من المؤكد أن ظهور سيف الإسلام القذافي "حراً" وإعلان رغبته في الترشح لرئاسة ليبيا يمثل مفاجأة مُربكة لمشهد سياسي مرتبك من الأساس، فلماذا يبدو خليفة حفتر أكثر المهددين من عودة نجل القذافي؟
وجاء الدليل القاطع على أن سيف الإسلام القذافي على قيد الحياة، بعد أن ظل مختفياً لسنوات، من خلال لقاء أجراه معه الصحفي الأمريكي روبرت وورث، في مايو/أيار الماضي، لحساب صحيفة "نيويورك تايمز"، التي نشرته في شكل قصة خبرية مطولة عن الأزمة الليبية، الجمعة 30 يوليو/تموز.
ويمكن القول إن أهم ما جاء في تقرير الصحيفة الأمريكية هو أحدث صورة لسيف الإسلام القذافي بلحيته التي خالطها الشيب وعباءته الخليجية وعمامته السوداء، وهو ما يمثل أول دليل على أن سيف الإسلام ما زال "حياً"، بعد أن ثارت شائعات بشأن وفاته، حيث زعمت صحيفة "العنوان" المقربة من زعيم الحرب خليفة حفتر، أنه توفي بمرض السل في سجنه، قبل إعلان إطلاق سراحه بأيام.
اختفاء طويل وظهور درامي لنجل القذافي
ليبيا، بعد عشرة أعوام على سقوط نظام معمر القذافي، منقسمة بين شرق يسيطر عليه خليفة حفتر وغرب تتقاسم السيطرة عليه كتائب مسلحة، أقواها كتائب مصراتة، وأبرز قادتها فتحي باشاغا، وزير الداخلية السابق في حكومة الوفاق (2016-2021).
وكان نجل القذافي قد اعتقل في أكتوبر/تشرين الأول 2011 عند محاولته الفرار نحو النيجر، واختفى أثره في 2017 بعد إطلاق المجموعة المسلحة التي اعتقلته سراحه من منطقة الزنتان، الواقعة بأعلى هضبة في الجبل الغربي (170 كلم جنوب غربي طرابلس).
وكان آخر من التقاه، خلال الفترة الماضية، الناشطان الروسيان مكسيم شوغالي وسامر سويفان، اللذين اعتقلا في طرابلس في 2019، ووجهت لهما تهمة التجسس، قبل أن يطلق سراحهما في 2020. ومنذ ذلك الوقت تضاربت الأنباء بشأن مصير سيف الإسلام، بل وشكك البعض في أنه موجود على قيد الحياة، إلى أن ظهر الجمعة.
والآن يطرح سيف الإسلام القذافي نفسه كخيار ثالث يهدف إلى توحيد البلاد، التي مزقتها الحرب الأهلية وانهار اقتصادها رغم امتلاكها أكبر احتياطي نفطي في إفريقيا.
فنجل القذافي يرى، بحسب حوار الصحيفة الأمريكية، أن السياسيين الليبيين "لم يجلبوا إلا البؤس، وحان الوقت للعودة إلى الماضي، فالبلد جاثٍ على ركبتيه، لا مال ولا أمن، لا توجد حياة هنا".
وانطلاقاً من هذا التحليل المأساوي لوضع البلاد، يُقدم نجل القذافي نفسه كمنقذ للبلاد، وأنه يريد "إحياء الوحدة المفقودة".
صحيح أن الرجل لم يعلن ترشحه للرئاسيات المرتقبة في 24 ديسمبر/كانون الأول المقبل بشكل مباشر، إلا أن ممثليه في ملتقى الحوار السياسي قاتلوا بالتنسيق مع الداعمين لحفتر من أجل إلغاء أي شروط للترشح للرئاسيات.
ومن تلك الشروط التي تعوق ترشحه؛ الحكم القضائي غير النهائي من محكمة طرابلس في 2015 بإعدامه رمياً بالرصاص، كما أنه مطلوب لدى المحكمة الجنائية الدولية بتهمة ارتكاب جرائم ضد الإنسانية.
