بالتوازي مع الأزمة السياسية المندلعة بين الرئيس التونسي قيس سعيد ومعارضيه، تشهد تونس بوتيرة متسارعة ومكثفة موجة إقالات لمسؤولين بارزين في مؤسسات حكومية ووزارات سيادية ومناصب قضائية، أنهت مهام 25 مسؤولاً حتى مساء الأربعاء، 28 يوليو/تموز 2021، إلى جانب رئيس الحكومة المقال هشام المشيشي، فماذا وراء هذه الإقالات، ومَن هم المُقالون؟
مَن المسؤولون الذين أقالهم قيس سعيد حتى الآن؟
آخر الرجال المقالين هو محمد الداهش، المدير العام للتلفزيون الرسمي في تونس، يوم الأربعاء 28 يوليو/تموز 2021، فقد أفادت الرئاسة التونسية، في بيان، بأن سعيد أصدر أمراً رئاسياً يقضي بإعفاء الداهش من مهامه مديراً عاماً للتلفزة الوطنية. وفق البيان ذاته فقد كلف الأمر الرئاسي عواطف الدالي بتسيير مؤسسة التلفزة مؤقتاً.
ويضاف قرار إعفاء الداهش إلى قرارات أخرى، طالت 24 مسؤولاً في الحكومة والأجهزة الأمنية بالبلاد، ليكون بذلك مدير التلفزيون هو المسؤول الـ25 الذي تتم إقالته.
حيث أعلنت الرئاسة التونسية، مساء الثلاثاء 27 يوليو/تموز، سلسلة إقالات استهدفت مسؤولين في مناصب عليا بالدولة، بحسب مجلة "الرائد" الرسمية.
فبمقتضى أمر رئاسي، أقال قيس سعيد المكلفَ بمهام وكيل الدولة العام، مدير القضاء العسكري، العميد القاضي، توفيق العيوني، ورئيسَ الهيئة العامة لشهداء وجرحى الثورة والعمليات الإرهابية عبدالرزاق الكيلاني.
كما أقال قيس سعيد كلاً من المعز لدين الله المقدم، مدير ديوان رئيس الحكومة المُقال، والكاتب العام للحكومة وليد الذهبي.
وأقال أيضاً كل مستشاري رئيس الحكومة المُقال الثمانية، وهم: رشاد بن رمضان، ولحسن بن عمر، وإلياس الغرياني، وأسامة الخريجي، وعبدالسلام العباسي، وسليم التيساوي، وزكريا بلخوجة، ومفدي مسدي.
وشملت الإقالات كذلك 9 مكلفين آخرين بمهام في ديوان الحكومة، وهم: فتحي ييار، ومحمد علي العروي، وحسام الدين بن محمود، وبسمة الداودي، وابتهال العطاوي، ومنجي الخضراوين، ونبيل بن حديد، وبسام الكشو، وروضة بن صالح.
ما وراء هذه الإقالات الجماعية في تونس؟
سلسلة الإقالات التي بدأها الرئيس التونسي قيس سعيد لم ترافقها تفاصيل حول أسبابها، ويتوقع مراقبون أن تتواصل في الأيام المقبلة لتشمل هياكل محلية، مثل إقالة ولاة المحافظات (محافظين)، وتجميد المجالس البلدية (المحلية).
وتأتي هذه الإقالات ضمن ما سمّاها سعيد "التدابير الاستثنائية" التي اتخذها يوم الإثنين 26 يوليو/تموز، أمراً رئاسياً بإقالة كل من المشيشي رئيس الحكومة والمكلف بإدارة شؤون وزارة الداخلية بالنيابة، وإبراهيم البرتاجي وزير الدفاع، وحسناء بن سليمان الوزيرة لدى رئيس الحكومة المكلفة بالوظيفة العمومية ووزيرة العدل بالنيابة. وإلى اليوم لم تعيّن الرئاسة التونسية وزراء لهذه الوزارات ولا رئيساً للحكومة.
وعقب اجتماع طارئ مع قيادات عسكرية وأمنية، أعلن سعيّد، الأحد، إقالة رئيس الحكومة المشيشي، على أن يتولى هو بنفسه السلطة التنفيذية بمعاونة حكومة يعين رئيسَها، وتجميد اختصاصات البرلمان لمدة 30 يوماً، ورفع الحصانة عن النواب، وترؤسه النيابة العامة.
الرئيس التونسي اتّخذ هذه التدابير في يوم شهدت فيه محافظات عديدة احتجاجات شعبية، طالبت بإسقاط المنظومة الحاكمة بكاملها، كما اتهمت المعارضة بـ"الفشل"، في ظل أزمات سياسية واقتصادية وصحية.
فيما ذهب سعيد إلى أنه اتخذ هذه القرارات لـ"إنقاذ الدولة التونسية"، لكن غالبية الأحزاب رفضتها، واعتبرها البعض "انقلاباً وخروجاً على الدستور"، بينما أيدتها أحزاب أخرى، معتبرةً إياها "تصحيحاً للمسار".
