ما الجرائم المتهم البشير بها في دارفور، وحقيقة تورط بعض المسؤولين السودانيين الحاليين بها؟

عربي بوست
تم النشر: 2021/08/11 الساعة 20:11 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2021/08/11 الساعة 20:11 بتوقيت غرينتش
الرئيس السوداني السابق بعد وضعه في السحن/رويترز

"قد يصبح عمر حسن البشير أول رئيس سابق في العالم يمثُل أمام المحكمة الجنائية الدولية"، إذا سلّمه السودان للمحكمة، فما الجرائم المتهم بها الرئيس السوداني السابق؟ وهل تطال المحاكمة مسؤولين حاليين في النظام السوداني؟

وأعلن السودان نيَّته تسليم الرئيس المعزول عمر البشير، واثنين من مساعديه المطلوبين في ملف دارفور إلى المحكمة الجنائية الدولية، وفق ما أعلنته وزيرة الخارجية مريم الصادق المهدي.

وكان مجلس الوزراء السوداني قد صادق قبل أسبوع، على قانون روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، ما اعتُبر خطوة جديدة في اتجاه محاكمة البشير أمام القضاء الدولي.

ونقلت وكالة الأنباء السودانية الرسمية "سونا" عن مريم المهدي، لدى لقائها المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية كريم أسد خان الذي يزور السودان، قولها: "قرّر مجلس الوزراء تسليم المطلوبين إلى الجنائية الدولية".

ورغم عدم إعلان الوزيرة السودانية، بشكل صريح، عن تسليم البشير، فإنه من المفهوم أن المقصود بالمطلوبين هو البشير واثنان من مساعديه هما عبدالرحيم محمد حسين وأحمد هارون، المحبوسان في سجن كوبر أيضاً، والصادر بحقهما مذكرتي توقيف من قِبل المدعي العام للمحكمة.

 وكان هارون قد طلب في مطلع مايو/أيار، إحالته إلى المحكمة الجنائية الدولية عقب مثوله أمام لجنة تحقيق حكومية.

وقد عُزل البشير، وأُوقف في أبريل/نيسان 2019، إثر احتجاجات شعبية واسعة ضده، ويحاكَم حالياً أمام قضاء بلاده بتهمة أخرى هي تنفيذ انقلاب عسكري على النظام في يونيو/حزيران 1989.

وسبق لمجلس السيادة الانتقالي، أعلى سلطة في السودان والمكون من مدنيين وعسكريين مع مهمة إدارة الفترة الانتقالية في البلاد، أن وعد لدى تسلمه الحكم في فبراير/شباط 2020، بمثول البشير أمام المحكمة الجنائية الدولية.

 كيف بدأت أزمة دارفور؟

عقب الانقلاب الذي نفذه البشير بالتعاون مع زعيم الجبهة الإسلامية حسن الترابي، على النظام الديمقراطي بقيادة رئيس الوزراء الصادق المهدي، عام 1989، توسع النظام الجديد في الحرب بجنوب السودان، والتي أنهكت جيش البلاد، وكان اتفاق السلام المزمع توقيعه مع الجنوب أحد أسباب الانقلاب الرئيسية.

ثم اضطر نظام البشير بعد ذلك إلى توقيع اتفاق سلام آخر مع الجنوب عام 2005 بعد فشل محاولته القضاء على التمرد.

ويُعتقد على نطاق واسع، أنه عقب توقيع نظام البشير اتفاق السلام مع الجنوب الذي أفضى في النهاية إلى انفصال الجنوب، لعب الترابي الذي اختلف مع البشير، دوراً في إشعال التمرد بدارفور، عبر تشجيع حركة العدل والمساواة التي تضم إسلاميين سابقين على التمرد على حكومة غريمه البشير، والدور نفسه قام به جون غارانغ زعيم الجبهة الشعبية لتحرير السودان، التي كانت تقود التمرد الجنوبي، عبر تشجيع حركة تحرير السودان على التمرد.

