يبدو أن الولايات المتحدة تحاول تقليد الصين خلال عملية صياغة سياسة أمريكية صناعية لمنافسة بكين.
وعلى مدى سنوات ظل مصطلح "سياسة أمريكية صناعية"- التي تُشجِّع على نمو صناعات معينة بمساعدة الحكومة- كلمة سيئة في الولايات المتحدة. لكنها صارت الآن واحدة من الأشياء القليلة التي يتفق عليها الجمهوريون والديمقراطيون.
وستضيف مشروعات القوانين المنفصلة التي تتحرك عبر الكونغرس وتحظى بدعم الحزبين مبلغ 250 مليار دولار إلى إنفاق الإدارة الفيدرالية على التطوير والأبحاث والتعليم العلمي وكذلك على المنح الموجهة لمحطات أشباه الموصلات، حسبما ورد في تقرير لصحيفة The Wall Street Journal الأمريكية.
وسبب هذه الانفراجة المفاجئة في الشراكة بين الحزبين ليس سراً؛ فهي المخاوف المتزايدة بشأن المنافسة الصينية. وهناك مساعٍ لتمرير مشروع قانون منفصل عن البنية التحتية من الحزبين بقيمة 1 تريليون دولار تقريباً استناداً لتبريرات مماثلة.
هل هناك حاجة إلى سياسة أمريكية صناعية جديدة؟
ليس هناك شك في أنَّ الولايات المتحدة بحاجة إلى مزيد من الإنفاق العام على البنية التحتية والبحث والتطوير وتدريب الجيل القادم من المبرمجين والمهندسين الأمريكيين. يمكن أن يكون دعم الصناعات الاستراتيجية بالحوافز الضريبية أو غيرها من الوسائل مفيداً أيضاً، كما أثبتت تايوان وكوريا الجنوبية في مجال أشباه الموصلات. لكن يجب على الولايات المتحدة تجنُّب الوقوع في فخ محاولة اختيار الشركات الفائزة مباشرةً- وإقران دعم الدولة بالنزعة الحمائية.
في الصين، أدى هذا الدمج بين السياسات في كثير من الأحيان إلى نتائج سيئة: الطاقة الزائدة والشركات منخفضة الجودة التي تتغذى على الإعانات الحكومية، بدلاً من الشركات الرائدة في مجال التكنولوجيا الحقيقية.
يجب التركيز على البنية التحتية
والبنية التحتية الأمريكية نفسها في حالة مروعة؛ إذ سيكلف إصلاح جميع الطرق والجسور وحده في الولايات المتحدة- ناهيك عن الاستثمار الجديد في النطاق العريض أو إمدادات طاقة أكثر مرونة- نحو 3.5% من الناتج المحلي الإجمالي، وفقاً لمذكرة أكتوبر/تشرين الأول 2020 من صندوق النقد الدولي.
والأهم من تطوير البنية التحتية، زيادة الإنفاق العام على البحث والتطوير وتعليم العلوم – على سبيل المثال، من خلال دعم الكليات المجتمعية. ويرجع ذلك جزئياً إلى أنَّ القطاع الخاص تحمَّل حصة الأسد من الإنفاق على البحث والتطوير في الولايات المتحدة، منذ نهاية الحرب الباردة.
وفي عام 2017، شكَّل البحث والتطوير المُموَّل من القطاع الخاص نحو 1.8% من الناتج المحلي الإجمالي، مقابل 0.7% فقط من الحكومة. علاوة على ذلك، فإنَّ الجمع بين قوة عاملة متقدمة في السن وأبطأ نمواً في الولايات المتحدة وتوترات متزايدة مع الصين من شأنه إلحاق الضرر بالشركات الأمريكية من حيث التكاليف والإيرادات.
لذلك من الضروري، إذا أرادت الولايات المتحدة أن تظل في المقدمة، أن تبدأ الحكومة الأمريكية في إنفاق المزيد على العلوم نفسها، بالإضافة إلى بذل ما في وسعها للحفاظ على تكاليف التشغيل تحت السيطرة من خلال دعم تعليم العلوم وهجرة المهارات.
تجربة الصين في دعم السيارات الكهربائية
لكن تصبح الأمور أكثر ضبابية عندما يتعلق الأمر بمسألة دعم الصناعات المباشر مثل أشباه الموصلات. ما تُظهره تجارب الصين وأماكن مثل كوريا الجنوبية هو أنَّ الأموال الحكومية يمكن أن تساعد، لكن من الضروري أيضاً عدم حماية الشركات من المنافسة.
