تتمتع الصين حالياً بعلاقات متنامية وقوية مع إيران والسعودية ومصر وإسرائيل والإمارات وأغلب دول الشرق الأوسط، في ظل تغيير أمريكا أولويات سياستها الخارجية، فهل يعني ذلك سعي بكين لفرض الهيمنة؟
من المؤكد أن التنافس بين الصين والولايات المتحدة على زعامة المسرح الدولي قد وصل إلى مرحلة متقدمة، وأصبحت بكين وتنامي نفوذها الدولي تمثل الهم الأكبر لصناع السياسة الأمريكية. وفي ظل الأهمية الاستراتيجية القصوى التي تتمتع بها منطقة الشرق الأوسط، وهي المنطقة التي مثلت مسرحاً أمريكياً خالصاً منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، تتعالى الأصوات في واشنطن محذرة من سعي التنين لأن يرث النفوذ الأمريكي في المنطقة.
وتناولت مجلة Foreign Affairs الأمريكية هذه الفرضية في تحليل مفصل أعده ستيفن كوك، الزميل الأول لدراسات الشرق الأوسط وإفريقيا بمجلس العلاقات الخارجية الأمريكية، وجيمس غرين زميل البحث الأول بمبادرة الحوار الأمريكي الصيني حول قضايا العالم في جامعة جورج تاون الأمريكية.
كيف تغيرت أولويات أمريكا في الشرق الأوسط؟
شهدت السنوات القليلة الماضية تحولاً في نهج السياسة الخارجية الأمريكية. فلم يعد الشرق الأوسط هو أولوية واشنطن القصوى. وقلصت واشنطن بدرجة كبيرة عدد القوات الأمريكية في العراق، وتعهَّد الرئيس الأمريكي جو بايدن بالتركيز فقط على عدد صغير من الأهداف في المنطقة.
ومع استمرار هذا التقليص حذَّر محللون وكُتَّاب رأي وقادة منتخبون من أنَّ الصين تستعد لأخذ مكان الولايات المتحدة في جزءٍ من العالم لطالما هيمنت عليه واشنطن. ويقول أصحاب هذا الرأي إنَّه لا بد من أن تتصدى الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، كما في المناطق الأخرى، للقوة العسكرية والنفوذ الاقتصادي والأيديولوجيا الصينية في كل مناسبة، خشية أن تحل بكين محل واشنطن باعتبارها القوة العظمى العالمية المتفوقة.
وفيما تنسحب الولايات المتحدة من الشرق الأوسط يعتقد البعض في مجتمع السياسة الخارجية الأمريكية أنَّ المنطقة ستكون من بين الأماكن التي تشهد ما يُسمَّى بتنافس القوى العظمى بين واشنطن وبكين. ويستشهد أولئك المحللون باستثمارات الصين في المنطقة، واتفاقياتها التجارية الثنائية مع القوى الإقليمية، وقاعدتها العسكرية في جيبوتي، وعلاقات إيران الوثيقة على نحوٍ متزايد مع إيران كدلائل على تهديدات جديدة وخطيرة للأمن الأمريكي.
هل تسعى الصين لتكرار تجربة أمريكا في المنطقة؟
لكنَّ هذه الادعاءات تستند إلى دلائل واهية، فالتصورات الأمريكية حول الدور الصيني في الشرق الأوسط غالباً ما تُشكِّلها خبرة واشنطن نفسها هناك -التي تتحدد بالتحالفات العسكرية والتدخلات المسلحة- أكثر منها السلوك الصيني الفعلي.
إذ يأتي الوجود الصيني في المنطقة مدفوعاً بالشواغل الاقتصادية والأوضاع السياسية الداخلية أكثر منه بالرغبة في الهيمنة. فاعتماد بكين على الوقود الأحفوري، جنباً إلى جنب مع الرغبة في تجنيب نفسها الازدراء الإقليمي بخصوص معاملتها لمسلمي الإيغور، هو الدافع وراء الجزء الأكبر من تواصلها مع المنطقة.
واستراتيجية الصين بعيدة كل البعد عن كونها مستقرة، ويمكن أن تدفع كارثة اقتصادية عالمية أو انهيار جيوسياسي الحزب الشيوعي الصيني لإعادة النظر في نهجه الحالي.
