بعد أسبوع من سيطرة حركة طالبان على العاصمة كابول، تتواصل عمليات إجلاء أفغان عملوا مع الأمريكيين عبر المطار، في تذكيرٍ بعملية انسحاب "دونكيرك" قبل 80 عاماً.
ودونكيرك هو ميناء فرنسي تجمّع فيه وعلى سواحله مئات الآلاف من قوات الحلفاء أثناء الحرب العالمية الثانية، وكانوا مهددين بالأسر أو القتل من جانب القوات الألمانية التي اكتسحت أوروبا في بداية الحرب.
وبعد أن تمكنت القوات الألمانية من الانتصار على مختلف الجبهات في أوروبا، تجمعت فلول القوات البريطانية والفرنسية المنهزمة في ميناء دونكيرك وعلى سواحله، لتتم عملية إجلاء ضخمة لم تشارك فيها القطع البحرية البريطانية وحسب، بل شارك فيها كل مواطن يمتلك ولو قارب صيد صغيراً.
ماذا يحدث في مطار كابول؟
وفي ظل ما يشهده مطار حامد كرزاي الدولي في العاصمة الأفغانية كابول منذ الأحد 15 أغسطس/آب من محاولات لإجلاء الآلاف من الأفغان الذين عملوا مع القوات الأمريكية والغربية والحكومة الأفغانية المدعومة من الغرب، تنعقد مقارنات مع "عملية انسحاب دونكيرك".
ونشرت مجلة Foreign Policy الأمريكية تقريراً حول تلك العملية اللوجستية المعقدة بعنوان "عملية رقمية على غرار "انسحاب دونكيرك" لإجلاء الحلفاء الأفغان"، تناول بعضاً من تلك الفوضى التي تسبب فيها الفشل العسكري والاستخباراتي الأمريكي بعد 20 عاماً من غزو أفغانستان.
وكشهادة دامغة على فشل إدارة بايدن في توقع السرعة التي ستستحوذ بها حركة طالبان على السلطة في أفغانستان من جديد بعد الانسحاب، والاضطرار لإجلاء عشرات الآلاف من المواطنين الأمريكيين والحلفاء الأفغان، يشارك كثير من العسكريين القدامى في عمليات الإجلاء عبر التواصل مع من عملوا معهم من الأفغان ومساعدتهم على الوصول إلى المطار وإيجاد مقعد على إحدى رحلات الإجلاء.
كان مايك جيسون، وهو عقيد متقاعد بالجيش الأمريكي، قد التحق بمعهد الدراسات الدفاعية العليا في روما مع الضابط الأفغاني منذ سنوات. وخلال الأسبوع الجاري، عندما أنهت طالبان الاستيلاء الدراماتيكي على أفغانستان، تلقى رسالة تفيد بأنَّ الضابط قد اختبأ.
وبالنسبة لجيسون، بدأ الأمر كله بمحاولة مساعدة الضابط الكبير في الجيش الأفغاني على الخروج من أفغانستان بعد سيطرة طالبان على مقاليد الأمور.
لكن منذ ذلك الحين، كان هو ومئات من قدامى المحاربين الأمريكيين الآخرين، بمن فيهم خريجو أكاديمية ويست بوينت العسكرية الأمريكية، يحشدون الدعم لصالح الأفغان في "عملية دونكيرك رقمية"، كما يسميها البعض، على غرار عملية الانسحاب التي نفذتها سفن خاصة عقب جهود الحرب العالمية الثانية لإخلاء القوات البريطانية وقوات الحلفاء الأخرى من الميناء الفرنسي المحاصر.
فوضى مطار كابول
الفوضى التي يشهدها مطار كابول منذ الأحد الماضي، في ظل تدافع الآلاف للمغادرة، تجعل الإجلاء عملية معقدة من الناحية اللوجستية، خصوصاً أن الساعين للمغادرة بينهم أفغان وأجانب وأعدادهم ضخمة والجهات التي تتولى تقرير من يدخل المطار ومن لا يدخل كثيرة والتنسيق يكاد يكون غائباً.
