بعد فضيحة برامج التجسس الإسرائيلية العسكرية، أصبح النزاع بين إسرائيل وشركة آيس كريم أمريكية أبرز نموذج لمحاولة تل أبيب جعل نفسها دولة عصيَّة على المحاسبة مهما فعلت.
النزاع الجديد نشب بين إسرائيل والعلامة التجارية: آيس كريم "بن آند جيري" Ben & Jerry، بسبب عزم الشركة الأمريكية عدم بيع منتجاتها في الأراضي الفلسطينية المحتلة، حسبما ورد في تقرير لصحيفة The Washington Post الأمريكية.
إذ أصدرت الشركة الشهيرة، التي يقع مقرها الرئيسي في ولاية فيرمونت الأمريكية، بياناً يوم الإثنين 19 يوليو/تموز، قالت فيه إنها لن تبيع منتجاتها بعد الآن في "الأراضي الفلسطينية المحتلة"، في إشارة إلى الضفة الغربية وأراضٍ أخرى يعتبرها القانون الدولي محتلة بعد عام 1967، وتضم مئات الآلاف من المستوطنين الإسرائيليين الذين استولوا على أراضٍ ومنازل كانت مملوكة للفلسطينيين.
وقالت شركة "بن آند جيري، أنها ستنهي بيع المثلجات في المستوطنات الإسرائيلية "كون ذلك يتعارض مع قيمها"، مضيفة: "نسمع أيضاً ونعترف بالمخاوف التي يشاركنا بها معجبونا وشركاؤنا الموثوق بهم"، بشأن العمل في المستوطنات.
لكن الشركة شدّدت على أنها ستبقى في إسرائيل وفق ترتيب مختلف، دون مبيعات في الضفة الغربية، ضمن مناطق يريدها الفلسطينيون لإقامة دولة.
في هذا الإطار، رحّب الفلسطينيون بإعلان شركة "بن آند جيري".
قصة النزاع بين إسرائيل وشركة آيس كريم أسسها ناشطان يهوديان
تمتع شركة "بن آند جيري"، التي أسَّسها اثنان من اليهود الأمريكيين من ذوي الميول اليسارية، بتاريخ طويل من النشاط في مجال العدالة الاجتماعية، ويشمل ذلك دعمها البارز أخيراً لاحتجاجات "حياة السود مهمة" بالولايات المتحدة، العام الماضي. وقال بيان الشركة إن استمرار مبيعاتها في منطقة متنازع عليها سيكون "غير متسق مع قيمنا".
كانت البادرة رمزية، ومع ذلك يقول البعض إنها ربما استندت إلى انتقادات يسارية طويلة الأمد للاحتلال العسكري الإسرائيلي المستمر للضفة الغربية وتوسُّع المستوطنات اليهودية في المناطق التي يُفترض أن تقام فيها الدولة الفلسطينية المستقلة في إطار حل الدولتين. ورغم أن شركة "بن آند جيري" أوضحت أنها "ستبقى في إسرائيل"، بصرف النظر عن قرارها تقييد مبيعاتها خارج الخط الأخضر، فإن ذلك لم يمنع ردود الفعل العنيفة والانتقادات اللاذعة لها من القيادة السياسية الإسرائيلية وحلفائها المقربين في الولايات المتحدة، وهي انتقادات لم تُظهر أي بوادر للتراجع رغم مرورِ أسبوع على القرار.
آيس كريم مناهض لإسرائيل وإرهابي
صرَّح رئيس الوزراء الإسرائيلي، نفتالي بينيت، بأن الشركة "قررت تصنيف نفسها على أنها الآيس كريم المناهض لإسرائيل". وقال الرئيس الإسرائيلي إسحاق هرتسوغ، إن القرار ينطوي على "نوع جديد من الإرهاب". ووصف وزير الخارجية، يائير لابيد، الخطوة بأنها "استسلام مُخزٍ لمعاداة السامية"، وربط قرار "بن آند جيري" بالتحركات الأوسع نطاقاً لحركة مقاطعة إسرائيل (BDS)، التي يقول الإسرائيليون إنها تسعى إلى عزل إسرائيل على الساحة العالمية. واقترح بعض المسؤولين الإسرائيليين والسياسيين الأمريكيين استخدام لوائح الولايات الأمريكية، التي تربط دعوات مقاطعة إسرائيل بخطاب الكراهية، لمعاقبة شركة الآيس كريم.
