المواجهة بين أمريكا والصين أصبحت هي الشغل الشاغل لإدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن، حتى أصبح من الممكن وصفها بعقيدة بايدن، رغم أنه كان ينتقد توجهات ترامب في هذا الصدد، ولكن المشكلة أن هذه العقيدة قد تأتي بنتائج عكسية لما يريده الأمريكيون.
بعد ستة أشهر من رئاسة الرئيس الأمريكي جو بايدن، بدأ السباق بالفعل لتحديد عقيدة بايدن، ذلك المبدأ التنظيمي الذي يمكن أن يفسِّر السياسة الخارجية الشاملة للرئيس.
في الأسابيع القليلة الماضية، ركَّزَ العديد من النقَّاد على المنافسة العالمية بين الديمقراطيات والأنظمة الاستبدادية- وبشكلٍ أكثر تحديداً المواجهة بين أمريكا والصين بشكل مكثف، حسبما ورد في تقرير لمجلة Foreign Policy الأمريكية.
وكما أشار بعض المُحلِّلين عن حق، فإن هذا الصراع وحده هو الذي يمكن أن يفسِّر ويربط بين تحرُّكات إدارة بايدن وتصريحاتها المختلفة في السياسة الخارجية، وهي تؤكد على خدمة الطبقة الوسطى الأمريكية، والتعاون بين الديمقراطيات، والدفاع عن حقوق الإنسان، وتعزيز القدرة التنافسية للولايات المتحدة، من خلال الاستثمار في البنية التحتية والبحث والتطوير، والحمائية التجارية والسياسة الصناعية.
لماذا فاجأ تركيز بايدن على المواجهة بين أمريكا والصين المحللين؟
لم يكن اختيار بايدن لهدفه أمراً مفاجئاً؛ فالصين هي أقرب ما يكون إلى منافسٍ للولايات المتحدة منذ ثلاثين عاماً. يقودها نظامٌ عدواني واستبدادي بصورةٍ متزايدة، حسب وصف المجلة الأمريكية.
كما تؤثِّر خطواتها، في التصنيع أو التكنولوجيا أو التجارة أو الأمن السيبراني، بشكلٍ مباشرٍ على ملايين الأمريكيين كلَّ يوم، بطريقةٍ لا يمكن قولها عن روسيا أو أيِّ دولةٍ أخرى؛ لذلك فإن قرار بايدن بمواجهة بكين، بل جعل تلك المواجهة مركزية في سياسته الخارجية، أمرٌ منطقي من الناحية السياسية.
ومع ذلك، فإن الأقل وضوحاً هو ما إذا كان الأمر منطقياً على المستوى الاستراتيجي- لا سيما بالنظر إلى الطريقة الاستفزازية التي يتصرَّف بها بايدن، حسب تعبير المجلة، وأن العلاقات بين الولايات المتحدة والصين في أسوأ حالاتها بالفعل منذ عقود، ومن المرجَّح أن يؤدِّي نهج المواجهة الصارخ الذي تتبعه الإدارة إلى جعل الأمور أسوأ، بينما تتضرَّر مصالح الولايات المتحدة الأخرى في هذه العملية. ولقد تبيَّن أن عقيدة بايدن الوليدة أخطر بكثير من تقدير معظم المُحلِّلين على ما يبدو.
إن أحد أكثر الأمور إثارةً للاهتمام بشأن مواقف بايدن المتشدِّد تجاه الصين هو قلة عدد الخبراء الذين توقَّعوا هذا الموقف. تماماً كما توقَّع معظم المُحلِّلين أن تكون سياساته المحلية متواضعة- لتوجيه البلاد برفقٍ إلى الوضع الطبيعي القائم على الحقائق والعقلية المدنية- فقد توقَّعوا أيضاً أن يكون موقفه تجاه الصين معتدلاً وواقعياً بالمثل.
والسبب في تفاجؤ المحللين أن بايدن لم يكن مُطلَقاً متشدِّداً أيديولوجياً في سياساته الخارجية أو من الصقور.
وحين كان مُرشَّحاً في السباق الرئاسي، شدَّد على الحاجة إلى التعاون بين الدولتين، بينما كان يسخر من فكرة أنه لما لم تتصرَّف الولايات المتحدة على نحو السرعة، فإن الصين سوف "تأكل من غذائنا".
لذلك كان الأمر بمثابة صدمة عندما شنَّت إدارته، فور توليه منصبه، مواجهةً عدوانيةً كاملة ضد بكين. ولا يزال ما غيَّر رأي بايدن على وجه التحديد- أي السبب وراء التحوُّل من تفضيل التعاون إلى المواجهة- مجهولاً. وأياً كانت الإجابة، ينظر الرئيس بايدن بوضوح إلى الصين بشكلٍ مختلفٍ عن نظرته لها وقتما كان مُرشَّحاً أو نائباً للرئيس أو سناتوراً.
