نشرت صحيفة The Hill الأمريكية تقريراً حول استراتيجية تعامل إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن مع قضايا الشرق الأوسط ومدى فاعليتها بعد مرور 8 أشهر على وصول بايدن لسدة الحكم. وتقول الصحيفة إنه على الرغم مما اقتضته ضرورات التركيز على الشؤون الداخلية الأمريكية أولاً، ثم العلاقات مع القوى العظمى ثانياً، فإن إدارة بايدن تمكنت حتى الآن من الإبقاء على الأوضاع في الشرق الأوسط "تحت حدِّ الغليان ونجحت في منع انفجارها"، كما تصف الصحيفة.
في غضون ذلك، التزمت الإدارة الأمريكية بالعودة إلى الاتفاق النووي الإيراني، دون تساهل أو قبول لأي مطالب تعتبرها "متطرفة" من إيران. وفي الوقت الذي لم يكن فيه الكونغرس الأمريكي في مزاج الالتفات إلى شؤون العراق، وجد فريق بايدن طرقاً مبتكرة للبرهنة على الالتزام الأمريكي المتجدد بدعم رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي، الذي يحتاج بشدة إلى دعم واشنطن إذا كان ينوي محاربة الفساد المتفشي في البلاد والهيمنة الإيرانية المتغلغلة.
وتقول الصحيفة إن الإدارة الأمريكية الجديدة عانت لإيجاد التوازن بين التزامها المسبق بمعاقبة السعودية على اغتيال خاشقجي مدركةً مصالح الولايات المتحدة في المملكة من جانب، وبيان أن واشنطن ليست بمعرض التخلي عن السعوديين من جانب آخر. وعلى النحو نفسه، أبدت الدعم لإسرائيل في هجومها الأخير على غزة بدعوى "الدفاع عن النفس"، وعملت من جهة أخرى على عدم استطالة أمد الحرب ووقف إطلاق النار.
إدارة بايدن تفتقر إلى استراتيجية واضحة تجاه الشرق الأوسط
مع ذلك، ولمَّا كان الشرق الأوسط ينجح دائماً في إيجاد مكان لنفسه على صدارة الأحداث، فإن فريق بايدن لا يزال يفتقر إلى استراتيجية واضحة على مستوى المنطقة يستوعبها حلفاءُ الولايات المتحدة وشركاؤها، كما تقول "ذي هيل".
وفي كل أنحاء الشرق الأوسط، يواجه الخبراء المعنيون بالمصالح الأمريكية مزيجاً متضارباً من مشاعر الأمل والارتياب في نهج الإدارة الأمريكية في المنطقة، لكن الشيء الوحيد الذي يبدو ثابتاً هو الارتباك حول ما تسعى الإدارة إلى تحقيقه في المنطقة، خاصةً مع غلبة الشعور بأن سياساتها قائمة على التفاعل ورد الفعل ومقيدةً بالتوجه لكل دولة على حدة.
إذا أرادت واشنطن التغلب على هذا الارتباك، فسيتعيَّن عليها صياغة تصورٍ شامل يدمج جميع الاستراتيجيات الخاصة بكل بلد لتحقيق القدر الأكبر من الأهداف.
من جهة أخرى، فإن صياغة الاستراتيجيات قلَّما كانت أمراً سهلاً، وبالطبع لا يمكن اختزالها في مجرد شعارات. مع ذلك، فهي مهمة لطمأنة أصدقاء الولايات المتحدة وردع خصومها ومنافسيها، وتزداد أهمية ذلك الآن مع إرث السنوات الـ12 الماضية من عهد أوباما وترامب، إذ شهدت انسحاب الولايات المتحدة انسحاباً مطرداً من الشرق الأوسط والتوازن في شؤونه.
الشرق الأوسط ما بعد الانسحاب الأمريكي
أسهم الفراغ الناتج عن هذا الانسحاب الأمريكي في تدهور الأوضاع على نحو متواصل، وشهدت المنطقة خلال ذلك التدهور حروباً في ليبيا وسوريا واليمن، وصراعاً داخلياً في مصر والعراق وتركيا، وظهور تنظيم "داعش" وسقوطه، وعودة الاستبداد بعد الآمال التي انعقدت على انتفاضات الربيع العربي، بالإضافة إلى مئات الآلاف من القتلى وملايين اللاجئين. وزاد على ذلك كله التقدم المطرد لإيران ووكلائها، الذين رأوا فرصة سانحة في الانسحاب الأمريكي، وقرروا استغلالها حتى لو انطوى ذلك على مزيد من البؤس لسكان تلك المنطقة.
