كان تدهور الأوضاع الصحية والاقتصادية أبرز مبررات الرئيس التونسي قيس سعيّد، لتجميد أعمال البرلمان وإقالة رئيس الوزراء هشام المشيشي، لكن مع مواصلته إجراءاته تزداد المخاوف من تفاقم الأزمة الاقتصادية التونسية؛ وسط الغموض المحيط بموقف صندوق النقد بشأن دعم اقتصاد البلاد في ظل الوضع الحالي.
وحمّل سعيّد الحكومات المتعاقبة، منذ الثورة التي أطاحت بالرئيس الأسبق زين العابدين بن علي في عام 2011، والتي كانت حركة النهضة جزءاً من معظمها، مسؤولية التدهور المستمر في الاقتصاد.
ولم يُظهر الاقتصاد أي تحسُّن أو حتى استقرار خلال الفترة القصيرة التي أمضاها سعيد في الحكم، فيما لا تؤشر سياساته السابقة على أي بوادر للنهوض بالبلاد، حسب تقرير لوكالة الأناضول.
فصول الأزمة الاقتصادية التونسية
الناتح المحلي: بدأ يتعافى لولا كورونا
في 2010 و2011، نما إجمالي الناتج المحلي بمتوسط 9%، لكن التباطؤ بدأ اعتباراً من 2012، وصولاً إلى انكماش بنسبة 0.15% في 2014.
ورغم عودة الاقتصاد للنمو في السنوات التالية، فإنه حافظ على نسبة منخفضة، إذ لم يتجاوز النمو منذ 2017، نسبة 1.5% (1.4% في 2017، و1.2% في 2018، و1.3% في 2019).
جاءت جائحة كورونا في 2020 بانتكاسة للاقتصاد، الذي انكمش بنحو 8.8%، ليكون عام الوباء هو الأسوأ اقتصادياً على البلاد منذ 1966، وفق تقديرات صندوق النقد الدولي.
وانكمش الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 3% على أساس سنوي، خلال الربع الأول من 2021، مع استمرار الضغوط الناتجة عن جائحة كورونا، وبطء عمليات التلقيح محلياً، واستمرار غلق مرافق حيوية كالسياحة.
البطالة: ما زالت مرتفعة رغم تراجعها عن ذروتها
حافظ الاقتصاد على معدل بطالة أقل من 12% حتى 2010، وفي عام الثورة (2011) قفز إلى أكثر من 18%.
ورغم تراجع معدل البطالة عن ذروته في 2011، في السنوات التالية، فإنه لم يقلّ في أيٍّ من السنوات بين 2012 و2019 عن 15%، ليستقر بنهاية 2020 عند مستوى 16.7%.
في مايو/أيار الماضي، قال المعهد التونسي للإحصاء (حكومي)، إن نسبة البطالة سجلت ارتفاعاً إلى 17.8% في الربع الأول من 2021، مقابل 17.4% في الربع الأخير من 2020.
وبلغ عدد العاطلين عن العمل حتى نهاية مارس/آذار الماضي، 742.8 ألف فرد مقابل 725.1 ألف فرد في الربع الرابع من عام 2020.
التضخم: انخفاض محدود خلال السنوات الأخيرة
حتى 2011، حافظ اقتصاد تونس على معدل تضخم بنحو 3% خلال العقد الأول من الألفية الثالثة (2000-2010)، لكنه بدأ رحلة صعود مطرد ليصل إلى 7.3% في 2018، لكنه انخفض إلى 6.7% عام 2019.
وفقاً للبنك المركزي التونسي، انخفض التضخم إلى 5.7% في 2020، ويتوقع البنك أن يحافظ على المستوى نفسه هذا العام.
وكان الارتفاع الكبير في أسعار المواد الأساسية هو الدافع الرئيسي إلى التضخم، إضافة إلى زيادة الأجور، واختلالات التجارة الخارجية، وتدهور سعر صرف العملة المحلية.
وبلغ ارتفاع الأسعار ذروته مع بدء جائحة كورونا وما رافقها من إرباك في الإنتاج وسلاسل التوريد، إذ ارتفعت أسعار المواد الاستهلاكية بنحو 30% بين أبريل/نيسان 2020، ويوليو/تموز 2021، وفقاً لبيانات المعهد الوطني للإحصاء.
الدين العام: بلغ مستوى خطيراً
بلغ إجمالي الدين العام في 2010 نحو 16 مليار دولار أو ما يعادل 55% من إجمالي الناتج المحلي، ليرتفع إلى 20.6 مليار دولار في 2017، ثم إلى 29 ملياراً بنهاية 2020.
ويتوقع البنك المركزي ارتفاع الدين إلى 35 مليار دولار بنهاية 2021، أو ما يزيد على 100% من إجمالي الناتج المحلي، في حال نجحت مساعي تونس للحصول على قروض خارجية جديدة، الجزء الأكبر منها من صندوق النقد الدولي.
غموض حول مفاوضات صندوق النقد
في مايو/أيار الماضي، بدأت الحكومة التونسية مفاوضات مع صندوق النقد الدولي للحصول على قرض هو الأكبر في تاريخ البلاد، بمقدار 4 مليارات دولار؛ لمعالجة الأزمة الاقتصادية التونسية.
لكن الأزمة المتصاعدة بعد قرارات سعيّد، تلقي بظلال قاتمة على هذه المفاوضات، ويتوقع الخبراء تباطؤ هذه المفاوضات، في وقت يتسارع فيه تدهور اقتصاد البلاد، وتزداد الضغوط على المالية العامة، مما يفاقم الأزمة الاقتصادية التونسية.
