وسط صحراء سوريا، تحوّل حقل نفط إلى غرفة تعذيب مؤقتة. يقبع فيها رجل موحل بالتراب، يتلوى من الألم، ومن حوله أربعة رجال بأزياء عسكرية يثبّتونه في مكانه ويحطمون يديه وقدميه بمطرقة ثقيلة. وعندما يصرخ طلباً للمساعدة، يسبّونه بالروسية، ويقابلون صرخاته المتألمة بالضحك والسخرية. وفي خلفية مقطع الفيديو، الذي نُشر على الإنترنت، تتردد أصداء الأغنية العسكرية الروسية القومية "I am Russian special forces" (أنا من القوات الروسية الخاصة).
يقول موقع شبكة CNN الأمريكية، إن الضحية في هذا الفيديو المروّع هو محمد، 31 عاماً، عامل بناء سوري وأب لأربعة أطفال. اختفى محمد في طريق عودته إلى منزله من عمله في لبنان شهر مارس/آذار 2017. وقبل مقتله، نطق محمد الشهادتين، ونكّل الرجال الذين قتلوا محمد وقطعوا رأسه بجثته، وكتبوا على صدره عبارات بالكتابة الكِريلية، تُترجم إلى "من أجل القوات الروسية المحمولة جواً والاستطلاع".
محمد قُتل على يد مرتزقة فاغنر الروسية
تعرفت صحيفة التحقيقات الروسية المستقلة Novaya Gazeta على واحد من هؤلاء الرجال على الأقل باعتباره من مرتزقة فاغنر، المنظمة العسكرية الروسية الخاصة التي تربطها صلات برجل الأعمال الروسي يفغيني بريغوجين، المعروف بـ"طباخ بوتين" بسبب صلاته القوية بالرئيس الروسي.
أنكر الكرملين أي صلات بينه وبين مجموعة فاغنر وأصر على عدم شرعية الشركات العسكرية الخاصة في روسيا. كما نفى بريغوجين سابقاً أي علاقة تجمعه بمجموعة فاغنر. ولم يتحدث بريغوجين أو أي شخص من شركته إلى شبكة CNN خلال السنوات الأخيرة برغم المحاولات العديدة للحصول على تعليق، بما في ذلك التقرير.
تنشط القوات الروسية في سوريا منذ 2015، وهناك أدلة أخرى تشير إلى وجود مرتزقة فاغنر في البلاد التي تنتشر فيها روسيا عسكرياً. يقول المحللون إن وجود مجموعة فاغنر لا يمكن أن يكون بدون موافقة بوتين. وما يؤكد ذلك هو أن معكسرهم التدريبي في جنوب روسيا مرتبط بقاعدة القوات الخاصة الروسية.
أول دعوى قضائية ضد مرتزقة فاغنر
بعد أربع سنوات من مقتل محمد، رفعت ثلاث منظمات حقوقية غير ربحية من سوريا وفرنسا وروسيا دعوى قضائية بارزة ضد مجموعة فاغنر بسبب دورهم في التعذيب والقتل؛ إلى جانب اتهام الرجال الظاهرين في مقطع الفيديو بارتكاب جرائم حرب محتملة.
رُفعت الدعوى القضائية في شهر مارس/آذار نيابة عن شقيق محمد، عبدالله. وهي المرة الأولى التي يحاول فيها أي شخص مساءلة ومحاسبة أعضاء مجموعة فاغنر على ما وصفته المنظمات الحقوقية بالقائمة المتزايدة من الفظائع التي يرتكبها المرتزقة، الذين يتسع نطاق انتشارهم بشكل يسمح لموسكو بتنفيذ أعمال عسكرية خارج الإطار الرسمي في أماكن مثل سوريا وأوكرانيا وليبيا وجمهورية إفريقيا الوسطى والسودان وموزمبيق.
لم يتحدث عبدالله، اللاجئ الذي فر من سوريا عام 2017، عن مقتل شقيقه من قبل. لكنه قرر أن يكسر الصمت ويجري مقابلة حصرية مع شبكة CNN من أجل جذب الانتباه الدولي إلى المأساة التي عاشتها عائلته.
ومن أجل حماية أفراد عائلته الذين لا يزالون يعيشون في المناطق السورية التي تخضع لسيطرة النظام، طلب عبدالله من شبكة CNN عدم الكشف عن هويته الكاملة أو تحديد موقع المقابلة. قال عبدالله: "أريد أن يسمع العالم عن مأساة شقيقي، وأن يتحمل مرتكبو تلك الجرائم عواقب أفعالهم".
المكالمات الهاتفية الأخيرة بين محمد والعائلة قبل تعذيبه وقتله
في إحدى المكالمات الهاتفية الأخيرة من محمد، في أبريل/نيسان 2017، أخبر شقيقه عبدالله أن قوات النظام ألقت القبض عليه أثناء عبوره الحدود عائداً إلى سوريا، بعد أن عمل في لبنان لمدة ثمانية أشهر تقريباً. وقال إنه اقتيد إلى دمشق وأُجبر على الانضمام للجيش، لكنه خطط للهروب. بعد عشرة أيام، اتصل محمد ليقول إنه سيُرسل إلى حمص في اليوم التالي وإنه سيهرب ليلاً.
