شكَّل فتح الطريق الساحلي الرابط بين الغرب الليبي وشرقه، اختراقاً مهماً في الأزمة متعددة الأوجه التي تعيشها البلاد على الرغم من رمزيته، خاصة أنه يأتي في وقت تعثر فيه المسار السياسي وتقلصت الآمال في إمكانية إجراء الانتخابات قبل نهاية العام الجاري.
والجمعة، أعلنت لجنة الـ5+5 العسكرية المشتركة، إعادة فتح الطريق الساحلي الرئيسي، بعد أن أمهل الجيش الليبي اللجنة إلى غاية السبت للتواصل مع ميليشيات اللواء المتقاعد خليفة حفتر لفتح الطريق من جانبها. فماذا وراء هذا الحدث؟ وهل يعني نهاية الانقسام في ليبيا؟
إعادة فتح الطريق الساحلي إنجاز واضح لحكومة الدبيبة في ليبيا
تعتبر إعادة فتح الطريق الساحلي، بعد عامين من غلقه، تشكل "أول نجاح بارز" لحكومة الوحدة الوطنية بعد تسلمها السلطة رسمياً في 16 مارس/آذار الماضي، وأيضاً نجاح للجنة الـ5+5 منذ اتفاقها على وقف إطلاق النار في جنيف في 23 أكتوبر/تشرين الأول 2020.
ولا تكمن أهمية هذا النجاح في رفع المعاناة عن الليبيين وتسهيل تنقل المسافرين والبضائع بين غرب البلاد وشرقها فقط، بل الأهم من ذلك إنهاء أحد أوجه الانقسام في البلاد؛ ولذلك دلالة رمزية على أن البلاد في طريقها للملمة شتاتها في مواجهة مشاريع الانقسام أو الانفصال أو الفيدرالية، كما يقول تقرير لوكالة الأناضول.
وهذا ما أشار إليه عبدالحميد الدبيبة، رئيس حكومة الوحدة، في كلمته التي ألقاها بسرت (شرق طرابلس) عقب إزالته أحد السواتر الترابية، قائلاً: "عهد التشتت والفرقة وشبح الانفصال قد ولَّى إلى غير رجعة".
حيث تسلمت "لجنة الترتيبات الأمنية"، المنبثقة عن لجنة 5+5 العسكرية، مهمة تأمين الطريق الساحلي، والتثبت من نزع الألغام، وأصبح على عاتقها حماية المسافرين والبضائع المستعملة لهذا الطريق.
هل تنازل خليفة حفتر؟ ولماذا الآن؟
إعادة فتح الطريق الساحلي، وإن كانت أحد بنود اتفاق جنيف في أكتوبر/تشرين الأول الماضي، إلا أنها خطوة تأخر تحقيقها بسبب رفض ميليشيات حفتر نظراً لتواجد مرتزقة شركة "فاغنر" الروسية في سرت، خاصة بقاعدة القرضابية الجوية وميناء المدينة.
وحتى بعد أن أعلن رئيس حكومة الوحدة الليبية إعادة فتح الطريق الساحلي في 20 يونيو/حزيران الماضي، إلا أن ميليشيات حفتر تمسكت بغلقه، رغم تنازل غرفة تحرير سرت والجفرة التابعة للجيش الليبي عن شرط إخراج مرتزقة فاغنر من سرت، بعد ضغوط من المجلس الرئاسي ومن الحكومة.
لذلك تشكل موافقة حفتر على إعادة فتح الطريق الساحلي "مفاجأة صغيرة"، لها أسبابها وخلفياتها، خاصة أنها تأتي بعد ضغوط أممية وأمريكية، وتلويحات بكشف أسماء المعرقلين لاتفاق جنيف.
وتحميل حفتر مسؤولية عرقلة فتح الطريق الساحلي بين الشرق والغرب قد يعرضه لعقوبات دولية أو على الأقل أمريكية وغربية، مثلما كان الشأن بالنسبة لمحمود الورفلي ومحمد الكاني، التابعين لميليشيات حفتر، قبل أن تتم تصفيتهما.
ومن شأن أي عقوبات دولية على حفتر أن تؤثر على حظوظه وعلى سمعته في الترشح للرئاسيات والفوز بها، خاصة مع عودة سيف الإسلام القذافي للظهور مجدداً كمنافس قوي له على الساحة السياسية.
لذلك يسعى حفتر إلى تحسين صورته أمام المجتمع الدولي وأمام الرأي العام المحلي، خاصة أنه يُحضر نفسه للترشح للرئاسيات، ويسعى لكسب تأييد الناخبين.
ما أهمية إعادة فتح الطريق الساحلي؟
سيقلص إعادة فتح الطريق الساحلي مئات الكيلومترات وعدة ساعات من مسافة التنقل من الشرق إلى الغرب، بدلاً من استعمال طريق التفافي طويل يمر عبر وسط الصحراء الليبية.
إلا أن خطوة حفتر جاءت متأخرة، وتمكن الدبيبة من حصد نتيجة هذا النجاح، رغم أن اللجنة العسكرية المشتركة كان لها الدور الفاعل في تجسيد هذا القرار على الأرض.
هذا ما يبدو في الظاهر، لكن من غير المستبعد أن تكون هناك صفقة ما عُقدت في الخفاء بين حفتر والحكومة، مقابل تنازله لإعادة فتح الطريق، فليس من طبيعة اللواء المتقاعد تقديم تنازلات مجانية إلا تحت الضغط أو المساومة.