ويقدَّر عجز الموازنة العامة لهذا العام بنحو 6.7 مليار دولار، وهو مرشح للزيادة، بسبب اعتماد الموازنة متوسط سعر يبلغ 45 دولاراً لبرميل النفط، وهو رقم بعيد عن الأسعار السائدة في الأسواق العالمية (قاربت 80 دولاراً لمزيج برنت).
كما تواجه المالية العامة عبئاً آخر، إذ عليها توفير نحو 15.5 مليار دينار (5.6 مليار دولار) لخدمة الدَّين، منها 10 مليارات دينار (3.6 مليار دولار) بالنقد الأجنبي.
وفي ظل تصاعد الأزمة السياسية بالبلاد، من غير المرجح أن تنجح تونس، على الأقل بالمدى القريب، في توفير كل هذه المبالغ، ما لم تتوافر ضمانات كافية للعودة إلى المسار الديمقراطي من جهة، والمضي قدماً في إصلاحات اقتصادية اشترطتها مؤسسات التمويل الدولية من جهة أخرى.
فمن الواضح أن قدرة تونس على الخروج من الأزمة المالية مرتبطة بشكل كبير، بقدرتها على الحصول على دعم من صندوق النقد.
ماذا قال الصندوق؟
وقال متحدث باسم صندوق النقد الدولي مؤخراً، بعد الإجراءات المثيرة للجدل التي اتخذها الرئيس التونسي، إن الصندوق على استعداد لمواصلة مساعدة تونس في التغلب على تداعيات أزمة فيروس كورونا، وتحقيق تعافٍ "غنيٍّ بالوظائف"، وإعادة مالية البلاد إلى مسار مستدام.
وأضاف المتحدث، رداً على أسئلة من رويترز: "نراقب من كثب، تطورات الوضع في تونس.. لاتزال تونس تواجه ضغوطاً اجتماعية واقتصادية غير عادية، منها تداعيات جائحة كوفيد-19 التي تسبب خسائر كبيرة في الأرواح، وتطلعات التونسيين التي لم تتحقق، إلى نمو أعلى وغني بالوظائف وشامل".
وبددت تونس شكوكاً باحتمال تخلُّفها عن سداد ديونها، حيث قال مسؤول بوزارة المالية التونسية، لـ"رويترز"، إن تونس دفعت يوم الأربعاء، قسطاً من ديونها الخارجية بقيمة 503 ملايين دولار، وهو ثاني دفعة من نوعها في أسبوعين، بحسب وكالة "رويترز".
ولكن وكالة التصنيف الائتماني "موديز" حذَّرت من أن غياب المحكمة الدستورية بتونس سيسهم في تمديد الأزمة الاقتصادية التونسية.
وأفادت الوكالة بأن ذلك قد يؤدي إلى تباطؤ نسق تنفيذ الإصلاحات الاقتصادية ومن ثم المفاوضات مع صندوق النقد الدولي.
وشددت وكالة "موديز" في تقرير نشرته مؤخراً، تعليقاً على تجميد الرئيس قيس سعيّد أعمال مجلس نواب الشعب ورفع الحصانة عن النواب وإعفاء رئيس الحكومة من مهامه عملاً بالفصل الـ80 من الدستور، على أن "امتداد الأزمة السياسية من شأنه أن يزيد من إرباك المفاوضات مع صندوق النقد الدولي حول برنامج التمويل الجديد متعدد السنوات، والتي توقفت بالفعل، بسبب الخلافات القائمة مع الحكومة المقالة".
وأوضحت أن الخلافات مع تونس تتعلق أساساً بتقليص كتلة أجور الوظيفة العمومية وإعادة هيكلة منظومة الدعم، إضافة إلى دور المؤسسات بالاقتصاد، حسبما ورد في تقرير لموقع "روسيا اليوم".
واعتبرت "موديز" أنه من غير المرجح أن يوافق صندوق النقد الدولي على عقد برنامج جديد دون الموافقة على إرساء حزمة من الإصلاحات الشاملة في إطار "ميثاق اجتماعي" يجمع كل الأطراف الوطنية.
وأفادت تقارير، بأن ذلك يمكن أن يزيد ذلك مخاطر السيولة المحلية ويهدد استدامة الدين الخارجي.
وقد تكون لإجراءات قيس سعيّد السياسية نتائج مختلطة في الأغلب على الأزمة الاقتصادية التونسية.
فلقد تعرقل مفاوضات صندوق النقد، وتنفّر الاستثمار الأجنبي والرأسمال المحلي الذي قد يخشى حديثه عن محاربة الفساد بشكل شعبوي ويشجع على العمل خارج إطار القانون الطبيعي.
في المقابل، قد تؤدي توجهاته الاستبدادية إلى الحزم في مواجهة الإضرابات وأعمال الشغب التي تعطل مرافق الدولة والإنتاج، كما أنها قد تجذب مساعدات خليجية التي تذهب لدعم الثورات المضادة للربيع العربي أينما كانت، مثلما اجتذبت مصر بعد 30 يونيو/حزيران 2013، أموالاً إماراتية وسعودية.
ولكن في النهاية، بعد توقف تدفق السيولة الخليجية على القاهرة اضطرت إلى العودة مجدداً لصندوق النقد، لتنفذ إصلاحاتٍ أكثر قسوة وفي وقت متأخر تضمنت تحرير سعر صرف العملة التي تراجعت بشكل كبير مقارنة بقيمتها قبل يونيو/حزيران 2013، إضافة إلى تحرير أسعار الوقود التي قفزت أكثر من أربع مرات، وهو مصير قد تواجهه تونس.