لكنَّ الحقيقة تظل هي أنَّ بكين حافظت على علاقات مع البلدان التي عانت من الصراع الداخلي والخارجي على مدار العقدين الأخيرين، وستواصل على الأرجح إظهار تساهل كبير مع العنف والتقلُّب في الشرق الأوسط. مع ذلك قد ينتهي المطاف بأن تصبح الصين هي القوة المهيمنة في المنطقة، لكن إن حدث ذلك فإنَّه سيكون بسبب انسحاب واشنطن البطيء، لكن الثابت من الشرق الأوسط أكثر منه نتيجة أي مخططات استراتيجية كبرى من جانب بكين.
وكرَّست بكين على مدى العقدين الماضيين الكثير من الوقت والموارد لبناء علاقات دبلوماسية وتجارية مع كافة اللاعبين الرئيسيين في الشرق الأوسط. فحين قام شي جين بينغ بأولى زياراته للمنطقة باعتباره رئيساً لجمهورية الصين الشعبية، في يناير/كانون الثاني 2016، توقف أولاً في السعودية، حيث وقَّع اتفاق شراكة استراتيجية شاملة بين بكين والرياض.
ثم سافر مباشرةً إلى طهران وفعل الشيء نفسه مع إيران. وتشير زيارة وزير الخارجية الصيني، وانغ يي، للمنطقة في مارس/آذار الماضي، إلى استمرارية في نهج "أصدقاء للجميع" الذي خدم بكين جيداً.
دفعت هذه الخطوات الكثيرين، من بينهم مجموعة من خبراء السياسة الخارجية والكُتَّاب المحررون لصحف كبرى وأعضاء بالكونغرس الأمريكي، إلى استنتاج أنَّ الصين لديها طموحات إقليمية كبيرة. ووفقاً لروايتهم، فإنَّ موقع الشرق الأوسط الفريد كمركز لوجستي، ومُورِّد للوقود، ونقطة عبور للتجارة العالمية تجعل المنطقة بالغة الأهمية بالنسبة لهدف شي المتمثل في إعادة توجيه الحوكمة العالمية بعيداً عن الولايات المتحدة.
ماذا يعني تغيير استراتيجية الصين؟
اتبعت الصين بوضوح سياسة خارجية عدوانية على نحوٍ متزايد في السنوات الأخيرة، فعقب الأزمة المالية العالمية لعام 2008، وتولي شي السلطة في 2012، بدأت القيادة الصينية رويداً رويداً تبتعد عن مقولة الزعيم الصيني السامي السابق دينغ شياو بينغ، بأنَّ البلاد يجب أن "تخفي قدراتها وتتحين فرصتها". وتستعرض الصين الآن عضلاتها في شرق آسيا وغيرها.
لكن يظل من الخطأ إصدار افتراضات بشأن نهج بكين تجاه الشرق الأوسط، استناداً إلى سلوكها الحازم في شرق آسيا ومناطق أخرى. فمع أنَّ القادة الصينيين ربما يسعون لتجاوز الولايات المتحدة في العديد من حلبات الصراع، لا توجد أدلة تُذكَر على أنَّ مثل هذه المحاولات تمتد إلى الشرق الأوسط.
ونظراً لتجارب الولايات المتحدة الكارثية في أفغانستان والعراق وغيرهما، خلصت النخب السياسية الصينية قبل وقت طويل إلى أنَّ سياسات واشنطن الإقليمية قد أوهنت عظمتها، وقلصت نفوذها العالمي، ووضعتها على طريق الاضمحلال النسبي، وليست لدى الصين رغبة في أن تحذو حذوها.
وتكشف هذه المعطيات بوضوح عن أن الدافع الحقيقي للوجود الصيني في الشرق الأوسط هو التنمية الاقتصادية السريعة في البلاد، إذ ازدادت واردات الصين من نفط الشرق الأوسط بين عامي 1990 و2009 بعشرة أضعاف. وزوَّدت دول الخليج الصين في عام 2019/2020 بنحو 40% من وارداتها من النفط، جاء 16% منها من السعودية وحدها، ما يجعلها أكبر بلد مُورِّد للنفط الخام إلى الصين. ويُعَد العراق، حيث أنفقت الولايات المتحدة تريليونات الدولارات على عملية تغيير النظام، ضمن أكبر خمس مُورِّدين للنفط إلى الصين، وتأتي إيران في المرتبة الثامنة. تنظر الصين بوضوح إلى موارد طاقة المنطقة باعتبارها بالغة الأهمية للتنمية الصينية المستمرة، وبالتبعية، لنفوذها العالمي.