بالطبع كانت هناك عوامل داخلية لعبت دوراً في تأجيج الصراع، منها إنهاء الديمقراطية في البلاد، خاصةً أن الأحزاب السودانية التقليدية كان لها نفوذ كبير بغرب السودان، لاسيما حزب الأمة، حيث كان يلعب دوراً في تسيير العلاقة بين العرب والأفارقة في دارفور.

كما لعب الزعيم الليبي القذافي دوراً في إشعال التوتر بين العرب والأفارقة وزيادة السلاح في منطقة إفريقيا جنوب الصحراء، من خلال تأسيسه ما يُعرف باسم الفيلق الإسلامي؛ لجذب دعم عرب تشاد وغرب السودان ضد النظام في تشاد المدعوم من فرنسا خلال حربهما في الثمانينيات.

وزادت الأوضاع تأزماً من جرّاء التصحر في المنطقة والذي أجج أصلاً التوتر والمنافسات بين القبائل الرعوية التي أغلبها من العرب، والقبائل العاملة بالزراعة وأغلبها من الأفارقة.

أدت كل هذه الأوضاع مع زيادة قيمة الثروة الحيوانية، إلى تدمير نظم التعايش العرفية بين القبائل العربية والإفريقية وظهور حركات التمرد الدارفورية.

وفي مواجهة هذا التمرد الذي بدأ عام 2003، وإنهاك الجيش السوداني، حشدت حكومة البشير قوات من الرعاة العرب لمحاربة المتمردين الأفارقة في دارفور، والتي عُرفت باسم الجنجويد، أي الجن الذي يركب الجواد، وبما أنها قوات أشبه بالعصابات القبلية، فإنها كانت خارج السيطرة وارتكبت جرائم كبيرة، حسب التقارير الدولية.

كانت نواة قوات الجنجويد مؤلفة من رعاة جِمال من عشيرتي المحاميد والماهرية من قبائل الرزيقات في شمال دارفور والمناطق المتاخمة لها في تشاد.

وخلال حرب ومذابح دارفور بين عامي 2003-2005، كان قائد الجنجويد الأكثر شهرة والأسوأ سمعة هو موسى هلال، زعيم عشيرة المحاميد، حسبما ورد في تقرير لموقع هيئة الإذاعة البريطانية "بي بي سي".

عمر حسن البشير
البشير عُزل بعد احتجاجات شعبية واسعة/رويترز

وعندما أثبت هؤلاء المقاتلون دمويَّتهم، أضفى البشير الطابع الرسمي عليهم في قوة شبه عسكرية أطلق عليها اسم وحدات الاستخبارات الحدودية.

وفي 2009، أصدرت "الجنائية الدولية" مذكرة توقيف في حق البشير، الذي اتهمته بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية خلال النزاع المسلح في دارفور الذي اندلع في 2003 وقُتل خلاله أكثر من 300 ألف شخص.

وبعد ذلك استمر البشير في زياراته لبعض الدول رغم أنها أصبحت مسألة محرجة لمُضيفيه، حيث طالبت "الجنائية الدولية" الدول المنضمة لها بتسليمه.

وتعرّض البشير للتوقيف في العاصمة النيجيرية أبوجا، التي غادرها قبل إكمال جلسات القمة الإفريقية المخصصة لمناقشة أمراض الملاريا والإيدز والسل بإفريقيا، وذلك في يوليو/تموز 2013. وقد تحركت أيضاً المنظمات الحقوقية النيجيرية آنذاك وحثَّت إدارة الرئيس النيجيري السابق جودلاك جوناثان، قبل زيارة الرئيس السوداني، على الالتزام بتعهداتها باعتقاله فور وصوله، تنفيذاً لمذكرة المحكمة الجنائية الدولية. ومثلما اعتبرت منظمة هيومن رايتس ووتش أنّ زيارة البشير نيجيريا تمثل امتحاناً حقيقياً لالتزام نيجيريا بقرارات "المحكمة الجنائية"، فقد عبَّرت أيضاً بأنّ مجرد السماح للبشير بالذهاب إلى جنوب إفريقيا من دون اعتقاله يمثّل وصمة كبرى لسمعتها.