ويمكن الاستفادة من تجربة الصين مع السيارات الكهربائية؛ فقد ركزت بكين في البداية على المحاولة المباشرة لبناء أبطال وطنيين من خلال منح مشتري السيارات الكهربائية حسومات كبيرة مُموَّلة من دافعي الضرائب للسيارات الكهربائية المنتجة محلياً، بالإضافة إلى إجبار جميع شركات السيارات الصينية على الاستثمار في إنتاج السيارات الكهربائية وشراء البطاريات المحلية.
وكما كان متوقعاً، أدى ذلك إلى سباق نحو القاع بدلاً من القمة؛ فقد أنفقت الحكومات المحلية بكثافة لدعم أبطالها، وألقت الطاقة الزائدة عبئها على هوامش الربح للجميع، وركزت الشركات في الغالب على النماذج المنخفضة التكلفة الأرخص بدلاً من دفع الحدود التكنولوجية. وشهدت صناعة الروبوتات في الصين- وهي هدف مزمن آخر لسياسة بكين الصناعية- مشكلات مماثلة.
بكين تغير مسارها، وتفعل في تسلا ما فعلته مع آبل
وفي عام 2018، غيَّرت بكين مسارها؛ إدراكاً منها أنَّ الاستراتيجية لم تكن ناجحة. وألغت متطلبات المشروعات المشتركة التي أجبرت صانعي السيارات الأجنبية على تقاسم الأرباح مع الشركات المحلية، وفي عام 2019 مُنِحَت بعض سيارات Tesla الضوء الأخضر لتلقي خصومات المستهلكين. وبعد ذلك بعامين، أُنشِئ مصنع Tesla الضخم في شنغهاي وبدأ تشغيله وتصدير المركبات إلى أوروبا.
ومن الواضح أنَّ بكين تأمل من ذلك أن يتحول العديد من موردي Tesla في نهاية المطاف إلى إنشاء متاجر في الصين أيضاً، وأنَّ تتسرب بعض هذه المعرفة الهندسية والتقنية إلى الشركات المحلية.
بعبارة أخرى، تكرار ما حدث مع Apple؛ مما ساعد في النهاية في ظهور شركات التكنولوجيا الصينية مثل Xiaomi و Huawei. بيد أنَّ نجاح ذلك ليس مضموناً، لكن تشكيل تجمُّع من أفضل المواهب، والمنافسة الحقيقية من رواد السوق مثل Tesla، والتمويل الحكومي الذي لا يزال وافراً، يرفع الاحتمالات.
ويحمل هذا التاريخ دروساً للولايات المتحدة؛ في الوقت الذي تُصمِّم فيه حوافزها الخاصة لتعزيز صناعات مثل صناعة الرقائق والمركبات الكهربائية. ويمكن أن يساعد ضخ الأموال في حل مشكلة ما، لكن المهم حقاً هو تطوير مجموعات من أفضل المواهب بمشاركة نشطة من رواد السوق والتكنولوجيا.
عبارة أخرى، لا ينبغي أن تذهب المنح لمصانع أشباه الموصلات تلقائياً إلى الشركات الأمريكية فحسب لمجرد أنها أمريكية. ويجب تشجيع الشركات الكبرى مثل Taiwan Semiconductor Manufacturing، وSamsung، التي تستثمر بالفعل مبالغ معينة في الإنتاج الأمريكي الجديد، بنشاط على تقديم العطاءات أيضاً. وسيساعد وجود المزيد من كبار المهندسين والعلماء الذين ينتجون رقائق في الولايات الأمريكية الجميع، بما في ذلك الشركات الأمريكية مثل Intel، على المدى الطويل، بل سيسهم أيضاً في ترسيخ هيمنة الولايات المتحدة القوية بالفعل على معدات أشباه الموصلات.
وأخيراً، تجدر الإشارة إلى أنَّ الجوانب الأنجح للسياسة الصناعية الصينية غالباً ما كانت جوانب منخفضة المستوى، التي منحت الشركات الأدوات التي تحتاجها للنجاح والنمو بدلاً من مجرد إغراقها بالنقود، على سبيل المثال قوة عاملة صحية تجيد الرياضيات، وبنية تحتية مادية من الدرجة الأولى، وبيئة ضريبية جذابة لقادة التكنولوجيا العالميين مثل Apple لمتابعة البحث وبناء سلاسل التوريد المُوجَّهة للتصدير.
أياً كان ما تقرره واشنطن بشأن دعم صناعات معينة دعماً مباشراً، فإنَّ بناء الأساسيات بناءً صحيحاً لا يمكن أن يُضِر، بل قد يحدث فرقاً كبيراً على المدى الطويل.