إدارة بايدن تتبنى منظور ترامب الذي طالما انتقدته
وتقليدياً، ينتقد الديمقراطيون وغيرهم من معارضي ترامب سياسته تجاه الصين وروسيا، فيرونه بالَغَ في عدائه للصين، عبر إشعاله الحرب التجارية معها، بينما يرون أنه كان ليناً أكثر مما ينبغي مع روسيا، بل يتهمونه بالإعجاب بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وتصل الاتهامات أحياناً إلى حد الحديث عن التعاون مع بوتين؛ لدرجة مطالبة هيلاري كلينتون برصد تسجيلات اتصالات ترامب مع الرئيس الروسي.
ولكن المفاجأة أن أنتوني بلينكن، وزير خارجية بايدن عندما كان مرشحاً للمنصب، فاجأ الجميع بإعلانه أن ترامب كان على حق فيما يتعلق بموقفه من الصين، في مؤشر أن الموقف من بكين سوف يحتل مساحة كبيرة من تفكير الإدارة الديمقراطية.
وقال بلينكن إنه ليس هناك أي شك في أن الصين تشكل أكبر تحدٍّ أمام الولايات المتحدة أكثر من أي دولة أخرى.
جاء ذلك خلال جلسة الاستماع، لتأكيد تعيينه أمام لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ.
كما أعرب عن تأييده لموقف دونالد ترامب "الحازم" من الصين، حتى لو لم يتفق مع أساليب إدارته.
وكدليلٍ على ذلك، يكفي التفكير في تغيير لغة بايدن منذ أن تولَّى منصبه. في مارس/آذار الماضي، كان الرجل الذي أخذ من قبل يقلِّل من جسامة التهديد الذي تشكِّله الصين قبل عامين فقط قد تعهَّد بأن الصين لن تصبح أبداً "الدولة الرائدة في العالم، وأغنى دولة في العالم، وأقوى دولة في العالم". وتردَّد صدى هذه اللغة العدوانية من قِبَلِ الأعضاء الرئيسيين في إدارته. في مايو/أيَّار، على سبيل المثال، أعلن كورت كامبل، المسؤول الأعلى في الشأن الصيني في مجلس الأمن القومي، أن "فترة المشاركة مع بكين قد ولَّت".
خطواته ضد الصين تتسارع
ولقد دعمت الإدارة حديثها الصارم بشأن المواجهة بين أمريكا والصين بالأفعال.
ففي مارس/آذار 2021، سافَرَ وزير الخارجية الأمريكية أنتوني بلينكن، ومستشار الأمن القومي جيك سوليفان، إلى ألاسكا لحضور أول اجتماعٍ رفيع المستوى للإدارة مع الصين. وحين افتتح الاجتماع أعماله، بدلاً من تبادل البيانات الفارغة أو التفاصيل الدبلوماسية، وبَّخَ الاثنان نظيريهما الصينيَّين علناً، مُتَّهِمين بكين بـ"تهديد النظام القائم على القواعد الذي يحافظ على الاستقرار العالمي". وفي الشهر نفسه، في تقريرها السنوي عن حقوق الإنسان، اتَّهَمَت وزارة الخارجية الصين لأول مرة بارتكاب إبادة جماعية في إقليم شينجيانغ.
وطوال النصف الأول من العام، استغلَّت إدارة بايدن أيضاً كلَّ فرصة- قمة مجموعة الدول السبع واجتماعات الحوار الأمني الرباعي- للضغط على حلفائها من أجل الالتفاف حولها في الصراع مع الصين. وأدَّت هذه الجهود، من بين أمورٍ أخرى، إلى إعلان برنامج استثمار البنية التحتية في العالم النامي، وهو برنامجٌ يهدف إلى منافسة مبادرة الحزام والطريق الصينية، وخطةٌ لمواجهة دبلوماسية اللقاحات الصينية من خلال توزيع ما يقرب من ملياريّ جرعة من لقاحات كوفيد-19 من ناحية، وإدانة حلف شمال الأطلسي للجرائم الإلكترونية الصينية من ناحيةٍ أخرى.
كانت تحرُّكات بايدن المناهضة للصين في المجال الاقتصادي أكثر عدوانية. منذ توليه منصبه، حافظت إدارته على العقوبات التجارية التي فرضها الرئيس السابق دونالد ترامب على بكين. ولقد عملت الإدارة مع مجلس الشيوخ لتمرير مشروع قانون ضخم للسياسة الصناعية بقيمة ربع تريليون دولار، بهدف تعزيز القدرة التنافسية للولايات المتحدة. وقد أطلقت الإدارة حملة "اشترِ المنتجات الأمريكية"، التي استبعدت الشركات الأجنبية من سوق المشتريات الحكومية الأمريكية المربح للغاية.
وعملت الإدارة على منع عمليات الاستحواذ والاستثمارات الصينية داخل الولايات المتحدة، وإبقاء الباحثين والطلاب الصينيين خارج البلاد. وفي 17 يونيو/حزيران، وقَّع بايدن أمراً تنفيذياً يمنع الأمريكيين من الاستثمار في الشركات الصينية المرتبطة بالجيش أو بتكنولوجيا المراقبة.
