جاءت قرارات الرئيس التونسي قيس سعيد التي وصفت بالانقلاب بعد وصول البلاد لحالة من الشلل الاقتصادي والسياسي، والصحي، فمن المتسبب في وصول الأزمة التونسية إلى هذه الحالة، قيس سعيد أم حركة النهضة أم القوى اليسارية والليبرالية في البلاد أم بقايا النظام السابق؟
وأعلن الرئيس التونسي قيس سعيد، مساء الأحد، عقب اجتماع طارئ مع قيادات عسكرية وأمنية، تجميد اختصاصات البرلمان، وإعفاء رئيس الحكومة هشام المشيشي من مهامه، على أن يتولى هو بنفسه السلطة التنفيذية بمعاونة حكومة يعين رئيسها، فيما وصف رئيس البرلمان راشد الغنوشي ما حدث بأنه انقلاب، وبعد ذلك تم منعه من دخول البرلمان.
بالإضافة للأزمة السياسية، تواجه تونس موجة وبائية غير مسبوقة عقب تفشي فيروس كورونا، تتسم بانتشار واسع للسلالات المتحورة ألفا ودلتا في معظم الولايات، مع ارتفاع في معدل الإصابات والوفيات، مع تحذيرات من انهيار وشيك للمنظومة الصحية؛ ما استدعى استقبال مساعدات طبية عاجلة من دول عديدة، خلال الأيام الماضية.
ولكن ما هي خلفيات الأزمة التونسية ومَن المتسبب بها؟
شقَّ سعيد لنفسه مساراً غير مألوف في السياسة التونسية المعاصرة، فهو أستاذ القانون الدستوري المغمور الذي ترشح مستقلاً دون دعمٍ من حملة منظمة أو تمويلٍ باهظ، ومع ذلك فاز بأكثر من 70% من الأصوات في أكتوبر/تشرين الأول 2019.
وجاء ذلك بعد أن دخل في المرحلة النهائية في منافسة مع نبيل القروي مؤسس حزب قلب تونس الذي كان يوصف بمرشح النظام، وبالتالي أيدت حركة النهضة قيس سعيد باعتباره مرشح الثورة.
بدا قيس سعيد بنهجه الذي يغازل الثورة، ورفضه للتطبيع ومواقفه المحافظة في قضايا مثل توريث النساء، أقرب للنهضة من القروي.
وجاء قيس سعيد من خارج الطبقة السياسية، وليست لديه قاعدة حزبية، ولا تجربة إدارية أو تنفيذية.
فهو بحكم التعريف رئيس شعبوي، لكن ليس شعبوية دونالد ترامب أو فيكتور أوربان؛ فهو يتمتع بسجل نظيف، وينطلق من أرضية التعهد بمحاربة الفساد، كما أنه يبذل الجهود ليبدو في صورة الرجل العادي الذي لا يتكلَّف البساطة ولا يدَّعي اختلافاً عن مواطنيه، حسب وصف موقع تقرير لموقع Middle East Eye البريطاني.
ولكن منذ حملته الرئاسية، لا يخفي الرجل محاولة إضعاف البرلمان والأحزاب ومحاولة خلق ما يسميه سلطة قوية تقوم على علاقة مباشرة بين الجماهير ولاسيما الشباب مع رئيس الجمهورية.
دفع ذلك بعض المراقبين إلى التحذير من أن سعيد قد يكون بصدد تمهيدِ الطريق لمزيدٍ من الإجراءات الرامية إلى القضاء على خصومه وتعزيز سلطاته الرئاسية، بناء على تفسيره هو الخاص لدستور البلاد الذي وُضع في أعقاب الثورة التونسية، وفقاً للموقع البريطاني.
النظام السياسي التونسي يمنح الرئيس سلطات محدودة
لفهم الأزمة التونسية، يجب ملاحظة أن النظام الرئاسي التونسي أقرب للبرلماني منه للرئاسي، وإن كان للرئيس بعض السلطات مع وجود عدد من الالتباسات التي تثير الخلاف حول التداخل بين سلطات الرئيس وسلطات رئيس الوزراء.