ومع ذلك فالقذافي الابن مقتنع بقدرته على تجاوز كل تلك العوائق القانونية، وأنصاره بادروا بتنظيم حملات على شبكات التواصل الاجتماعي تحت شعار "رشحناك"، وشكلوا لذلك ما يسمى بـ"حراك رشحناك من أجل ليبيا"، الذي نظم حملتين آخرهما في نوفمبر/تشرين الثاني 2020.
وكان موقع شبكة Voice of America الأمريكية قد نشر تقريراً أواخر يونيو/حزيران الماضي عنوانه "ترشُّح سيف الإسلام القذافي المحتمل للرئاسة"، تناول ما أكده بالفعل حوار صحيفة نيويورك تايمز المنشور قبل أيام، وهذا الاحتمال أثار حفيظة الدبلوماسيين الغربيين ومستشاري الديمقراطية الدوليين، الذين يقولون إن عملية السلام المضطربة في ليبيا لديها ما يكفيها من العوائق التي تحتاج إلى تجاوزها، ولا تتحمل أن يُضاف إليها نجل القذافي، الذي يعد شخصية تتسبب في حالة استقطاب شديد.
ما فرص نجل القذافي حال ترشحه بالفعل؟
أظهر لقاء الصحيفة الأمريكية مع سيف الإسلام أنه لم يتغير ولا يشعر بالندم، بل يعتقد أنه حان الوقت لعهد "الكتاب الأخضر"، الذي ألّفه والده معمر القذافي الذي حكم ليبيا بالحديد والنار لأربعة عقود كاملة حتى مقتله عام 2011.
لكن يبدو أن عشرة أعوام من الثورة لم تمحُ 40 سنة من حكم معمر القذافي وأبنائه؛ إذ لا زالت مدن وقبائل تجاهر بدعمها له، على غرار قبائل القذاذفة والمقارحة والورفلة، المنتشرين في مدن سرت (وسط) وبني وليد، والشويرف (غرب)، وبراك الشاطئ، وسبها (جنوب). كما يوفر أحمد قذاف الدم، ابن عم سيف الإسلام، المقيم في مصر، الدعم المالي له؛ حيث يحتفظ بثروة طائلة، ويقود أيضا حزب النضال الوطني.
أما الكتائب الأمنية التي شكلها معمر القذافي لحماية نظامه، وإن تم تفكيكها بعد الثورة، إلا أن أطراف الصراع عادت واستعانت بقادتها وعناصرها وتم ضمهم لوحدات عسكرية، وأغلبهم يقاتلون الآن إلى جانب مليشيات حفتر.
وذكرت "نيويورك تايمز" عن استطلاعات رأي (لم تحدد مصدرها) أن 57% في منطقة واحدة (لم تذكرها) عبّروا عن "ثقتهم" بسيف الإسلام، ونقلت عن محامية ليبية أن "عملها غير الرسمي لقياس الرأي العام يشير إلى أن 8 أو 9 من كل 10 ليبيين سيصوّتون لسيف الإسلام".
وليس ذلك فقط، فسيف الإسلام لديه حليف قوي، هو روسيا، التي تعتقد أنه "سيفوز" بالانتخابات، بحسب دبلوماسي أوروبي، وصفته الصحيفة الأمريكية بأنه "ذو خبرة طويلة في الشأن الليبي".
ولا تخفي موسكو دعمها للقذافي، حيث استقبل مبعوث الرئيس الروسي الخاص بالشرق الأوسط وإفريقيا ميخائيل بوغدانوف، مفتاح الورفلي وعمر أبوشريدة، ممثلين عن "حركة سيف الإسلام"، في 15 يناير/كانون الأول الماضي.
حفتر.. الخاسر الأكبر من منافسة نجل القذافي
وفي ظل هذه المعطيات، يبدو أن المتضرر الأكبر من عودة سيف الإسلام القذافي هو خليفة حفتر، الذي تحالف منذ نهاية 2014 مع قادة الكتائب الأمنية التابعة لنظام القذافي، واستوعب عناصرهم في صفوف ميليشياته، بتوجيهات من السلطات الأمنية في مصر، بحسب العقيد عبد الباسط تيكة، القيادي في جهاز مكافحة الإرهاب بطرابلس.
