منعت الحكومة السعودية في مايو/أيَّار الماضي، استخدام مكبِّرات الصوت في الصلوات والخطب في المساجد، وأمرت بخفض صوت الأذان، التي يتردَّد صداه في جميع أنحاء المملكة في الخمس صلوات يومياً، بمقدار الثلثين. وعندما كتب رجل دين غير معروف إلى حدٍّ كبير مقالاً على الإنترنت ينتقد فيه قرار وزارة الشؤون الإسلامية، أُلقِيَ القبض عليه، وفقاً لمنظمتين سعوديَّتين لحقوق الإنسان، وأُسكِتَ حسابه على منصة تويتر الذي كان نشطاً في السابق.
وبعد ذلك، في الشهر الماضي يوليو/تموز، أعلن رئيس الاتحاد الذي يمثِّل الشركات السعودية أنه سيسمح للمتاجر والمطاعم وغيرها من المؤسَّسات بفتح أبوابها خلال وقت الصلاة، وهو تطوُّرٌ رئيسي آخر في بلدٍ كانت فيه الشركات تغلق أبوابها خمس مرات في اليوم على مدار عقودٍ من الزمن. وجاء في مقالٍ في صحيفة عرب نيوز أن "أيام الإزعاج تلك قد ولَّت".
وحول ذلك تقول صحيفة Washington Post الأمريكية إن هذه التغييرات تمثل أحدث الخطوات التي اتَّخَذَتها السعودية في ظلِّ حكم وليّ عهدها المؤثِّر، محمد بن سلمان، لتقليص سلطة المؤسسة الدينية. وفي حين أن العديد من السعوديين على منصات التواصل قد يهلِّلون لهذه الخطوات باعتبارها دليلاً إضافياً على أن محمد بن سلمان يحرِّر المملكة، تعكس التطوُّرات أيضاً جهوده المستمرة لتوطيد سلطته وتقليم أجنحة أيِّ شخصٍ قد يتحداه.
تآكل نفوذ رجال الدين في السعودية
ولطالما لعب رجال الدين دوراً مهماً في المملكة السعودية، حيث أصدروا فتاوى وتصريحاتٍ تحكم حياة ملايين السعوديين. وامتدَّت قوة رجال الدين أيضاً إلى ما وراء حدود البلاد، حيث يتطلَّع العديد من المسلمين في جميع أنحاء العالم إلى المملكة لتلقي التوجيه والأحكام الدينية.
لكن محمد بن سلمان انفصل مراراً عن رجال الدين المحافظين. وخضعت الكتب المدرسية التي تتناول الدين الإسلامي للمراجعة، وكُبِحَت السلطات هيئة "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر". ومُنِحَت النساء الحق في قيادة السيارات وحضور الفعاليات الرياضية، ولم تعد المطاعم تفصل الزبائن حسب الجنس.
يتضح تآكل نفوذ رجال الدين بشكلٍ خاص في وزارات العدل والشؤون الإسلامية والتعليم، حيث لعبت المؤسسة الدينية دوراً كبيراً على مدار فترةٍ طويلةٍ للغاية.
وكان رجال الدين وغيرهم من السعوديين المحافظين يقاومون كلَّ ذلك. وبعد أن أمرت الحكومة بخفض صوت الأذان، انتشر وسم #صوت_الصلاة_مطلب_شعبي على منصة تويتر.
وكتب عمر عبد الله السعدون، رجل الدين الذي ورد أنه اعتُقِلَ فيما بعد، في مقاله عن مطالب السعوديين بعدول الحكومة عن قرارها، وحذَّرَ من مخاطر هذا القرار. وقال، على سبيل المثال، إن المصلين قد يكسرون الآن قيود كوفيد-19 بسبب الازدحام في المساجد لسماع الخطب التي لم تعد مسموعةً في الخارج كما كان ذي قبل.
وكتب سعدون أن "البيوت لن تسمع تلاوة القرآن والخطب، والأكثر من ذلك هو أن منع مكبرات الصوت أضعف دافع بعض الناس للذهاب إلى صلاة الجماعة". وأنهى مقاله بمناشدة وزير الشؤون الإسلامية التراجع عن القرار.
"أعداء المملكة"
من جهته، وصف وزير الشؤون الإسلامية في السعودية، عبد اللطيف آل الشيخ، منتقدي القرار بأنهم "أعداءٌ للمملكة يريدون إثارة الرأي العام والتشكيك في قرار الحكومة وتفكيك الوحدة الوطنية".