نوعية الجرائم المتهم بها البشير

واللافت أن لجنة التحقيق الدولية التابعة للأمم المتحدة بشأن دارفور أحجمت عن وصفها بأنها إبادة جماعية، حسب تقرير لموقع هيئة الإذاعة البريطانية "بي بي سي".

وآنذاك أعلنت وزارة الخارجية السودانية انتصارها، متجاهلةً الصياغة الدقيقة للتحقيق والتي مفادها أن "الجرائم ليست أقل خطورة وشناعة عن الإبادة الجماعية"، في المقابل صنفت الولايات المتحدة الجرائم بـ"الإبادة الجماعية".

ولكن في أكتوبر/تشرين الأول 2010، أضافت المحكمة الجنائية الدولية ثلاث تهم بالإبادة الجماعية في إقليم دارفور إلى لائحة الاتهام الموجهة للرئيس السوداني عمر البشير.

واتهم لويس مورينو أوكامبو، كبير ممثلي الادعاء في المحكمة الجنائية الدولية، الرئيسَ السوداني السابق، بتدبير حملة إبادة أسفرت عن مقتل 35 ألف شخص على الفور و100 ألف آخرين على الأقل "ببطء"، وإرغام 2.5 مليون على الفرار من منازلهم في إقليم دارفور بغرب السودان.

البشير
الرئيس السوداني السابق عمر البشير/رويترز

كما اتهم مورينو، البشير بإبقاء مليونين ونصف المليون نازح من أهل دارفور ممن ينتمون إلى جماعات عرقية بعينها، في معسكرات "في ظروف أقرب للإبادة الجماعية كأنهم في معسكر أوشفيتز كبير"، على حد قوله، في إشارة إلى معسكرات الاعتقال النازية.

وقال أوكامبو إنه "أودع أدلة تفصيلية على تجنيد واستخدام كل أجهزة الدولة لإبادة جزء كبير من مجموعات الفور والمساليت والزغاوة العرقية في كل إقليم دارفور خلال أكثر من ست سنوات".

وسبق أن أقر الرئيس السوداني السابق عمر البشير وهو في السلطة، بوقوع جرائم بدارفور، وقال في حوار مع مجلة "دير شبيغل" الألمانية إن هذا هو ما يحدث بجميع أنحاء العالم عندما تخرج جماعات مسلحة على حكوماتها، وقال إن من واجبه العمل على الالتزام بالقوانين وإنه مسؤول عن كل ما حدث في أثناء تنفيذ هذه المهمة. 

الجنائية بدأت بمحاكمة متهم سوداني في جرائم دارفور

وفي 9 يوليو/تموز 2021، أعلن قضاة دوليون، أن زعيماً لميليشيا الجنجويد سيكون أولَ متهم يخضع للمحاكمة بتهمة ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية خلال النزاع المسلح في دارفور.

ويواجه علي محمد علي عبدالرحمن، المعروف باسمه الحركي علي كوشيب، 31 تهمة أمام المحكمة الجنائية الدولية، بينها القتل والاغتصاب والتعذيب، وفق بيان للمحكمة.

ووفقاً لأحد الشهود فقد تحدث كوشيب أمامه مع القيادي في "المؤتمر الوطني" أحمد هارون، الذي أشار إليه بقتل نحو 100 شخص في أحد المعتقلات.

ونفى الرجل، البالغ 70 عاماً والذي سلم نفسه العام الماضي، هذه الاتهامات.

هل تؤدي محاكمة البشير إلى إدانة مسؤولين سودانيين آخرين؟ 

اللافت أن واحدة من أقوى الشخصيات في السودان حالياً إن لم يكن أقواها، له علاقة بقضية دارفور.

فمحمد حمدان دقلو الشهير بـ"حميدتي" نائب رئيس مجلس السيادة السوداني وقائد قوات الدعم السريع المشهور بحميدتي، قريب لموسى هلال، هو من أبرز قادة ومؤسسي ميليشيات الجنجويد، الذين أضفى البشير الطابع الرسمي عليهم في قوة شبه عسكرية أطلق عليها اسم وحدات الاستخبارات الحدودية.