ومن المفارقات في هذا السياق، أن منتقدي قرار المقاطعة الذي اتخذته شركة "بن آند جيري" انتهى بهم الأمر إلى أن يكونوا هُم الداعين إلى مقاطعتها، فقد نشرت وزيرة الاقتصاد الإسرائيلية مقطع فيديو مصوراً لها وهي تلقي عبوة من الآيس كريم الأمريكي في سلة المهملات.
قال جلعاد إردان، سفير إسرائيل لدى الولايات المتحدة، إنه أثار الأمر في خطاب أرسله إلى 35 حاكماً لولايات أمريكية لديها تشريعات ضد مقاطعة إسرائيل.
كما التحق رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق، بنيامين نتنياهو، بالمعركة مع الشركة، وكتب في تغريدة على تويتر، إنه سيقاطع منتجات "بن آند جيري" في المستقبل. وفي الولايات المتحدة، حث السيناتور جيمس لانكفورد (سيناتور جمهوري عن ولاية أوكلاهوما) حكومةَ ولايته على "حظر بيع" منتجات "بن آند جيري" في أوكلاهوما على الفور.
إسرائيل تريد اعترافاً بضمّها للضفة وإنكاراً لعنصريتها
على صعيد آخر، تكشف الواقعة برمتها عن توترٍ جوهري في موقف إسرائيل من سلوكها بالأراضي الفلسطينية. فمن ناحية، يرفض المسؤولون الإسرائيليون بشدةٍ الاتهامات بأن حكومتهم تكرِّس لجريمة الفصل العنصري في الضفة الغربية والقدس الشرقية، حيث يخضع الفلسطينيون لما تعتبره إسرائيل مقتضياتها الأمنية ورغم ذلك يُحرمون الحقوق السياسية نفسها التي يتمتع بها جيرانهم. ومع ذلك، على الناحية الأخرى، عندما تتخذ شركة "بن آند جيري" قراراً تجارياً استندت فيه إلى ظروف خاصة تنطبق خارج الخط الأخضر، تعرِّفه السلطات على أنه تحرك "مناهض لإسرائيل"، حتى إنها تعتبره معادياً للسامية. وهو موقف يجادل بعض المراقبين بأنه موقف واهٍ لا وجه للدفاع عنه، كما أنه يكشف بوضوحٍ مدى مقاومة المؤسسة الإسرائيلية لأي مساءلة لها على الساحة العالمية.
تقصد الصحيفة الأمريكية أنه إذا كانت إسرائيل تعتبر الضفة الغربية جزءاً من أراضيها، فإنها في هذه الحالة تُعتبر دولة فصل عنصري، بسبب معاملاتها لسكان الضفة، وإذا لم تعتبر الضفة جزءاً من أراضيها أو على الأقل تعتبرها أراضي متنازعاً عليها، حتى تنفي كونها دولة عنصرية، فإن هذا نفسه هو موقف شركة الآيس كريم.
ولكن إسرائيل تريد أن تعتبر الضفة -أو على الأقل المناطق التي تستحوذ عليها- جزءاً من أراضيها دون أن تُوصف بأنها دولة عنصرية لمعاملتها السكان في هذه الأرض بشكل ينتقص من حقوقهم.
كتب مايكل كوبلو، من منظمة "منتدى السياسة الإسرائيلية" التي تتبنى إطار حل الدولتين، أن "شركة (بن آند جيري) فعلت للتو الشيء نفسه الذي تفعله إسرائيل، بل وظفت الحجة ذاتها التي تستخدمها إسرائيل لدرء اتهامات الفصل العنصري -بأن هناك تمييزاً بين الأراضي الإسرائيلية الرسمية داخل الخط الأخضر والأراضي الإسرائيلية المتنازع عليها خارج حدود الخط الأخضر- ومن ثم فإن معاملة المنطقة والأشخاص الذين يعيشون عليها بطريقة مختلفة أمرٌ منطقي باعتباره مسألة سياسات".