وقال جيسون لمجلة Foreign Policy: "لقد أنشأنا للتو هذه الشبكة لمعرفة من الذي سيأخذ صديقي عبر البوابة [في مطار كابول]. لكننا أدركنا أنَّ هناك آخرين كُثر يفعلون نفس الشيء".
ونمت الشبكة بسرعة لتشمل آخرين عملوا مع الأفغان على مر السنين، ويجدون أنفسهم الآن يتألمون من مخاطر الانتقام التي قد يتعرض لها أصدقاؤهم وزملاؤهم السابقون في جميع أنحاء أفغانستان.
من هم الأفغان الراغبون في المغادرة؟
قال نيك كالبوس، خريج ويست بوينت الذي خدم في أفغانستان في عامي 2012 و2013 للمجلة الأمريكية: "إنها تشمل كل شيء من صانعي السياسات السابقين إلى العاملين في المنظمات غير الحكومية إلى الأكاديميين والموظفين على الأرض في مطار حامد كرزاي الدولي في كابول". وأسست شبكة من خريجي أكاديمية ويست بوينت موقعاً باسم Allied Airlift 21 يقدم إرشادات خطوة بخطوة للأفغان الراغبين في الخروج.
وانضم للجهود أيضاً كيرك جونسون، الذي عمل في الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية في العراق ثم أسس فيما بعد منظمة غير ربحية تساعد في إعادة توطين العراقيين المعرضين للخطر بسبب عملهم مع الولايات المتحدة. وقال لفورين بوليسي: "نشعر وكأننا نُشغِّل إحدى ألعاب arcade claw من على بعد نحو 7000 ميل (11265.41 كيلومتر)".
وأمضى جونسون نحو 12 ساعة يوم الأربعاء، 18 أغسطس/آب، في محاولة لإدخال شخص واحد فقط إلى أرض المطار، وهي أم لمواطن أمريكي تبلغ من العمر 60 عاماً، التي عَمِل زوجها في الولايات المتحدة لمدة 19 عاماً، وقال جونسون إن مقاتلين من حركة طالبان ذهبوا بالفعل إلى منزلهم ليسألوا عن مكان وجوده. (رفض جونسون تسمية أفراد الأسرة بسبب مخاوف أمنية).
ويوم الأربعاء، بعد تمزيق الصور التي تظهر فيها أفراد عائلة المرأة مع الأمريكيين، التي قال جونسون إنَّ عقوبتها قد تصل إلى حد "الإعدام" إذا عُثِر عليها، شقت المرأة طريقها إلى المطار بينما كان جونسون يتواصل مع جهات اتصال في وزارة الخارجية لمحاولة ضمان أن يسمح لها شخص ما بالدخول من البوابة.
وقال جونسون: "قالت الأم إنَّ الحشود داست عليها، وتدافعتها في درجة حرارة مرتفعة للغاية وبعد نحو خمس أو ست ساعات استسلمت". واكتشفت ابنة المرأة في وقت لاحق أنَّ والدتها قد أغمي عليها لفترة وجيزة بسبب الانسحاق في الحشد.
وتابع جونسون: "اعتقدت في البداية أنَّ (عملية دونكيرك الرقمية) تسمية مقنعة، لكن في دونكيرك كانت هناك قوارب، واستطاع الناس الذهاب إلى الشاطئ والصعود إلى متنها ببساطة. نحن نتحدث هنا عن بلد غير ساحلي محاصر فيه الناس".
العملية مستمرة، لكن إلى متى؟
بدورها، قالت كريستينا تامايو، وهي محاربة عسكرية أمريكية مشاركة في شبكة Allied Airlift 21، إنَّ أحد أكبر التحديات هو الحفاظ على معنويات الناس أثناء انتظارهم عند بوابات مطار كابول وسط حرارة شديدة وحشود كبيرة ومسلحين من طالبان. وأكدت: "الأمر يتعلق بالأمل. يجب أن تمنحهم إياه".
وأضافت كريستينا أنها تقضي أيامها في التحدث إلى المسؤولين ومساعدي الكونغرس في واشنطن. وقالت إنَّ الساعات الأولى من المساء هي "وقت انطلاق العمل" التي تتزامن مع بزوغ الفجر في كابول. وبعد ذلك، "نقضي ليالي جامحة في التحدث إلى الأصول الموجودة على الأرض".