الاقتصاد غاية الصين من الشرق الأوسط
لا تقتصر علاقة الصين الاقتصادية مع الشرق الأوسط على الطاقة، إذ توسع البلاد أيضاً علاقاتها من خلال "مبادرة الحزام والطريق". وباتت الصين، بفضل هذه المبادرة إلى حدٍّ كبير، أكبر مستثمر واحد في المنطقة والشريك التجاري الأكبر لـ11 بلد شرق أوسطي. وتمول بناء موانئ ومجمعات صناعية في مصر وعُمان والسعودية والإمارات وجيبوتي، حيث تحتفظ بكين بقاعدتها العسكرية الوحيدة بالخارج، تطل هذه المنشآت على ممرات حيوية تربط المنطقة ببقية العالم: الخليج العربي، وخليج عمان، والبحر الأحمر، ومضيق باب المندب، وقناة السويس.
ويعتمد نجاح مبادرة الحزام والطريق على إبقاء هذه الشرايين مفتوحة. ويتعين على المرء فقط أن يعاود النظر إلى جنوح سفينة الحاويات "إيفرغيفن" في مارس/آذار 2021، بقناة السويس والآثار الاقتصادية المتتابعة اللاحقة لفهم السبب الذي يجعل القادة الصينيون يضعون الشرق الأوسط وممراته المائية في مكانة متميزة.
تفسر الضرورات الاقتصادية للصين في الشرق الأوسط، جنباً إلى جنب مع الدبلوماسية المطلوبة للحفاظ عليها، قدراً كبيراً من تواصلها الأخير مع المنطقة. فعلى سبيل المثال، أبرمت بكين في مطلع 2021 اتفاق "شراكة استراتيجية" رُوِّجَ لها كثيراً مع طهران. وقد أثار الاتفاق الممتد لـ25 عاماً، والذي يتضمَّن تعهُّداً باستثمار 400 مليار دولار مقابل خصومات كبيرة على إمدادات النفط وزيادة التعاون الأمني، الدهشة في واشنطن. إذ بدا بالنسبة للكثيرين محاولة من بكين لتقويض العقوبات الأمريكية التي تهدف للضغط على إيران، لدفعها للابتعاد عن سياستها الخارجية العدوانية والتطوير النووي.
لكن في الوقت نفسه، كان اتفاق بكين مع إيران انعكاساً مُتفهَّماً لمصالح الصين الاقتصادية والدبلوماسية، فنظراً لوضعية إيران باعتبارها أحد مُورِّدي النفط الرئيسيين للصين، تملك الصين مصلحة في منع انهيار النظام الإيراني تحت وطأة الضغط الاقتصادي والدبلوماسي الأمريكي.
كما أنَّ قادة الصين حريصون على الحفاظ على مكانة إيران في المنطقة، وإبقاء الولايات المتحدة مُشتَّتة بالتطورات في منطقة الخليج بعيداً عن شرق آسيا. ومع أنَّ بكين قد لا تتغاضى عن أنشطة الجماعات المسلحة التي ترعاها إيران في الشام أو الخليج، لا يرى المسؤولون الصينيون حاجة لقطع العلاقات مع الصين بسبب هذه القضايا. وتبقى بكين بالمثل غير منزعجة من عمليات القمع داخل إيران نفسها في 2009 و2019، بل في الواقع كانت هناك تقارير موثوقة تفيد بأنَّ طهران تعتمد بصورة كبيرة على التكنولوجيا الصينية لملاحقة أعدائها الداخليين.
احتواء الانتقادات لقمع الإيغور
لكنَّ السياسات الصينية لا تتعلق فقط بالنفط، ففي نهاية المطاف استخدمت الصين بنجاح مزيجاً من الدبلوماسية والاستثمارات الجديدة وتنويع السوق لتلبية طلبها المحلي المتزايد على الوقود الأحفوري. فالنفط الخام من الولايات المتحدة، والغاز الطبيعي من أستراليا، واستخراج الفحم المحلي كلها مكملة لواردات الصين المتنامية من الشرق الأوسط. وستعوض الاستثمارات في الطاقة المتجددة أيضاً حتماً جزءاً من اعتماد البلاد على موارد الهيدروكربون.
لذا، بدلاً من النظر إلى الشرق الأوسط فقط باعتباره مصدراً للطاقة، يمكن أن تنظر الصين أيضاً إلى علاقاتها هناك باعتبارها بوليصة تأمين ضد ما تعتبره بكين تهديداً داخلياً لها، وهو حملتها القمعية ضد شعب الإيغور ذي الغالبية المسلمة في إقليم شينجيانغ ذاتي الحكم.