وأعطى الدستور صلاحيات كبيرة جداً للبرلمان ولرئيس الحكومة، الذي يعيّن من قِبل الغالبية البرلمانية، ويمكن لهذه الغالبية أن تعزل رئيس الحكومة، إلا أن الدستور نفسه قرّر انتخاب رئيس الجمهورية مباشرة من الشعب في انتخابات عامة، وأعطاه صلاحيات واسعة في الإشراف على قطاعات الأمن والدفاع والسياسة الخارجية وتعيين وزرائها وكبار مسؤوليها.
وخلق هذا حالة من الأزمات المتكررة في البلاد، كما ظهر في عهد الرئيس الراحل الباجي قايد السبسي، ولكن الأخير رغم أنه محسوب على النظام السابق، والتيار العلماني الأكثر تطرفاً في البلاد، أدار النزاعات مع الغنوشي بشكل مرن نسبياً، لم يحل الأزمات، ولكنه لم يؤدّ إلى استفحالها أو محاولة إنهاء النظام الديمقراطي.
ومع أن الدستور التونسي لا يمنح الرئيس أكثر من سلطات تحكيم وإشراف عامة، إلا أن نسبة الإجماع الواسع التي حصل عليها سعيد أعطته شرعية سياسية قوية سعى منذ وصوله للسلطة إلى استخدامها من أجل تعزيز سلطته الفعلية في ما يتجاوز صلاحياته الدستورية المحدودة.
فمنذ تولي قيس سعيد الحكم، ورغم أنه جاء بأصوات القوى الثورية والإسلاميين، فإن الأزمات ازدادت حدة في البلاد بشكل غير مسبوق.
كما ازدادت حدة الأزمة جراء تقلبات مواقف الحركات السياسية برمتها، فاليسار التونسي أصبح هدفه الأساسي تحجيم النهضة بأي ثمن، مع استمرار تشجيعه للإضرابات الفئوية في البلاد التي تضر الاقتصاد، بينما حزب قلب تونس المحسوب على بعض رجال الأعمال تقارب مع النهضة، فيما تجاهر عبير موسى رئيسة الحزب الدستوري الحر التي تمثل أقصى يمين النظام السابق بعدائها للنهضة وللبرلمان وحاولت تعطيل جلساته وسط احتفاء من الإعلام الإماراتي والسعودي.
أبرز محطات الخلاف بين قيس سعيد والنهضة
قيس سعيد شكل الحكومة الأولى
بدأ التوتر بين الرئيس والنهضة، بعدما فشلت الأخيرة، في يناير/كانون الثاني الماضي 2020، في الحصول على ثقة البرلمان حين اقترحت حكومة بزعامة، الحبيب الجملي، ممّا منح الرئيس التونسي زمام المبادرة فكلّف إلياس الفخفاخ بتشكيل الحكومة، مما منح قيس نفوذاً كبيراً على الحكومة.
بعد فشل تجربة ترشيح حركة النهضة الحبيب الجملي لرئاسة الحكومة نتيجةً لمقاطعة الأحزاب اليسارية والمعارضة العلمانية المحسوبة على النظام، عيّن رئيس الجمهورية إلياس الفخفاخ رئيساً للحكومة في إطار صفقة هشة جمعت بين حركة النهضة والأحزاب القومية واليسارية. ومع أن الحكومة استمرت شهوراً خمسة، إلا أنها كانت مشلولة بالفعل نتيجة للتناقضات الداخلية بين مكوناتها، في الوقت الذي تزايد فيه الصراع الشخصي بين رئيس الجمهورية قيس سعيّد ورئيس البرلمان راشد الغنوشي زعيم حركة النهضة.
وفي منتصف 2020، تصاعدت الأزمة بين حكومة الفخفاخ، حيث أقال الفخفاخ الوزراء الستة المنتمين لحركة النهضة، في مؤشر على القطيعة بين الطرفين.
وواجه رئيس الحكومة تهماً بتضارب المصالح، نفى صحّتها. وطالبته النهضة بالاستقالة بسبب "تلك الشبهات".
لكنّ الأمين العام للاتحاد العام للشغل، نور الدين الطبوبي، قال آنذاك إن حركة النهضة كانت على دراية تامّة منذ البداية بالملفّات التي قد تلاحق رئيس الحكومة المستقيل.