وخلال 20 عاماً من الحرب، عمل مئات الآلاف من الأفغان مع الأمريكيين في البلاد، أو مع الحكومة الأفغانية المتحالفة، أو مع المتعاقدين الأمريكيين من القطاع الخاص. لكن العديد منهم فقدوا الاتصال بأرباب عملهم السابقين أو لا يمتلكون المهارات اللغوية للوصول إلى أولئك الموجودين في الولايات المتحدة.
وقال آدم دي ماركو، وهو خريج آخر من ويست بوينت خدم في كل من العراق وأفغانستان، إنَّ جهود الإجلاء ساعدت في منح العديد من المحاربين القدامى إحساساً متجدداً بالالتزام تجاه إنهاء المهمة في ظل استعادة طالبان السيطرة على البلاد.
ويوم الثلاثاء 17 أغسطس/آب، عندما أُخطِرَت مجموعة ويست بوينت بالإخلاء الناجح لثلاثة من خريجي الأكاديمية العسكرية الأفغان الذين كانوا يساعدونهم مع أسرهم، أي ما مجموعه 19 شخصاً، قال دي ماركو إنه انهار من البكاء. وأضاف: "كان ذلك مبعثاً كبيراً على الراحة".
ترامب يواصل انتقاده اللاذع لبايدن
وفي الدردشات الجماعية، كانت الفرحة ملموسة. وأوضح دي ماركو: "اعتقد الجميع أنَّ مجتمع قدامى المحاربين سيجتاحه شعورٌ بالنكبة. نعم، لقد كنا كذلك لبعض الوقت، لكن بعدها أدركنا أنَّ لدينا مهمة أخرى". وأضاف: "هناك مصطلح عسكري يسمى: تشارلي مايك، الذي يعني مواصلة المهمة".
وتواجه الإدارة الأمريكية انتقادات حادة من الجميع، داخل وخارج الولايات المتحدة، بسبب السهولة والسرعة التي استولت بها طالبان على أفغانستان بالكامل، عكس التقديرات الاستخباراتية التي زعمت أن ذلك قد لا يحدث إلى خلال 3 إلى 6 أشهر بعد الانسحاب الأمريكي.
وجدد الرئيس السابق دونالد ترامب السبت 21 أغسطس/آب هجومه اللاذع على بايدن بسبب تعامل الأخير مع انسحاب القوات الأمريكية من أفغانستان، واصفاً ما حدث بأنه "أكبر إذلال للسياسة الخارجية" في تاريخ الولايات المتحدة.
وقال ترامب في تجمع حاشد لمؤيديه بولاية ألاباما: "خروج بايدن الفاشل من أفغانستان هو العرض الأكثر إثارة للدهشة لعدم الكفاءة الفادحة لزعيم الأمة على مر التاريخ".
وألقى ترامب باللوم على بايدن لعدم اتباع الخطة التي توصلت إليها إدارته، وتحسّر على الأفراد والمعدات الأمريكية التي تركت وراءها مع انسحاب القوات، قائلاً: "هذا ليس انسحاباً. هذا استسلام كامل".
كانت إدارة ترامب قد توصلت لاتفاق بين الحكومة الأفغانية برئاسة أشرف غني وحركة طالبان في الدوحة، يقضي بانسحاب القوات الأمريكية بنهاية أبريل/نيسان الماضي، مقابل وقف كامل لإطلاق النار بين الطرفين الأفغانيين والدخول في مفاوضات سلام لإنهاء الحرب في البلاد.
لكن بايدن قرر تأجيل الانسحاب الأمريكي ليتزامن مع الذكرى العشرين لهجمات الحادي عشر من سبتمبر/أيلول 2001، وهو ما أدى لانهيار محادثات السلام بين طالبان والحكومة الأفغانية، ومن ثم استيلاء الحركة على المدن والولايات الأفغانية، وآخرها العاصمة كابول، وهروب الرئيس أشرف غني، في مشهد مرير للأمريكيين وتذكير بما حدث في فيتنام من قبل.