تشترك هذه التحرُّكات الدبلوماسية والاقتصادية جميعها في الهدف نفسه، ألا وهو مواجهة النفوذ الدولي المتنامي للصين، وتعزيز مكانة الولايات المتحدة، ومنع بكين من الاستفادة من السياسة التجارية الأمريكية، كما يُزعَم في الماضي. ويراهن البيت الأبيض على أن رده سيساعده ويحصِّنه سياسياً من هجمات الجمهوريين، ويحظى باستحسان الناخبين الأمريكيين. قد يؤتي هذا ثماره بالفعل، مثلما أشار أحد المُحلِّلين إلى أن "60% من الأمريكيين لديهم الآن وجهة نظر غير مواتية تجاه الصين، وهو رقمٌ قياسي منذ أن بدأ مركز بيو للأبحاث طرح السؤال في العام 2005".
ولكن هل تحقق عقيدة بايدن أهدافها؟
وحتى لو سجَّل ذلك نقاطاً لبايدن في استطلاعات الرأي، يبدو أن نهج المواجهة بين أمريكا والصين من غير المُرجَّح أن يحقِّق أهدافه الأخرى. وفي الواقع، بغض النظر عن السياسات قصيرة المدى، قد تفشل حملة بايدن المناهضة للصين بسهولة أو تأتي بنتائج عكسية، حسب التقرير.
تبدأ المشكلات بحقيقة أن العديد من المبادرات ستتطلَّب دعماً من الحلفاء في الداخل والخارج- وهو دعمٌ سيكون من الصعب حشده. يعارض التقدميون داخل الحزب الديمقراطي بالفعل العديد من تكتيكات بايدن للمواجهة.
في يونيو/حزيران 2021، على سبيل المثال، نشر السناتور بيرني ساندرز مقالاً يحذِّر فيه من مخاطر الحرب الباردة الجديدة. وبعد بضعة أسابيع، حثَّت أكثر من 40 منظمة تقدُّمية الرئيس على التخلي عن "موقفه العدائي" تجاه الصين. وفي غضون ذلك، فإن الحكومات الأوروبية غير متحمِّسة أيضاً لمحاولات واشنطن التلاعب ببكين. أعرب كلٌّ من الرئيس الفرنسي ماكرون والمستشارة الألمانية ميركل، على سبيل المثال لا الحصر، دعمهما لصفقةٍ استثمارية جديدة بين الاتحاد الأوروبي والصين تعارضها الولايات المتحدة.
وحتى لو تمكَّنت الإدارة من إبقاء حلفائها حولها، فإن العديد من التحرُّكات الأخيرة للإدارة في غضون ذلك تخاطر بجعل العالم في وضعٍ أخطر- وليس أقل خطورة- على الولايات المتحدة.
هكذا سوف تفقد واشنطن قدرتها في الضغط على الصين
تفترض إدارة بايدن أن عزل الصين عن الأسواق الأمريكية سيُضعِف البلاد ويحدُّ من سلوكها السيئ. لكن من المُرجَّح أن يؤدِّي قطع العلاقات الاقتصادية للولايات المتحدة مع الصين إلى تقليص النفوذ الأمريكي على بكين.
وكما يجادل آدم بوسين، رئيس معهد بيترسون للاقتصاد الدولي، فإن هذه الديناميكية أسهل في رؤيتها في المجال المالي، إذ قال: "في الوقت الحالي، كلُّ شيءٍ تقريباً في العالم يمرُّ عبر الأنظمة المالية الأمريكية".
وأضاف: "هذا يمنح الولايات المتحدة قوةً هائلة لفرض عقوبات. إذا طُرِدَ الصينيون من أنظمة الولايات المتحدة- وهذا ينطبق أيضاً على تكنولوجيا المعلومات والتجارة في سلع معينة- فإنك تضمن بذلك أنه عندما تكون هناك أزمة، لا يمكنك تضييق الخناق عليهم"، وفي الوقت نفسه، "ما دامت هناك مصالح اقتصادية للصين في الولايات المتحدة، فإن لديهم حافزاً قوياً لعدم إغضاب الأمريكيين، ولكن تقليص هذا الحافز يقلِّل من سيطرة واشنطن على سلوكهم".
تُعَدُّ الأخطار أكبر على الجانب الاستراتيجي، ففي حين تعهَّد بايدن بمواصلة التعاون مع الصين حيثما كان ذلك مفيداً، فإن موقف الإدارة العدائي أدَّى إلى عزل بكين- وبالتالي خفض رغبتها المحدودة من الأصل في التعاون في القضايا العالمية الرئيسية، مثل تغيُّر المناخ، والسيطرة على الأسلحة، ومنع الأوبئة في المستقبل.
وربما يكون الأخطر جراء التمادي في سياسة المواجهة بين أمريكا والصين هو حدوث صدام عرضي قد يخرج عن السيطرة- على تايوان مثلاً، حيث أدَّى النشاط البحري والجوي المتزايد من كلا الجانبين إلى تأجيج التوتُّرات، أو في أيِّ مكانٍ آخر تقترب فيه القوات الصينية والأمريكية من بعضهما.