وتابع كوبلو انتقاداته قائلاً: "لا مصداقية في القول إن الخط الأخضر يجب أن يكون موجوداً عندما يكون مناسباً لمصلحتك، وتجب إزالته عندما لا يكون مناسباً، أو اتهام [السياسات التي تحتكم إليها] بأنها معادية لإسرائيل أو معادية للسامية، بل إنها تنطوي على نوع من الإرهاب، وكل ذلك للإبقاء على التمييز ذاته الذي تعمد إليه إسرائيل بكل الطرق".
على نحو لا يختلف كثيراً عن التناقض الذي ينطوي عليه الموقف من الشركة الأمريكية، جادل المدير التنفيذي في شركة NSO الإسرائيلية، شاليف هوليو، في مقابلة مع صحيفة Israel Hayom اليومية اليمينية، الأسبوع الماضي، بأن التدقيق في أنشطة شركته يأتي في سياق جهود أوسع نطاقاً لمناهضة إسرائيل بتنسيقٍ من متآمرين أجانب، سواء كانت دولة قطر أو حركة المقاطعة نفسها.
النشطاء يريدون أن توقف إسرائيل بيع برامج التجسس
في المقابل، يريد نشطاء حرية التعبير وحماية الحقوق الرقمية إيقاف عمليات بيع ونقل تكنولوجيا برامج التجسس، إلى حين وضع نظام عالمي أكثر شفافية لمراقبة هذه الصادرات. وربما ينبغي فرض رقابة خاصة على قطاع التكنولوجيا الجامح في إسرائيل.
وفي هذا السياق، كتب ديفيد كاي وماريتغي شاك، في مقال رأي بصحيفة The Washington Post: "إسرائيل مَوطنٌ لشركة NSO ومجموعة من شركات برامج التجسس الأخرى، مثل شركة (كانديرو) Candiru التي اتهمتها شركة مايكروسوفت الأمريكية، الأسبوع الماضي، ببيع برمجيات تتيح اختراق نظام ويندوز".
وأشار الكاتبان في مقالهما إلى أنه "بات واجباً على إسرائيل أن تفرض سيطرتها على قطاع برامج التجسس لديها، وأن تنضم إلى الدول الديمقراطية في التصدي لانتشار التقنيات التي تعمل على نحو أشبه بأجهزة الاستخبارات التجارية" التي لا يعنيها سوى جني الأرباح.
في الوقت نفسه، يذهب بعض منتقدي السياسات الإسرائيلية إلى أنه لا غرابة في انتشار التكنولوجيا الإسرائيلية بدول ذات حكومات سلطوية، وعلى هذا النحو كتب المحامي الإسرائيلي الحقوقي إيتاي ماك، في صحيفة Haaretz الإسرائيلية ذات الميول اليسارية، أنه إذا "كانت إسرائيل نفسها تحتجز مئات الفلسطينيين رهن الاعتقال الإداري، دون محاكمة في معظم الأوقات، فلماذا يحتجُّ البعض عند استعانة أصدقائها الجدد، مثل السعودية ورواندا، ببرامج شركة NSO، التي أُنتجت وترعرعت في إسرائيل، لاستهداف نشطاء المعارضة حتى يتعفنوا بعد ذلك في السجون؟!".
اضطهاد إسرائيل للفلسطينيين يساعدها على التفوق في التجسس
وكتبت داليا شيندلين، وهي باحثة سياسية بمركز The Century Foundation الأمريكي، في صحيفة The Guardian البريطانية، قائلةً إن "إسرائيل تتفوق على غيرها في المراقبة، لأن إسرائيل تنتهج مراقبة الفلسطينيين طوال اليوم وكل يوم. وغالباً ما يكون رواد التكنولوجيا السيبرانية من خريجي وحدات المراقبة العسكرية عالية التقنية. إن سلوك شركة NSO والموقف المناهض لقرار شركة الآيس كريم ليسا غريبين عن بعضهما كما قد يبدو، إنهما صنوان لا ينفصلان في سلوك إسرائيل.
كما أن الصورة الرمزية التي تطرح فيها إسرائيل نفسها على أنها الضحية التي لا تستسلم للواقع عليها وتستطيع برمجة طريقها للانحراف عن السياسة، هي الوهم الحقيقي".