كان دقلو من بين أعضاء هذا اللواء، الذي ينشط في جنوب دارفور، وحمل عام 2007، منعطفاً مُهماً في مسيرة حميدتي المهنية، عندما انتشر الاستياء في صفوف قواته، بسبب فشل الحكومة السودانية في دفع رواتبهم.

تمرد حميدتي ومقاتلوه، وتوعد بمحاربة الخرطوم "حتى يوم القيامة"، وحاول إبرام صفقة مع أعدائه من متمردي دارفور الذين ينتمون إلى القبائل الإفريقية.

عاد حميدتي إلى الخرطوم عندما عُرضت عليه صفقة دسمة: دفع رواتب قواته بأثر رجعي، ومنح ضباطه رتباً عسكرية (وأصبح حميدتي ضابطاً برتبة عميد، ما أثار غضب ضباط الجيش الذين درسوا كلية الأركان وتدرَّجوا في سلم الرُّتب بشكل نظامي)، إضافة إلى دفع مبلغ نقدي جيد له، حسب تقرير لـ"بي بي سي".

نائب رئيس مجلس السيادة السوداني محمد حمدان دقلو/رويترز

ووُضعت قواته تحت قيادة جهاز المخابرات والأمن الوطني، في ذلك الوقت؛ لتنظيم حرب بالوكالة مع تشاد.

ووقع صراع بين حميدتي وابن عمه وقائده الميليشياوي السابق موسى هلال صعب المراس، لأسباب كثيرة، من بينها الصراع على الذهب، وكان هلال قد خرج عن سيطرة الحكومة السودانية على ما يبدو. 

وفي نوفمبر/تشرين الثاني 2017، اعتقلت قوات حميدتي، هلال واستولت قوات الدعم السريع على مناجم الذهب الأكثر ربحية في السودان.

وعندما أقيل البشير في أبريل/نيسان 2019، كان حميدتي أصبح واحداً من أغنى الرجال بالسودان، وكان في قلب شبكة من المحسوبية والصفقات الأمنية السرية.

واليوم، يعد أقوى من أي قائد عسكري أو قائد مدني في السودان. فالسوق السياسي الذي يسيطر عليه أكثر ديناميكية من أي مؤسسات هشة تابعة للحكومة المدنية، حسب "بي بي سي"، وقد اتُّهمت قواته بتنفيذ مذبحة القيادة العامة التي وقعت إبان الثورة السودانية.

وينفي "حميدتي" الاتهامات الموجهة له بمشاركته في مذابح دارفور، علماً أنه كان عضواً بميليشيات الجنجويد، ولكنه لم يكن قائداً بارزاً بعد عن الفترة التي تحاسب عليها "الجنائية الدولية" البشير أي بين 2003 و2005.

ولكن في الواقع، شهدت الحرب بدارفور تطورات خطيرة في فترة صعود حميدتي.

إذ يقول سليمان بلدو، المستشار بمنظمة "كفاية" Enough Project، وهي مؤسسة غير حكوميةٍ أجرت أبحاثاً في أعمال الإبادة الجماعية هناك، إن "أكبر الهجمات على المدنيين في أعوام 2014 و2016 و2017 كانت قوات الدعم السريع من نفذها، وقد أجمعت لجنة خبراء الأمم المتحدة المعنية بالسودان ومهمة المساعدة التابعة للأمم المتحدة، على القول إن تلك الهجمات جرت بالفعل ضد الأشخاص الذين بقوا في جبال مرّة الشرقية".

ويُعتقد أن جزءاً من التجاهل الغربي لتاريخ الرجل هو دور قواته في مكافحة الهجرة غير الشرعية إلى أوروبا.

وحتى بعد عزل البشير، نشرت منظمة العفو الدولية أدلة جديدة مقلقة تُبين أن قوات حكومية سودانية، تشمل قوات الدعم السريع وميليشيات متحالفة معها، مستمرة في تدمير القرى وارتكاب أعمال القتل خارج نطاق القانون، وجرائم العنف الجنسي، كذلك سبق أن سجّلت وسائل إعلامية محلية مساراً ثابتاً من هجمات وحشية وعمليات قتل، رغم أنه لم يعلن رسمياً عن عدد القتلى.

تحميل المزيد