فعدم قدرة حفتر على دفع أجور عناصر ميليشياته أصبحت تطفو للعلن، وإمكانية تمرد بعضها غير مستبعد، مثلما يحدث للواء التاسع ترهونة (الكانيات) الذي قُتل زعيمه محمد الكاني مؤخراً على يد ميليشيات الشرق، بحسب الأناضول.
بعد فتح الطريق الساحلي.. هل سينسحب مرتزقة فاغنر من سرت؟
يشكل بقاء عناصر فاغنر والمرتزقة الأفارقة في سرت خطراً على المسافرين وشاحنات نقل البضائع التي ستعبر الطريق الساحلي؛ لذلك تضغط عدة أطراف محلية ودولية على إخراجهم من ليبيا.
فغرفة عمليات سرت والجفرة التابعة للجيش الليبي شددت في أكثر من مرة على ضرورة إخراج المرتزقة الأجانب من المنطقة وإبعادهم عن خطوط التماس. وإعادة فتح الطريق ستضاعف الضغوط الأممية والدولية على فاغنر للانسحاب بعيداً عن سرت.
وقد نشهد في المرحلة المقبلة إعادة انتشار عناصر فاغنر خارج مدينة سرت وقاعدتها الجوية، خاصة إذا وافق مجلس الأمن على إرسال بعثة مراقبين دوليين إلى المنطقة، بعد إرساله فريقاً متقدماً مصغراً إلى سرت في مارس/آذار الماضي.
غير أن هذا التفاؤل ما زال محفوفاً بالحذر، وفتح الطريق الساحلي قد يكون مؤقتاً أو من الممكن أن يستعمله أحد الأطراف لابتزاز الطرف الآخر في ملفات أخرى، مثلما فعل رئيس مجلس النواب عقيلة صالح عندما عرقل تحرير الميزانية وربطها بتخصيص موارد مالية لحفتر.
كما أن فاغنر تبدو خارج سيطرة حفتر، وليس من السهل إخراجها من سرت، إذ سبق لها أن انسحبت من المدينة في مارس/آذار الماضي، عند احتضانها اجتماع مجلس النواب بشقيه لاعتماد حكومة الوحدة، لكنها سرعان ما عادت إلى مواقعها السابقة بعد انتهاء الاجتماع.
وهذا ما قد يفسر سبب إصرار حفتر في الفترة الأخيرة على ضرورة مغادرة المرتزقة الأراضي الليبية "عاجلاً ودون شروط"، في الوقت الذي تواصل القواعد العسكرية الجوية في شرق البلاد استقبال طائرات محملة بالمرتزقة والأسلحة، بما يتناقض مع تصريحات اللواء المتقاعد، الذي يحاول التماهي مع المطالب الدولية.
العسكريون يسجلون نقطة جديدة
تقدم العسكريون، ممثلين في لجنة الـ5+5، التي تضم ضباطاً من الجيش الليبي وآخرين من ميليشيات حفتر، خطوة جديدة على السياسيين سواء في ملتقى الحوار (لجنة الـ75) أو فرق الحوار التي جمعت وفوداً من مجلسي النواب والدولة.
فكما شكل اتفاق وقف إطلاق النار الذي وقعته لجنة الـ5+5 العسكرية، خطوة متقدمة سمحت فيما بعد للسياسيين في ملتقى الحوار باختيار مجلس رئاسي جديد وحكومة وحدة وطنية، فإن فتح الطريق الساحلي على رمزيته من شأنه تشجيع السياسيين على التقدم في ملفي القاعدة الدستورية وقوانين الانتخابات.
فحتى بعد تجاوز مهلة 1 أغسطس/آب، الجديدة التي وضعتها مفوضية الانتخابات لتسلم القاعدة والدستورية قوانين الانتخابات، إلا أن الآمال ما زالت معلقة على إجراء الانتخابات في 24 ديسمبر/كانون الأول المقبل، خصوصاً أن المفوضية شرعت في تسجيل الناخبين الجدد أو غير المسجلين أو الذين غيروا مقرات إقامتهم.
كما أن لجنة التوافقات المنبثقة عن ملتقى الحوار عقدت لقاءين افتراضيين في 27 و31 يوليو/تموز المنصرم، بهدف التوصل إلى أرضية مشتركة بشأن مقترح للقاعدة الدّستورية، وآلية صنع القرار.
ولم يحدد بعد اجتماع جديد لملتقى الحوار بعد تعثر لقاء جنيف الذي عُقد نهاية يونيو/حزيران وبداية يوليو/تموز الماضي. في الوقت الذي لا يبدي فيه عقيلة صالح رغبة في عقد اجتماع جديد لملتقى الحوار، ويناور من أجل إقصاء مجلس الدولة وملتقى الحوار في اعتماد قانوني الانتخابات الرئاسية والبرلمانية بالإضافة إلى القاعدة الدستورية.
وفي ظل تعقُّد المسار السياسي، يشكل فتح الطريق الساحلي الرئيسي بين الغرب والشرق بارقة أمل في إمكانية دفع ملتقى الحوار لتحقيق تقدم في القاعدة الدستورية، وتراجع عقيلة صالح عن خيار "تلغيم الحوار السياسي" وتشكيل حكومة موازية بالشرق.