سؤال الساعة.. هل تكون أفغانستان آخر كوارث استعراض أمريكا قوتها العسكرية حول العالم؟

عربي بوست
تم النشر: 2021/08/17 الساعة 16:57 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2021/08/22 الساعة 06:07 بتوقيت غرينتش
الانسحاب الأمريكي من أفغانستان، أرشيفية/ رويترز

ربما كان أبرز ما قاله الرئيس الأمريكي جو بايدن إن بلاده "لن تكرر أخطاء الماضي"، في معرض تبريره فشل الولايات المتحدة في أفغانستان، كما فشلت في فيتنام من قبل، فهل فعلاً لن تكرر أمريكا تلك المغامرات العسكرية؟

بعد أن وجد بايدن نفسه هدفاً لسهام النقد الحاد من جانب حلفائه، وما يمكن وصفه بالشماتة من جانب روسيا والصين، خلال الأيام القليلة الماضية التي شهدت سيطرة حركة طالبان على العاصمة الأفغانية كابول؛ لتعود إلى الحكم قبل أن يكتمل الانسحاب الأمريكي، قال الرئيس مساء الإثنين 16 أغسطس/آب إنه "لن يكرر أخطاء الماضي بالبقاء والقتال في صراع ليس في مصلحة الولايات المتحدة".

ويمكن القول إن خطاب بايدن وجد قبولاً واستحساناً من جانب غالبية الأمريكيين، بحسب ما أظهرته استطلاعات رأي تم إجراؤها صباح الثلاثاء 17 أغسطس/آب، وهو مؤشر على أن غالبية الأمريكيين، وليس السياسيين بطبيعة الحال، لا يريدون أن تتورط بلادهم مرة أخرى في تلك التجارب الفاشلة كفيتنام والعراق وأفغانستان.

لماذا يبدو وعد بايدن غير واقعي؟

في هذا السياق، نشر موقع Responsible Statecraft الأمريكي تقريراً عنوانه "لا تتسرع في حكمك.. الجيش الأمريكي سيواصل انتشاره بعد أفغانستان"، تناول الأسباب والجهات والاستراتيجية التي تقف وراء اتخاذ قرار الحرب، أو بالأحرى، الغزو، وكيف أن تلك المنظومة لا تزال قائمة دون تغيير.

لكن يبدو أنه من المحتمل جداً ألا تشكل خسارة أكثر من تريليوني دولار وعشرات الآلاف من أرواح الأمريكيين والحلفاء والأفغان رادعاً لتكرار الوصفة المؤكدة للفشل الاستراتيجي الأمريكي في بلد آخر في المستقبل.

وهذا ما كشفه تعبير الجنرال ريتشارد كلارك القائد الجديد لقيادة العمليات الخاصة، عندما قال: "لا أرى بالضرورة أنَّ هذه (أفغانستان) نهاية حقبة، بل جزء من حقبة جديدة مليئة بفرص لنا جميعاً".

بعبارة أخرى، ستسمح وزارتا الخارجية والدفاع لقيادة العمليات الخاصة في المستقبل باستخدام أجهزة الاستشعار والأقمار الصناعية والطائرات بدون طيار والقوات الأجنبية بالوكالة وجيوش العملاء الأجانب المجهزين بالتدريب والمعدات العسكرية التي توفرها الولايات المتحدة لغزو الأماكن غير الخاضعة للحكم أو الدول الفاشلة في إفريقيا وجنوب آسيا والشرق الأوسط وأمريكا اللاتينية وحوض الكاريبي.

قال بايدن إن أمريكا "لن تكرر أطاء الماضي"/ رويترز

وتشير عبارة "فرص لنا جميعاً" إلى وكالات الاستخبارات والصناعات الدفاعية والعديد من الكيانات المتعاقدة الداعمة، بما في ذلك المرتزقة، لإنشاء "قوات بجانب الأمريكية" للدفاع الداخلي والتنمية الأجنبية.

وبجانب المجموعة المذكورة أعلاه من المستفيدين المحتملين، ينبغي أيضاً إضافة أعضاء في الكونغرس من كلا الحزبين الذين يتلقون بانتظام مبالغ مالية ضخمة من مقاولي الصناعات الدفاعية من القطاع الخاص. فقد شهدت دورة الحملة السياسية في 2019-2020 تبرعات بأكثر من 30 مليون دولار من مقاولي الدفاع لمرشحي الحزبين الجمهوري والديمقراطي.

ويمكن أيضاً ربط النفقات الدفاعية الخاصة بالتمركز في دييغو غارسيا، وغوام، وأوكيناوا، وألمانيا، واليابان، وإيطاليا، وإفريقيا ومجموعة من المواقع الأخرى حول العالم، باستعراض القوة العسكرية الأمريكية في أفغانستان والشرق الأوسط الكبير. وحتى نفقات الدفاع هذه تتضاءل أمام المحرك الهائل للفساد داخل أفغانستان الذي أصرت سلسلة من المفتشين العامين مراراً على أنه يمثل تهديداً كبيراً للاستقرار والتقدم بنفس القدر الذي تمثله حركة طالبان.