واستقال الفخفاخ في 5 يوليو/تموز 2022، بطلب من الرئيس قيس سعيّد، لقطع الطريق أمام ترشيح حركة النهضة لرئيس جديد للحكومة. وقد أقال الفخفاخ وزراء النهضة الستة من حكومته التي تحولت إلى حكومة تصريف أعمال إلى حين تعيين حكومة جديدة.
ورغم أداء حكومة إلياس الفخفاخ الجيد في فرض إغلاقات كورونا، فإن الوضع الاقتصادي تردى في عهدها وقد يكون أحد أسباب ذلك الإغلاق الصارم لكورونا، وطلبت البلاد في نهاية عهد هذه الحكومة لأوّل مرّة منذ استقلالها تأجيل سداد قروض لها.
وأشارت توقعات حكومة إلياس الفخفاخ بعد استقالتها إلى انكماش الاقتصاد التونسي بما لا يقل عن 6.5%، بينما يتهدد نحو ربع مليون تونسي خطر فقدان وظائفهم. وقبيل أزمة كورونا، كانت تونس بحاجة لثلاثة مليارات دولار لضمان الحدّ الأدنى من توازناتها المالية.
ثم اختار رئيس الوزراء الذي اعتقله
خلف هشام المشيشي "الفخفاخ" في تشكيل الحكومة بناء على ترشيح سعيد أيضاً.
اللافت أن رئيس الوزراء الحالي الذي أقاله الرئيس قيس سعيد ويقال إنه وضعه رهن الإقامة الجبرية في بيته من اختيار سعيد بل كان مستشاره القانوني السابق.
والمشيشي هو شاب تكنوقراطي (46 سنة) ينحدر من منطقة الشمال الغربي التي كانت مهمشة سابقاً في القرار السياسي، ولا يُعرف له انتماء أيديولوجي أو سياسي سابق، وتنحصر تجربته الإدارية في إدارة دواوين عدد من الوزراء، وتقلد حقيبة وزارة الداخلية في الأشهر الخمسة الماضية لتوليه رئاسة الحكومة.
وقد اختار الرئيس سعيد رئيس الحكومة المكلف على غرار اختيار سلفه من خارج الحقل السياسي، للاحتفاظ ببعض التأثير في عمل الحكومة من خلال علاقة الولاء الشخصي التي تربط رئيس الحكومة به مباشرة. وبالرغم من تحفّظ الأحزاب السياسية، وبالذات حركة النهضة وحلفاءها، على خطوة الرئيس التونسي بتكليف رئيس حكومة من غير قائمة ترشيحاتها، فإنها قبلت ذلك على مضض، لعدم رغبتها في التصادم مع رئيس الجمهورية وفي تصعيد الأزمة السياسية التي تشهدها البلاد.
وفي أغسطس/آب 2021، شكل المشيشي، حكومته من شخصيات قال إنها مستقلّة، أي حكومة كفاءات، متجاوزاً دعوات النهضة إلى تشكيل حكومة ممثل للأحزاب.
وفي سبتمبر/أيلول 2020، نالت الحكومة ثقة البرلمان بأغلبية 134 صوتاً ومعارضة 67 آخرين بعدما صوت أغلب الأعضاء لصالحها خوفاً من استغلال قيس سعيد الأزمة لحل البرلمان.
ورغم أن المشيشي من اختيار قيس سعيد سرعان ما دب الخلاف بينهما، فلقد أعلن رئيس الحكومة التونسية هشام المشيشي في الخامس من يناير/كانون الثاني 2021، إعفاء وزير الداخلية توفيق شرف الدين من مهامه وفق ما أفادت رئاسة الحكومة التونسية، معلنة كذلك عن تولي المشيشي نفسه المنصب بالنيابة إلى حين تكليف وزير جديد على رأس الوزارة، وينظر إلى وزير الداخلية المقال كأحد المقربين من الرئيس سعيد.
وقبل الإقالة بقليل، دعا قيادي في حزب "قلب تونس"، الذي حلّ في المركز الثاني في انتخابات 2019، عياض اللومي إلى تنظيم انتخابات رئاسية مبكرة رداً على دعوات متكررة من الرئيس الحالي قيس سعيد لتعديل الشرعية.