وكان هذا آخر اتصال من محمد إلى عائلته. ويتذكر عبدالله ما قاله محمد في المكالمة: "وصّل سلامي لأبي وأمي، واطلب منهما مسامحتي، سوف أغادر، ولا أعرف إن كنت سأتمكن من العودة".
وقال عبدالله إن شقيقه طلب منه "الاعتناء بأسرته"، وقال له: "أنا أئتمنك على أسرتي". لم يقابل محمد ابنته الصغرى قط.
ومع ارتفاع حدة الحرب في سوريا، وضعف اتصالات الإنترنت والهواتف في قريتهم النائية، كان من العصب على عائلة محمد معرفة ما حدث له.
وبعد شهور، ظهر مقطع فيديو تعذيب محمد واكتشف أحباؤه حقيقة التعذيب الوحشي الذي تعرّض له.
قال عبدالله بنبرة يعتليها الألم: "في أحد الأيام، أرسل لي أحد الشباب من قريتنا مقطع فيديو قائلاً إن أخي قد يكون في الفيديو. تعرّفت على أخي بالتأكيد، من ملابسه وصوته ومظهره. لقد تعرّض لتعذيب بشع على يد جنود غير سوريين، لم نفهم ما كانوا يقولونه".
نقل عبدالله لأفراد عائلته ما رآه في المقطع، لكنه لم يسمح لهم بمشاهدته، خوفاً من تأثيره على والديه المسنين.
قال عبدالله: "عندما شاهدت المقطع للمرة الأولى، ظل لديّ الأمل بأن محمد على قيد الحياة. لقد تعرض للتعذيب، لكنه لا يزال على قيد الحياة. كنا نأمل أن يكون في أحد المستشفيات".
سافر الأب إلى دمشق، باحثاً عن ابنه في مستشفيات وسجون العاصمة السورية. قال عبدالله: "لكن بعد شهرين آخرين، ظهر مقطع الفيديو الآخر، الذي أكّد لنا وفاة شقيقنا".
وأضاف: "عندما شاهدت مقطع الفيديو الآخر (قطع رأس محمد)، بقيت في غرفتي ولم أغادرها لثلاثة أيام. لم يكن محمد شقيقي الأكبر فحسب، لقد كان أفضل أصدقائي، لقد كنا متلازمين دائماً". وقال عبدالله إن شقيقه الآخر تعرّض لانتكاسات نفسية شديدة بسبب مقطعي الفيديو.
كيف يمكن لعائلة محمد محاسبة قتلة أخيه من مرتزقة فاغنر؟
استخدمت موسكو قوات مجموعة فاغنر لتكون بمثابة رأس الحربة لوجودهم العسكري في سوريا، إلا أن طبيعتهم غير الرسمية منحت روسيا إمكانية إنكار صلتها بالمجموعة العسكرية.
اكتفت وزارة الخارجية الروسية بقولها إن هؤلاء العسكريين يعملون بشكل مستقل وإنهم ذهبوا إلى سوريا من تلقاء أنفسهم.
هناك أدلة متزايدة تشير إلى أن قضية محمد مجرد غيض من فيض، وأن ما خفي كان أعظم.
المحكمة الجنائية الدولية ليس لها اختصاص قضائي في سوريا؛ لأنها من الدول غير الموقعة على نظام روما الأساسي؛ مما يترك خيارات محدودة أمام عدد لا يحصى من ضحايا النزاع من أجل مساءلة المجرمين وتحقيق العدالة.
في سعيهم لتحقيق العدالة، يتزايد توجه السوريين إلى المحاكم الأوروبية، لا سيما في ألمانيا وفرنسا، بموجب مفهوم "الاختصاص القضائي العالمي".
هذا المفهوم يمنح المحاكم الوطنية اختصاصاً قضائياً للنظر في الجرائم الجسيمة ضد القانون الدولي، حتى عندما لا تُرتكب على أراضي البلاد.
طلب العدالة ضد عدو غامض ومجهول
حتى الآن، لا يوجد أي تحرك بشأن الدعوى التي رفعها عبدالله في موسكو. لم يسمع عبدالله بمجموعة فاغنر من قبل. لكنه يريد أن يشهد محاسبة قتلة أخيه.
قال عبدالله: "إن لم يكن هناك من منحهم الضوء الأخضر لفعل ذلك ما فعلوه. لن نكون مثلهم ونطالب بأن يحدث لهم ما حدث لأخي، لكنهم يستحقون السجن على الأقل".
يقول عبدالله إن مقتل أخيه تركه يواجه الكثير من التحديات، من الاعتناء بزوجة وأطفال محمد، إلى التعامل مع الصدمات النفسية لمشاهدة مقاطع الفيديو المروعة.
كما قادته وفاة أخيه إلى مسعى طويل وخطير في طلب العدالة ضد عدو غامض ومجهول. لكنه يؤمن أن العدالة تستحق المخاطرة.
قال عبدالله لشبكة CNN: "لست قلقاً على نفسي، وكل ما أريده هو أن يتحمل قتلة أخي عواقب أفعالهم، حتى إذا كلفني ذلك حياتي".