لكن لسوء الحظ، نظراً لأنَّ نموذج تدخل قيادة العمليات الخاصة ومساعدتها لا يُلام أبداً على الإخفاقات الاستراتيجية التي ساعد في حدوثها، فإنَّ تمويله يستمر، ومن ثم قدرته على تكثيف التدخل العسكري المربح التالي. ولا يُنظَر إلا إلى السياسة الخاصة بالبلد وحدها على أنها فشل استراتيجي لأنه، على حد تعبير الجنرال ريتشارد كلارك، قائد قيادة العمليات الخاصة الأمريكية: "لا توجد نهاية محددة، ولن يخرج بالضرورة فائز".

قائمة طويلة من المستفيدين من المغامرات العسكرية

لكن كلارك تجاهل على ما يبدو الإشارة إلى فئة كبيرة أخرى من المستفيدين: كبار الرتب العسكرية في الخدمة، ولا سيما رتبة النجوم الأربعة (الجنرالات). من بين قوة الخدمة الفعلية المكونة من 1.12 مليون جندي وبحارة وطيار ومشاة البحرية، هناك 44 جنرالاً في الخدمة.

وفي ذروة الحرب العالمية الثانية، عندما طلب أعضاء في مجلس الشيوخ من القائد جورج مارشال ترقية أصدقائهم الضباط في الخدمة إلى أربعة نجوم، قال مارشال: "ليس لدي وقت للجدل. يجب أن أفوز في الحرب". وكما يوضح الجنرال كلارك، من غير المرجح أن يسمع الأمريكيون كلمات مارشال هذه الأيام.

وحقيقة الأمر أن التدخلات العسكرية تمثل مشروعات مربحة للجنرالات. من عام 2008 إلى عام 2018، كَنَزَ ما لا يقل عن 380 من كبار المسؤولين في وزارة الدفاع وضباط الجيش ثروات لأنفسهم من خلال تشكيل جماعات ضغط أو العمل في مناصب أعضاء مجلس إدارة أو مديرين تنفيذيين أو مستشارين لمقاولي الدفاع في غضون عامين من خلع زيهم الرسمي.

وفي عام 2001، عندما طغى التطبيق المتواضع للقوة العسكرية الأمريكية بسرعة على طالبان والقاعدة، سادت النشوة، على حد تعبير المؤرخ والناقد الاجتماعي الأمريكي آرثر شليزنغر. إذ اعتقد الرئيس بوش ودائرته الداخلية للحظة أنَّ العالم بلاستيكي وأنَّ المستقبل غير محدود.

زعيم القاعدة في المغرب العربي أبوعبيدة
الجنرال كينيث ماكنزي ، القائد في البنتاغون يتحدث لبعض الجنود- رويترز

لكن اليوم، تبدو هذه النشوة في غير محلها خاصة عندما يعتبر المرء أنَّ المهمة الأولية في أفغانستان كانت قتل أو اعتقال أقل من 500 فرد مرتبط بأسامة بن لادن والقاعدة، فلماذا ظلت القوات الأمريكية تحتل أفغانستان وتحارب هناك لمدة 20 عاماً؟

والسؤال نفسه بشأن سبب بقاء القوات الأمريكية في العراق بعد أسر صدام حسين ودائرته الداخلية بعد الغزو عام 2003 بعدة أشهر، يظل قائماً بلا إجابة، أو بالأحرى بلا إجابة منطقية أو مقبولة خارج دوائر المستفيدين من تلك الأوضاع.

لهذه الأسباب سوف تكرر أمريكا مغامراتها العسكرية

المؤلف ليدل هارت كان يجادل بأنَّ "الهدف في الحرب هو خلق حالة سلام أفضل- حتى لو كان ذلك من وجهة نظرك فقط. ومن ثم، فمن الضروري عند شن أي حرب أن يكون هناك تركيز مستمر على السلام الذي تريده".

وهذه بالتأكيد نصيحة سديدة، لكن كما أدرك الأمريكيون الآن، لم يكن الهدف الحقيقي للمهمة في أفغانستان له علاقة تُذكَر بتحسين حالة السلام، بل تتعلق أكثر بإيجاد طرق لتوسيع نطاق مخصصات الأموال والموارد والقوة العسكرية الأمريكية قدر الإمكان.

وفي هذا السياق، يمكن استرجاع ما قاله وزير الدفاع الأمريكي لويد أوستن بشأن كيف أن تركيز بلاده على الشرق الأوسط خلال العقدين الماضيين، أعطى الفرصة للصين للتركيز على تحديث قوتها العسكرية، مضيفاً: "سوف نحافظ على تفوقنا العسكري، وسوف نرفع من حجم هذا التفوق من الآن وصاعداً".