وبعد ذلك رفض سعيد التصديق على تعديل وزاري أجراه رئيس الحكومة شمل 11 حقيبة من بينها العدل والداخلية، ووصفه في يناير/كانون الثاني بغير الدستوري، لأن الدستور ينص على ضرورة التداول داخل مجلس الوزراء حول التعديل، وخلوها من النساء، وقال "إنه قد يكون عند بعض أعضاء مجلس الوزراء الجدد تضارب في المصالح".
وأحرجت نتائج التصويت خلال جلسة منح الثقة في البرلمان للوزراء الجدد الرئيس قيس سعيد سياسياً، وهو الذي كان يبحث عن تصويت ضعيف في الجلسة ليعزز موقفه برفض أداء اليمين للوزراء الذين تحوم حولهم شبهات فساد.
ولكن "التصويت بمعدل 140 صوتاً اعتبر تصويتاً ليس فقط لصالح الوزراء، ولكن أيضاً هو تصويت ضد الرئيس نفسه"، حسب ما يقول المحلل السياسي علي القاسمي لـ"عربي بوست""في تقرير سابق.
ورفض سعيد كل الوساطات لتمرير التعديل الوزاري، ورفض استقبال من وصفهم بوزراء "فاسدين" بعد أن كان ينتقدهم في البداية فقط بقوله إن هناك تعارض مصالح في توليهم المنصب.
وردَّ سعيد على إصرار المشيشي على تعديل الحكومة بزيارة شارع الحبيب بورقيبة، الثلاثاء 2 فبراير/شباط 2021، والتحامه بأنصاره الذين طالبوا بحل البرلمان.
الخلاف حول تشكيل المحكمة الدستورية العليا
يعد الخلاف حول تشكيل المحكمة الدستورية العليا واحداً من أهم أسباب تفاقم الأزمة التونسية، نظراً لأنه في ظل التداخل بين سلطات الرئيس ورئيس الحكومة والبرلمان، فإن هناك حاجة لدور هذه المحكمة لتفسير الدستور، وفي ظل غياب المحكمة، فإن قيس سعيد يفرض تفسيره للدستور مثلما حدث في الأزمة الأخيرة، حيث استند إلى الفصل الثمانين في تحركاته.
وتختص المحكمة الدستورية في تونس بإعفاء رئيس الجمهورية، وإقرار شغور منصب الرئيس، والنظر في النزاعات المتعلقة باختصاص كل من رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة.
وكان رئيس الجمهورية قيس سعيد قد لجأ إلى تأويله للدستور في غياب المحكمة الدستورية لرفض التعديل الوزاري الذي أجراه رئيس الحكومة هشام المشيشي في شهر يناير/كانون الثاني 2021.
وحاولت كتل البرلمان تمرير تعديل لقانون انتخاب المحكمة الدستورية يتضمن خفض النسبة اللازمة لتشكيلها من الثلثين (145 صوتاً) إلى ثلاثة أخماس الأعضاء (131 صوتاً).
وفي 6 أبريل/نيسان 2021، رفض سعيد التوقيع على مشروع قانون المحكمة الدستورية، وأعاده للبرلمان للمصادقة على تعديلات جديدة تحتاج إلى أغلبية أكبر قدرتها بـ131 صوتاً.
اللافت أن أحد الأسانيد التي برر بناء عليها سعيد موقفه هو تجاوز الآجال القانونية لتشكيل المحكمة ووضع قانونها، وهو أمر يعني أن سعيد كان يريد أن يسحب من البرلمان للأبد حق وضع قانون المحكمة.
وينص الفصل 148 من الدستور على تعيين المحكمة الدستورية بعد عام من الانتخابات البرلمانية لعام 2014.
ورأى بعض المراقبين في ذلك علامةً على أن سعيد شعر بالتهديد من تحركات الغنوشي -المدفوعة سياسياً، إذا نظرنا إلى توقيتها، لأن محكمةً من هذا النوع قد تكون الطريقة الوحيدة لإلزام سعيد بحدوده الدستورية وإبطال مفعول تحركاته- ومن ثم فإن سعيد قاوم هذه الخطوة ليحرم البرلمان حيازة مزيدٍ من السلطة.