أصبح هذا هو النمط السائد في المملكة السعودية: إدخال تغييراتٍ ليبرالية ولكن بطريقةٍ سلطوية. الاعتقالات شائعةٌ أيضاً في أوساط النقَّاد الليبراليين والمحافظين على حدٍّ سواء، بدءاً من نشطاء حقوق المرأة إلى رجال الدين.
وقالت هبة زيادين، الباحثة السعودية في منظمة هيومان رايتس ووتش: "علمنا منذ أن شرع محمد بن سلمان في هذه الرحلة المزدوجة للإصلاحات الجديدة والقمع المتزايد أن هذا كان نهجاً صارماً من أعلى لأسفل، وأن الإصلاحات لا يُقصَد بها أن تُنظَر إليها باعتبارها استجابةً لمطالباتٍ شعبية، بل كخطواتٍ أرادها محمد بن سلمان نفسه". وأضافت: "أيُّ شخصٍ يتحدَّث علانيةً يتعرَّض لخطرٍ كبير ليس فقط على نفسه، ولكن على عائلته ودوائره المقرَّبة أيضاً".
ومنذ عام 2017، أُلقِيَ القبض على قادة دينيين منفتحين ومحافظين على حدٍّ سواء، إذ أوضحت الحكومة أن رجال الدين من جميع المدارس الفكرية سيُستهدَفون ما لم يلتزموا بخط الحكومة.
وأفادت وسائل إعلام سعودية في ديسمبر/كانون الأول أن الحكومة فصلت العديد من أئمة المساجد لعدم اتِّباعهم التوجيه الرسمي للخطب ضد جماعة الإخوان المسلمين، بعد أن صنَّفتها المملكة السعودية أنها "جماعةٌ إرهابية".
وقال وزير الشؤون الإسلامية إنه في حين أن "هؤلاء القادة الدينيين لم يكونوا بالضرورة متعاطفين مع أيديولوجية الإخوان المسلمين، فإن الحكومة كانت تبعث رسالة إلى أولئك الذين لا ينفِّذون التوجيهات أو كانوا بطيئين في تنفيذها، مفادها أنهم سيتم الاستغناء عنهم ويحل محلهم المستعدون والمستوفون للشروط".
تحجيم العلماء والفقهاء وإخراجهم من مؤسسات الدولة
كانت وزارة العدل هي المكان الذي أرسى فيه الزعماء الدينيون تقليدياً قواعد للحياة اليومية من تفسير القرآن والأحاديث النبوية، لكن في عام 2017 سُحِبَت سلطاتٌ قضائية كبيرة من الوزارة ووُضِعَت في يد هيئةٍ أُنشِئت حديثاً تتبع الملك سلمان مباشرةً.
وعندما ألقت السلطات السعودية القبض على أفرادٍ من العائلة المالكة ومليارديرات سعوديين وغيرهم من كبار رجال الأعمال، واحتجزتهم في فندق ريتز كارلتون، كجزءٍ مِمَّا قالت عنه الحكومة إنه حملةٌ ضد الفساد، أُبعِدَ قضاة وزارة العدل، المخضرمين في الفقه الإسلامي.
وكانت هيئة الأمر بالمعروف قد قُلِّصَ نفوذها قبل عام، وجُرِّدَت من صلاحياتها بعد أن كانت الهيئة عادةً تحكم الشوارع وتتدخل في شؤون السكَّان لارتدائهم ملابس أو إبدائهم تصرَّفاتٍ تُعتَبَر غير لائقة.
وفي تلك الأثناء، وقفت وزارة الشؤون الإسلامية وراء الخط الحكومي الجديد، والتزمت الصمت حين اعتُقِلَ رجال الدين وغيرهم من الوجهاء. وقد طغت هيئةٌ أخرى، وهي "رابطة العالم الإسلامي"، على دور الوزارة، وتتولَّى الرابطة مسؤولية الأنشطة الإسلامية في الخارج.
ومن خلال إضعاف هذه الجهات، يعيد محمد بن سلمان ترتيب تقاسم السلطة القديمة بين الأسرة الحاكمة والمؤسسة الدينية. وفي بعض الأوساط تكثير المخاوف من أن نسيج المملكة آخذٌ في الانهيار. لكن هذه المخاوف نادراً ما يُعبَّر عنها، خشية أن يقع المزيد من الاعتقالات.