تمكَّن بايدن وفريقه من إقناع شركاء أمريكا في الشرق الأوسط بأن الإدارة الأمريكية لن تتخلى عن المنطقة، ولن ترضخ لمزيد من التوسع الإيراني، على خلاف كل من أوباما وترامب، إلا أنها لم تخبرهم كيف ستحول هذا الالتزام إلى واقع على الأرض، ولا الأدوار التي يُفترض اضطلاعهم بها في هذا المخطط.
في المقابل، يرى خبراء أمريكيون أنه يصعُب صياغة استراتيجية عامة حيال المنطقة لأن إيران حازت نفوذاً ومكاسب كبيرة في جميع أنحائها، فيما تحتاج الولايات المتحدة وحلفاؤها إلى إيجاد طرق لمواجهة ذلك دون الاضطرار إلى استدعاء موارد ضخمة. في الوقت نفسه، ستحتاج هذه الاستراتيجية إلى مساعدة العديد من شركاء الولايات المتحدة الإقليميين، الذين يعانون على أصعدة أخرى للتعامل مع تداعيات وباء كورونا وثورة المعلومات وسوق الطاقة الدولي الجديد وتوازن القوى العالمي المتغير، إضافة إلى التحولات الخاصة بمجتمعاتهم.
عواقب الفشل الأمريكي ستكون أشد وطأة
على الرغم مما ينطوي عليه ذلك من صعوبات، فإن الفشل ستكون عاقبته أشد وطأة. وفي غياب هذه الاستراتيجية الشاملة، لن تستوعب أي دولة في الشرق الأوسط ما الذي تتوقعه منها الولايات المتحدة على وجه التحديد، أو ما تنوي الولايات المتحدة تقديمه لها، وما هي الحالة النهائية التي تسعى الولايات المتحدة إلى إنشائها في الإقليم، وما إذا كانت تلك الحالة المستهدفة ستلبي احتياجاتهم ومصالحهم أم لا.
والمقصد أن حلفاء الولايات المتحدة إذا لم يشعروا بأنهم يعرفون إلى أين تخطط الولايات المتحدة لقيادتهم، أو أنها ستفعل القليل أو لن تفعل شيئاً يذكر لمواجهة ما يرونه تهديداً لهم، فإنهم سينفضون عنها ويختارون التصرف بأنفسهم، وغالباً ما تقطع هذه الإجراءات "دورات التوازن" التي تفضِّل الولايات المتحدة الحفاظَ عليها في المنطقة، أو تخاطر باندلاع كوارث إقليمية جديدة.
هذا بالضبط ما حدث خلال إدارتي أوباما وترامب، عندما قررت السعودية والإمارات غزوَ اليمن. وتدخَّلت الإمارات ومصر في ليبيا. علاوة على أن قوى خارجية، مثل روسيا، بات لها حضورٌ أرسخ بكثير من مجرد التدخل في المنطقة.
وفي غضون ذلك، عمدت إسرائيل إلى مواجهة ما تعتبره تهديدات من برنامج إيران النووي المتقدم ووجودها المتنامي في سوريا بالمضي قدماً في حملةٍ جوية متواصلة في الأخيرة وعمليات سرية فتاكة ضد الأولى.
ويرى بعض الخبراء الأمريكيين أن الولايات المتحدة لن تستطيع دائماً كبحَ جماح حلفائها عن الإتيان بأفعال مندفعة حتى لو كانت لديها استراتيجية واضحة وشاملة للمنطقة. لكن رأياً آخر يرى أنه من دون هذه الاستراتيجية ستتَّبع دول المنطقة مسارات أحادية الجانب نادراً ما تكون فعالة مثل تلك التي تجري بالتنسيق مع الولايات المتحدة، كما أنها قد تؤدي إلى نشوب صراع أوسع نطاقاً بينها وبين المحور الإيراني، وإن لم تتعمد تلك الدول ذلك.
ويخلص المقال إلى أن إدارة بايدن يبدو أنها وَعت الدرس القائل إن الولايات المتحدة حتى وإن لم تكن راغبة في جعل الشرق الأوسط أولوية لها، فإنها لن تستطيع تجاهله أو الانصراف بالكامل عنه. وبدون استراتيجية شاملة للمنطقة، تخاطر واشنطن بأن تنفجر أزمات المنطقة على نحو يجبرها على جعلها أولوية، وهذا آخر شيء قد يحتاجه بايدن، في غمار انشغاله بتضييق الخناق على الصين وتوجيه الاهتمام الأمريكي إلى مواجهة نفوذها في آسيا والمحيط الهادئ.