وفي ذلك الوقت، أشار الباحث في القانون الدستوري رابح الخرايفي، في تصريح لـ"عربي بوست"، إلى أن "رفض سعيد لقانون المحكمة الدستورية العليا، ينبع من رغبته في الحفاظ على صلاحية حصرية تأويل وتفسير الدستور في غياب المحكمة الدستورية، وبأنه يخشى بالفعل من إمكانية عزله عن طريق المحكمة الدستورية، وهو تخوّف عبَّر عنه شقيقه نوفل سعيد في إحدى التدوينات على حسابه في موقع فيسبوك".
الخلاف حول السياسة الخارجية
الصراع بين الرئيس سعيد ورئيس البرلمان الغنوشي الذي تمحور حول الملفات الخارجية التي تدخل في الاختصاص المنفرد لرئيس الجمهورية بحسب نصوص الدستور.
ومن أبرز هذه الملفات الموقف من الأزمة الليبية والعلاقة مع تركيا، حيث زار الغنوشي تركيا في يناير الماضي والْتقى الرئيس أردوغان، كما هنأ رئيس حكومة الوفاق في طرابلس على الانتصارات العسكرية الأخيرة التي حققتها في مناطق الغرب الليبي.
وتجدر الإشارة إلى أن اللواء الليبي المتقاعد خليفة حفتر وأنصاره لم يخفوا عداؤهم لتونس وتجربتها الديمقراطية، وسبق أن توعد بعض أنصاره من السلفيين المدخليين باجتياحها.
محاولات لحل الأزمة
وأواخر فبراير/شباط الماضي، طرح الغنوشي مبادرة لحل الأزمة السياسية بتونس، تتمثل في عقد لقاء ثلاثي بين الرئاسات الثلاث يشرف عليه سعيد شخصياً.
وبعد قطيعة استمرت نحو 6 أشهر بين رئيسي الجمهورية قيس سعيّد والبرلمان راشد الغنوشي، اجتماع سعيد مع الغنوشي، يوم الخميس 24 يونيو/حزيران 2021، لقاء في قصر قرطاج، وُصف بـ"الإيجابي"، وذلك بناءً على اقتراح من القيادي السابق في حركة "النهضة" الإسلامية لطفي زيتون.
وقبل أسبوع من اللقاء، أعلن سعيّد موافقته على الإشراف على حوار وطني للخروج من الأزمة الراهنة، لكنه بالمقابل وضع شروطاً لهذا الحوار، أبرزها أن يكون محوره تعديل الدستور، عبر تغيير النظام السياسي، وتنقيح النظام الانتخابي.
اقترح سعيّد على الغنوشي خارطة طريق لتجاوز الخلاف القائم بين الرؤساء الثلاث (رئيس مجلس الشعب ورئيس الحكومة ورئيس الجمهورية)، تشمل موافقته على التعديل الوزاري شرط أن يتم استبدال الأربعة وزراء الذين تتعلق بهم شبهات فساد، وأن تضع الحكومة الحالية مجابهة أزمة كورونا ضمن أولوياتها.
اللافت أن مقترح سعيد يشمل إقالة أو استقالة حكومة هشام المشيشي خلال فترة لا تتجاوز 6 أشهر، واختيار حكومة جديدة تختار حركة النهضة الحزب الفائز في الانتخابات التشريعية رئيسها وتتحمل مسؤولية نجاحها أو فشلها، حسبما ورد في تقرير سابق لـ"عربي بوست".
ويأتي ذلك رغم أن سعيد أصر مراراً على إفشال محاولات النهضة لتشكيل حكومة حزبية، تقودها باعتبارها أكبر حزب في البرلمان وأنه هو الذي رشح رئيس الوزراء الحالي والسابق.
الاقتراب من الانهيار
أدت هذه الأزمات السياسية المتراكمة إلى شلل اقتصادي وإداري، ضاعفه كثرة الإضرابات الفئوية والعمالية، وتأثير إغلاقات كورونا، كما تحولت تونس من نموذج للتصدي لجائحة كورونا في المنطقة العربية إلى واحدة من أكبر الدول المنكوبة بالفيروس في المنطقة.
وللمرة التاسعة في 10 سنوات.. انخفاض التصنيف الائتماني لتونس، في وقت يتعطل فيه اتفاق تونس مع المانحين الدوليين وتتعثر مفاوضاتها مع صندوق النقد الدولي بسبب حزمة من التعهدات يطلبها الصندوق.