هل ترتبط هذه الإقالات بقضايا فساد؟
لا يوجد ارتباط بين هذه الإقالات الجماعية وما سماه سعيد بـ"حملة على الفساد"، التي تحدث عنها الرئيس التونسي بعد اجتماعات متتالية مع قادة الجيش ومسؤولين آخرين، حيث وعد بإصدار "قانون لاسترجاع الأموال المنهوبة".
واستقبل سعيّد رئيس اتحاد الصناعة والتجارة سعيد بسمير ماجول، وقال خلال اللقاء إنه سيُصدر في وقت لاحق نصّاً قانونياً يُنظم إجراءات مصالحة قانونية تسمح باسترجاع الأموال المنهوبة، موضحاً أن عدد من نهبوا أموال تونس هو 460، وذلك بناء على تقرير لجنة وطنية لتقصّي الحقائق.
وأضاف أن رؤيته تتضمن "إلزام مَن تورّطوا في نهب الأموال العامة بتمويل مشاريع في المناطق الفقيرة، وأنه لا يريد التنكيل بأي شخص، بل إعادة الأموال المنهوبة إلى الشعب، مشيراً إلى أنه قد عرض سابقاً مصالحة قانونية".
وتابع سعيّد قائلاً: "يجب إنهاء التهرب من دفع الضرائب والعودة فوراً لعملية استخراج الفوسفات اليوم قبل الغد. هناك أشخاص داخل المجلس النيابي يحتمون بالحصانة من أجل تعطيل إنتاج الفوسفات لتحقيق مصالحهم". كما اعتبر الرئيس التونسي أن هناك ضغوطاً مالية على بلاده، بينما يحظى البعض بقروض وأموال من البنوك ويمتنعون عن دفع الضرائب، بحسب تعبيره.
اعتداء على المشيشي و"أيادٍ خارجية" في المشهد التونسي
في السياق، يُنظر إلى تونس على أنها الدولة العربية الوحيدة التي نجحت في إجراء عملية انتقال ديمقراطي من بين دول عربية أخرى شهدت أيضاً ثورات شعبية أطاحت بالأنظمة الحاكمة فيها، ومنها مصر وليبيا واليمن.
لكن في أكثر من مناسبة اتهمت شخصيات تونسية دولاً عربية، لاسيما خليجية، بقيادة "ثورة مضادة" لإجهاض عملية الانتقال الديمقراطي في تونس، خوفاً على مصير الأنظمة الحاكمة في تلك الدول.
وآخر فصول ذلك هو ما كشفه موقع "ميدل إيست آي" البريطاني، الأربعاء 28 يوليو/تموز، أن رئيس الوزراء التونسي المشيشي، المختفي عن الأنظار ووسائل الإعلام منذ أن أعلن الرئيس إقالته وتجميد عمل البرلمان، قد تعرّض لـ"اعتداء جسدي" في القصر الرئاسي قبل موافقته على الاستقالة من منصبه.
ونقلاً عن مصادر مقربة من المشيشي، فقد علم الموقع البريطاني بتعرض رئيس الوزراء التونسي لاعتداء جسدي، لكنه لم يتحقق من طبيعة الإصابات التي تعرض لها، كما أن اختفاءه عن كاميرات الإعلام قد زاد الأمر غموضاً. بحسب المصادر فإن الإصابات التي تعرّض لها المشيشي "كبيرة"، حيث كشف أحد المصادر أن إحداها كانت في الوجه مباشرة، وهذا سبب عدم ظهوره علناً حتى الآن.
ونقل الموقع البريطاني عن مصادر أن المشيشي رفض طلبات التنحي عن رئاسة الحكومة، وآخرها الأحد، وعقب ذلك تعرض للضرب، فيما أشارت مصادر إلى أن أشخاصاً "غير تونسيين" كانوا في القصر في ذلك الوقت.
في اليوم التالي من هذه الحادثة، أصدر المشيشي بياناً، قال فيه إنه "لا يمكن أن يكون بأي حال من الأحوال عنصراً من المشكلة التي تُعقد الوضع في تونس"، وإنه سيسلم المسؤولية للشخص الذي سيكلفه الرئيس برئاسة الحكومة.
في سياق متصل، قال الموقع البريطاني إنه علم بوجود أفراد غير تونسيين بالقصر "ليلة القرارات المفاجئة"، كانوا في الغالب "مسؤولين أمنيين مصريين، قدموا المشورة لسعيد، ووجهوا العمليات هناك، ومن غير الواضح ما هو الدور الذي لعبوه في استجواب المشيشي".
ونقل عن مصدر قوله: "إن عبدالفتاح السيسي عرض تقديم كل الدعم الذي يحتاجه سعيّد من أجل خطواته الاستثنائية"، وأضاف: "تم إرسال عسكريين وأمنيين مصريين إلى تونس، بدعم كامل من ولي عهد أبوظبي محمد بن زايد".