وسيف الإسلام نفسه، زعم أن 80% من المقاتلين في صفوف مليشيات حفتر من أنصاره، في تصريح نقله عنه الناشطان الروسيان اللذان اعتقلا بسببه في 2019.
وعودة الرجل قد تُحدث شرخاً في صفوف مليشيات حفتر، خاصة إذا قرر استعادة السلطة بالقوة بدعم روسي، أما إن تمكن من دخول الانتخابات فسيمثل أبرز منافس لحفتر على الرئاسة، بحسب تحليل للأناضول.
وتجدر الإشارة إلى أن أنصار القذافي يتبوأون مناصب حساسة في صفوف ميليشيات حفتر، وأبرزهم اللواء المبروك سحبان، قائد القوات البرية (من قبيلة المقارحة) والرائد عمر امراجع، قائد كتيبة طارق بن زياد (من المقارحة)، واللواء عبدالسلام الحاسي، قائد القوات الخاصة.
وقبلهم محمد بن نائل، قائد اللواء 12، الذي سيطر على قاعدة براك الشاطئ الجوية (جنوب) في 2016، وانضم إلى حفتر، وبفضله تمكن الأخير من دخول قاعدتي تمنهنت (جنوب) والجفرة الجويتين (وسط)، قبل أن يُتوفى في ظروف غامضة. بينما تم التخلص من مسعود الضاوي، أحد القادة الموالين للقذافي في منطقة ورشفانة المحاذية للعاصمة، على يد مليشيات حفتر في 2019، إبان العدوان على طرابلس.
ورغم أن حفتر وصف ذات مرة سيف الإسلام القذافي بـ"المسكين"، إلا أنه حاول قتله أكثر من مرة، بحسب أنصار القذافي، بل وبحسب شهادة إبراهيم المدني، قائد اللواء محمد المدني بالزنتان، الذي أكد أن قادة تابعين لحفتر طلبوا منه قتل سيف الإسلام.
وهذا يعكس قلق حفتر من الخطورة التي يشكلها سيف الإسلام القذافي على طموحه للاستيلاء على السلطة، خاصة أنه كان عدواً لوالده منذ سقوطه أسيراً في حرب تشاد عام 1987 إلى غاية مقتله في 20 أكتوبر 2011.
وإن كان حفتر يحاول ضبط أنصار القذافي في صفوف ميليشياته عبر الأجور والمرتبات وأيضاً عبر القمع والتصفيات الجسدية، إلا أن الدعم الروسي المحتمل لسيف الإسلام أكثر ما يؤرقه. فروسيا متواجدة عسكرياً في ليبيا عبر شركة "فاغنر"، وتقارير إخبارية تحدثت مؤخراً عن تواجد قوات روسية نظامية أيضا.
وهذا الثقل العسكري الروسي، وإن كان في الظاهر لصالح حفتر، إلا أن موسكو قد تختار القذافي في النهاية إذا خُيّرت بينه وبين حفتر. ويفسر ذلك تأكيد حفتر في الفترة الأخيرة على ضرورة رحيل جميع المرتزقة الأجانب من ليبيا "بدون استثناء".
وموافقة حفتر على فتح الطريق الساحلي بين الشرق والغرب، الجمعة، بعد عرقلته مراراً لمحاولات فتحه، يعكس بداية تغير في استراتيجيته نحو التقارب النسبي مع حكومة الوحدة.
فليس من المستبعد أن تؤدي عودة القذافي للمعترك السياسي، إلى تشكل تحالفات جديدة وغير متجانسة بين أعداء الأمس في إطار سياسة "عدو عدوي صديقي". لكن منذ 2011 خسر أنصار القذافي معظم المعارك العسكرية التي خاضوها ضد كتائب الغرب الليبي أو حفتر، فهل سيتمكن سيف الإسلام من تجميع شتاتهم؟ أم سيزيد البلاد انقساماً؟.