ومنذ تولي إدارة بايدن المسؤولية في يناير/كانون الثاني الماضي، لا يكاد يمر يوم واحد دون أن يخرج تصريح عن مسؤول بارز، أو يُقدم تقرير إلى الكونغرس أو وزارة الخارجية الأمريكية، محذراً من خطورة التهديد الذي تمثله الصين للولايات المتحدة، وحتمية تكثيف الاستعداد العسكري من جانب الأمريكيين للتصدي لهذا التهديد.

الحرب الأمريكية على العراق، أرشيفية/ رويترز

لكن كثيراً من المحللين، أغلبهم أمريكيون وغربيون، يعتقدون أن ذلك التوجه نحو تضخيم القوة العسكرية للصين تفنده الحقائق المجردة، وهذا ما عبر عنه فريد زكريا في مقال رأي نشرته صحيفة واشنطن بوست، رد فيه على تصريحات أوستن الخاصة بقوة الصين العسكرية.

وكتب زكريا: "ما يسميه أوستن تفوقاً عسكرياً على الصين هو في حقيقة الأمر هوة سحيقة بين الطرفين. تمتلك الولايات المتحدة رؤوساً نووية تزيد بعشرين ضعفاً عما تمتلكه الصين، كما تمتلك ضعف السفن الحربية أكثر من الصين، وتمتلك واشنطن 11 حاملة طائرات، تعمل بالطاقة النووية، مقابل حاملتي طائرات فقط لدى بكين (أقل تطوراً بكثير)".

"ويمتلك الجيش الأمريكي أكثر من ألفي مقاتلة متطورة مقابل نحو 600 مقاتلة فقط يمتلكها الجيش الصيني. وتنشر القوات الأمريكية تلك القوة المسلحة الفتاكة حول العالم من خلال نحو 800 قاعدة عسكرية، مقابل 3 قواعد فقط تمتلكها الصين خارج أراضيها. وتبلغ الميزانية العسكرية للصين نحو 200 مليار دولار، وهو رقم أقل من ثلث ميزانية الدفاع الأمريكية".

كما أن التزايد المطرد في ميزانية وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاغون) منذ غزو أفغانستان عام 2001 حتى اليوم يمثل مؤشراً آخر على أن المنظومة العسكرية والأمنية وأيضاً السياسية في واشنطن لن تقدم على الأرجح على إحداث أي تغيير حقيقي يمنع تكرار تلك المغامرات العسكرية الكارثية.

والنقطة الأخرى في هذا السياق هي أن الفشل الأمريكي يزداد سوءاً كلما تكررت التجربة، بمعنى أنه بعد كارثة حرب فيتنام من الطبيعي أن تكون نتائج غزو أفغانستان أفضل ولو نسبياً، رغم أن الفشل والهزيمة واحد في الحالتين، لكن واقع الأمر هو أن العكس تماماً هو ما حدث.

ففي يناير/كانون الثاني 1973، عند توقيع اتفاقية باريس للسلام التي أنهت التدخل الأمريكي في جنوب فيتنام، كانت سايغون- عاصمة جمهورية فيتنام وقتها- وقواتها المسلحة لا تزال تعتمد اعتماداً كبيراً على الدعم الجوي والمدفعي واللوجستي الأمريكي المضمون.

ولطالما ضمنت إزالة القوة العسكرية الأمريكية من المعادلة هزيمة سايغون ضد هجوم مُحقَّق من فيتنام الشمالية. وبالتالي فإن سحب الدعم الاقتصادي والعسكري والانسحاب من أفغانستان كان متوقعاً أن يكون له تأثير مماثل على الحكومة الأفغانية، لكن يمكن القول إنَّ النتيجة في أفغانستان أسوأ بكثير. لماذا؟ لأن سايغون سقطت بعد نحو عامين، بينما سقطت كابول خلال أقل من أسبوع.

وفي 3 أغسطس/آب 1972، أخبر هنري كيسنغر الرئيس نيكسون: "بعد عام، سيدي الرئيس، ستصبح فيتنام مياه راكدة ولن يأبه لها أحد". وكان كيسنغر محقاً. للأسف، إنه رهان آمن القول إنَّ موقفاً مماثلاً قد يسود داخل البيت الأبيض تحت حكم بايدن.

بمعنى أنه على الرغم من الفوضى والإحراج اللذين يعاني منهما البيت الأبيض اليوم، إلا أنه من الوارد أن تتوارى أهمية أفغانستان برمتها بالنسبة للأمريكيين خلال أيام، مع انتهاء عملية الإجلاء الجارية حالياً.

ويظل الأمل الوحيد للأمريكيين هذه المرة هو أن تظل رائحة الفساد والخداع والفشل العسكري في أفغانستان، والتي تبلغ تكلفتها عدة تريليونات من الدولارات، عالقة لفترة أطول في أنوف أمريكا وأن تكون لها عواقب جادة.

تحميل المزيد