فعالية مفاجئة لم يلتفت إليها أحد عُقدت في مكة كانت جزءاً من محاولات السعودية تحجيم النفوذ الإيراني في العراق.
الفعالية التي عُقدت تحت عنوان "ملتقى المرجعيات العراقية"، جاءت من تنظيم منظمة غير حكومية مقرها مكة، وهي "رابطة العالم الإسلامي"، وقد حضر الفعالية 80 من علماء الدين البارزين في العراق، من السنة والشيعة على حد سواء. أُقيمت الفعالية بلا ضجة كبيرة وغيابٍ للتغطية الإعلامية المسبقة (لأسباب أمنية على ما يبدو)، واستند المجتمعون فيها إلى الأرضية الدينية المشتركة لاستكشاف خارطة طريق نحو السلام والمصالحة.
وكان من اللافت للنظر أن يحدث هذا في قلب المملكة العربية السعودية.
والأكثر إثارة للدهشة أن تشهد الفعالية مشاركةَ شخصيات بارزة، مثل الشيخ الدكتور أحمد حسن الطه، عضو الهيئة العليا للمجمع الفقهي العراقي لكبار علماء الدعوة والإفتاء، إلى جانب رؤساء الأوقاف السنية والشيعية، وآخرين مثل الدكتور بشتيوان صادق عبدالله، وزير الأوقاف والشؤون الدينية بإقليم كردستان العراق.
تحجيم النفوذ الإيراني في العراق عبر التقريب بين السنة والشيعة
توصل المجتمعون إلى اتفاقية لإنشاء لجنة عراقية مشتركة بين الأديان تتكون من المرجعيات البارزة عبر الطوائف في البلاد. والغرض من هذه المنظمة الجديدة هو منع الانقسامات الطائفية من التفاقم إلى صراع واسع النطاق، ودعم حكومة عراقية مركزية موحدة.
بحلول اختتام الفعالية لفصولها، كان الرئيس الإيراني الجديد المتشدد، إبراهيم رئيسي، يقسم اليمين الدستورية لتولي رئاسة البلاد، وهو ما يشير إلى تسارع قادم في استراتيجية النظام الإيراني طويلة الأمد لاستغلال الانقسامات الطائفية في العراق وغيرها، بحسب تقرير لموقع The Times Of Israel الإسرائيلي.
ويزيد هذه الفعالية أهميةً أن تأتي هذه التطورات بعد أسبوع واحد فقط من إعلان الرئيس الأمريكي جو بايدن التزامه إنهاء المهام القتالية الأمريكية في العراق.
يستدعي النظر إلى التجربة الأمريكية في أفغانستان، حيث مهَّد الانسحاب الأمريكي الطريقَ لعودة طالبان، استشراف مخاوف حقيقية من تقليص الوجود العسكري الأمريكي بدرجة كبيرة في العراق، في ظل التهديد الذي تشكِّله حكومة رئيسي، وما قد تدفع إليه من تعزيزٍ غير مسبوق للميليشيات المدعومة من إيران في جميع أنحاء العراق.
مع ذلك، فإن نجاح استراتيجية إيران من هذا النوع يعتمد بالأساس على انعدام الثقة ومشاعر العداء وتفكك التعاون بين الجماعات الدينية على المستوى المحلي. هذه الأسباب، إلى جانب ضعف الهوية الوطنية المشتركة، هي التي تخلق الانفتاح لاستراتيجية "فرِّق تسُد" التي ينتهجها النظام الإيراني، ما يسمح له بتوسيع نطاق دائرة نفوذه الإقليمية لتشمل نطاق الشرق الأوسط بأكمله.
وهذا هو السبب في أن هذا الملتقى الذي عُقد في 4 أغسطس/آب يُشكِّل تحولاً رمزياً بارزاً حسب تقرير الموقع الإسرائيلي.
قطع الارتباط بين الشيعة العرب وإيران
يقول التقرير إن خطوات الحد من قدرة إيران على التدخل في المنطقة أبرزها قطع الارتباط بين المجتمعات الشيعية في الشرق الأوسط والأمة الإيرانية، واتباع استراتيجية للتواصل المباشر مع المجتمعات الشيعية المحلية في جميع أنحاء الدول العربية، وتمكينها من إنشاء هياكلها الخاصة لتسوية الخلافات مع نظرائها في المجتمعات السنية المحلية.
كما أن إنشاء هويات وطنية محلية قوية في الشرق الأوسط هو الطريق الأذكى والأنجع لإبطال فاعلية المساعي الإيرانية لبلوغ الهيمنة في المنطقة. ففي العراق وسوريا واليمن ولبنان، كانت الانقسامات الطائفية أشبه بالأوكسجين الذي أعطى الحياة لسياسات التدخل الإيرانية، التي عمدت في البداية إلى كسب موطئ قدم لها في تلك البلدان، ثم بثَّت سردياتها وتصوراتها السامة فيها، وأخيراً تصدير وتجنيد الميليشيات التي تمكِّن إيران من العمل عن طريق الوكلاء والإفلات من عواقب أفعالها عن طريقهم.
لكن قطع هذا الأوكسجين عن سياسات إيران يتطلب جهداً أكبر بكثير، يجب أن يضع على رأس أهدافه تقوية الهويات الوطنية التي تستوعب الاختلافات الطائفية. ومن ثم، لا غرابة في أن "ملتقى المرجعيات العراقية" في مكة قد ركَّز بشدة على هذا الموضوع، حيث ردد الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي، محمد بن عبدالكريم عيسى، تلك المشاعر عندما قال: "حدثُ اليوم يمثَّل المبادئ الحقيقية للإسلام.. التي ترشدنا إلى تبني التنوع واحترام اختلافات بعضنا بعضاً، والتي تخبرنا أن تعيش في تناغم وانسجام مع الجميع".
في نهاية المطاف، تشكِّل العلاقات الجيدة بين السنة والشيعة في الدول العربية المجاورة لإيران الترياق الأشد فاعلية في مواجهة الخطط الجيوسياسية للنظام الإيراني، خاصة في ظل غياب الوجود العسكري الأمريكي القوي على الأرض وفي حضور الزعيم الإيراني الأكثر تشدداً منذ سنوات.