قريباً بالحوار خلال الأيام المقبلة، لكن إذا لم تنجح محاولات الحوار والتفاهم السلمي فآخر الدواء الكي كما هو معروف".
ويسيطر مسلحون تابعون لمسعود على مداخل ومخارج المدينة ذات الأهمية الاستراتيجية، والمحاطة بالجبال العالية، ويتفقدون كل من يدخل ويخرج منها. وتمتلئ جوانب الطرقات في بنجشير بحطام المركبات المدرعة التي تم تدميرها خلال المحاولات الفاشلة لقوات الاتحاد السوفييتي لاحتلال المدينة. وغير معروف بالضبط عدد قوات مسعود التي تقاوم مسلحي طالبان في بنجشير.
ما فرص صمود بنجشير أمام طالبان هذه المرة؟
المتحدث باسم قوات أحمد مسعود قال لـ"بي بي سي" إن بنجشير تشهد في الآونة الأخيرة تدفقاً لقوات المقاومة المحلية من جميع أنحاء البلاد، الذين انضموا إلى مقاتلين سبق تدريبهم محلياً، مضيفاً أن الجماعة لديها "آلاف القوات الجاهزة للمقاومة"، لكنَّ "بي بي سي" لم تتحقق بشكل مستقل من هذا الادعاء.
وأضاف المتحدث: "لكننا نفضل مواصلة السلام والمفاوضات قبل أي نوع من الحرب والصراع". وتهدف جبهة المقاومة الوطنية إلى تحقيق شكل لا مركزي من الحكم في البلاد.
"جبهة المقاومة الوطنية تعتقد أنه من أجل تحقيق سلام دائم، يتعين علينا معالجة المشكلات الأساسية في أفغانستان. أفغانستان دولة مكونة من أقليات عرقية، ولا أحد يمثل أغلبية. إنها دولة متعددة الثقافات، لذا فهي بحاجة إلى تقاسم السلطة، ومع اتفاق لتقاسم السلطة يرى الجميع أنفسهم ممثلين في السلطة".
طالبان، من جانبها، تؤكد أيضاً رغبتها في عدم سفك دماء الأفغان وتريد إنهاء الموقف في بنجشير بصورة سلمية، لكن قادة الحركة قالوا أيضاً إنهم لا يمكن أن يسمحوا بوجود منطقة مسلحة خارج سيطرتهم؛ لأن ذلك يعني استمرار الاضطرابات ويفتح الباب من جديد أمام التدخلات الخارجية.
وبالتالي فإن السؤال الآن يتعلق بمدى قدرة أحمد مسعود على الصمود في مواجهة مقاتلي طالبان هذه المرة، على غرار نجاح والده طوال حكم الحركة قبل أن يطيح بها الغزو الأمريكي.
التحالف الشمالي، الذي كان شاه مسعود قد أسسه، كان يمثل أكثر من 30% من سكان أفغانستان. وجذب صمود التحالف ومقاومته لطالبان لسنوات عدة، الولايات المتحدة التي بدأت بدعم تلك القوات البرية للسيطرة على بقية البلاد والإطاحة بطالبان من السلطة.
ورغم أنه كان عصياً على القوى المتتالية على مر عقود من الزمن، فإن وادي بنجشير الذي يسعى إلى إطلاق مقاومة جديدة اليوم، محاط بقوات طالبان، كما أنه من غير المرجح أن تتدخل كل من الولايات المتحدة وروسيا -القوتين العظميين- مرة أخرى، عدا عن تقارب الإيرانيين (الذين كانوا مع المقاومة أيام التحالف الشمالي) مع طالبان اليوم.
وهذا يعني أن مصادر القوة التي يتمتع بها أحمد مسعود الآن تختلف عن تلك التي تمتع بها والده في حقبة السوفييت وطالبان في السابق. وكتب أحمد مسعود مقالاً قال فيه: "لدينا مخازن ذخيرة وأسلحة جمعناها بصبر منذ عهد والدي، لأننا علمنا أن هذا اليوم قد يأتي، لكن إذا شنت طالبان هجوماً عسكرياً، فلن تكون قواتنا العسكرية ولوجستياتنا كافية، وستنضب بسرعة ما لم يمد أصدقاؤنا في الغرب يد المساعدة لنا دون تأخير".
وحتى الآن، لم تحاول طالبان دخول بنجشير، لكنها تحاصره من كل الجوانب. فهل تستطيع الحركة ترويض "الأسود" التي لم يستطِع الدب الروسي ترويضها من قبل؟