فقد بدأت بكين حملتها القمعية الوحشية ضد سكان الإيغور الصينيين عقب هجمات الحادي عشر من سبتمبر/أيلول 2001 الإرهابية في الولايات المتحدة، وتصاعدت هذه الحملة عقب سلسلة من الهجمات التي شنها الانفصاليون الإيغور في الصين والبلدان المجاورة في 2014 و2015. وخلصت إدارتا ترامب وبايدن إلى أنَّ قمع بكين القاسي للإيغور يمثل جريمة ضد الإنسانية وإبادة جماعية.
لطالما حدا القادة الصينيين الأمل بأنَّ إنشاء علاقات أوثق مع الأنظمة في الشرق الأوسط وآسيا الوسطى سيُمكِّنهم من إطلاق يدهم في حملة قمع الإيغور والقضاء على هويتهم ومنع دعمهم من جانب المسلمين في المنطقة.
وعلى الرغم من استياء واشنطن، يبدو أنَّ تواصل بكين مع الشرق الأوسط ناجح. إذ تمكنت بكين بنجاح، من خلال الدبلوماسية العادية ومشتريات الهيدروكربون والاستثمارات واسعة النطاق، من إثناء الحكومات والمنظمات الدينية في البلدان ذات الغالبية المسلمة من تقديم أي دعم مادي أو معنوي لشعب الإيغور أو حتى انتقاد الخطوات المتطرفة التي اتخذتها الصين ضدهم.
وقد رفضت الكثير من هذه الحكومات والمنظمات إدانة عمليات القمع باعتبارها مسألة داخلية، بل وتعاون آخرون مع الصين ضد نشطاء الإيغور، إذ استهدف المسؤولون في بعض دول المنطقة أشخاصاً من الإيغور، ويُزعَم أنَّهم رحلوهم، بناءً على طلب من الصين.
لا تعني حقيقة أنَّ سياسات الصين في الشرق الأوسط تنبع في معظمها من اعتبارات اقتصادية وسياسية داخلية أنَّ واشنطن يجب ألا تقلق تماماً من السلوك الصيني في المنطقة، إذ تبقى القيادة الصينية ملتزمة بالتحديث العسكري ومنصات استعراض القوة التي يمكن أن تؤثر على الشرق الأوسط.
ويبدو أنَّ بكين ليست رافضة للعمل العسكري، إذ خاضت جمهورية الصين الشعبية منذ تأسيسها عام 1949 صراعات مسلحة مع كل جيرانها تقريباً، من الحرب الكورية في 1950 إلى الاشتباكات الحدودية الأخيرة مع الهند. ويبقى نشر الصين لأصول عسكرية في بحر الصين الشرقي وبحر الصين الجنوبي ومضيق تايوان مدعاةً للقلق، مثلما هو الحال بالنسبة لمحاولات بكين تقويض القواعد والمؤسسات الدولية.
مع ذلك، لا يوجد سبب يُذكَر للاعتقاد بأنَّ القادة الصينيين سيتبعون نهجاً مماثلاً في الشرق الأوسط. فالبصمة الأمنية الأمريكية على مدار عدة أجيال في أرجاء المنطقة لا تروق كثيراً لبكين، فمثل هذا النهج الفظ من شأنه تقويض إنجازات بكين الاقتصادية والدبلوماسية التي نمَّتها الصين بحرص.
لدى الصين والولايات المتحدة بوضوح مصالح مختلفة في الشرق الأوسط، لكنَّ الاستنتاج القائل بأنَّ بكين تريد أن تحل محل واشنطن في المنطقة ببساطة لا تدعمه الدلائل المتوفرة. ستسعى القيادة الصينية لتحقيق أهدافها بغض النظر عن رغبات واشنطن. وفي ظل هذه الظروف، يُستبعد أن يسعى الصينيون حالياً للصراع، وسيُفضِّلون بناء علاقات مع مجموعة من البلدان في المنطقة بغرض ضمان وصولهم إلى النفط والأسواق. وستكون النتيجة قدراً كبيراً من المناورات مع الولايات المتحدة من أجل النفوذ، في حين ستناور القوى الإقليمية بين واشنطن وبكين على أمل تجنُّب الاضطرار للاختيار بينهما.