ويصعب على الحكومة التونسية الإيفاء بهذه التعهدات، ومن بينها تخفيض كتلة الأجور ورفع الدعم عن المواد الأساسية والبنزين وإعادة هيكلة المؤسسات العمومية التي تثقل كاهل المالية العامة.
وبحسب الوكالة العالمية للتصنيف الائتماني "فيتش رايتينغ" ، فإن التوتر السياسي في البلاد وتفاقم الأزمة الصحية وتواصل الاحتجاجات الاجتماعية وتردي وضعية المالية العامة تعقد كلها سبل وصول تونس إلى اتفاق آمن مع صندوق النقد الدولي والمانحين.
وقال رئيس لجنة المالية في البرلمان هيكل المكي: "نحن نسير بخطى حثيثة نحو الدرجة "س" ومن ثمة إعلان تونس دولة مفلسة".
وقال مكي إن سوء إدارة الحكومة للوضع الاقتصادي تعمق بفعل تراكمات سنوات من الفشل في إدارة الشأن الاقتصادي في ظل حكومات متعاقبة جعلت تونس تسير نحو الإفلاس.
وساهم في تأزم الوضع السياسي في البلاد، غياب الاتحاد العام التونسي للشغل، المنظمة النقابية الأكبر في تونس، عن لعب دور الوساطة وتقريب وجهات النظر بين الفرقاء السياسيين، وهي المهمة التي تميز فيها، إذ نال مع عدد من المنظمات الوطنية التونسية جائزة نوبل للسلام، لدورهم في تغليب لغة الحوار لتجاوز الأزمة السياسية في تونس سنة 2015.
لقاء السيسي
وقبل إجراءات الرئيس التونسي الأخيرة بأشهر، جرى الحديث عن انقلاب يجرى الإعداد له بشكل هادئ وشبه دستوري، وذلك تعليقاً على المواقف والتحركات التي يقوم بها الرئيس التونسي.
وجاءت هذه التساؤلات في ضوء سلسلة من التحركات المتزايدة في عدوانيتها التي عمد إليها قيس سعيد، خلال الأشهر الأخيرة، حسبما ورد في تقرير لموقع Middle East Eye البريطاني.
وتعزز قلق البعض من سيناريو حدوث انقلاب في تونس، بعد زيارة سعيد للقاهرة ولقائه بالرئيس المصري عبدالفتاح السيسي في أبريل/نيسان 2021، الأمر الذي قوبل بانتقادات حادة في الأوساط التونسية.
وفي فعالية أُقيمت يوم الأحد الماضي 18 أبريل/نيسان بمناسبة الاحتفال بالذكرى الخامسة والستين لتأسيس قوات الأمن الداخلي التونسية، قال سعيد: "رئيس الدولة هو القائد الأعلى للقوات المسلحة العسكرية وللقوات المسلحة المدنية، وليكن هذا الأمر واضحاً لكل التونسيين".
وأضاف: "لا يوجد تمييز. القانون ودساتير العالم وقوانين العقود واللوائح كلها تنص على ذلك؛ القوات المسلحة تشمل الجيش وقوات الأمن".
واقع الأمر أن الدستور التونسي لعام 2014 التفت بعناية إلى الفصل بين السلطات وما يخضع منها للسلطة التنفيذية، وتمنح بنوده الرئيسَ صلاحيات فيما يخص الشؤون الدبلوماسية والعسكرية، فيما تخضع وزارة الداخلية وقوات الأمن الداخلي، من الناحية النظرية، لسيطرة رئيس الوزراء.
وفي تصريحات أطلقها يوم الإثنين 19 أبريل/نيسان، اتهم زعيم حزب "أمل" التونسي أحمد نجيب الشابي، رئيسَ البلاد سعيد بالسعي إلى تنفيذ "انقلاب ناعم"، فيما كتب موقع L'Economiste Maghrebin أن خطاب سعيد عن قيادته للشرطة كان علامة على "نزعة سعيد المتعذِّر ضبطها إلى الهيمنة على السلطة".
ويبدو أن هذا التوقع قد تحقق بالفعل.
اللافت أن سعيد استند إلى شلل مؤسسات الدولة والحكومة في مواجهة أزمات البلاد الاقتصادية، علماً أنه بأن رئيسي الحكومة هما من اختياره، وهو الذي يعطل تشكيل المحكمة الدستورية العليا.