جلس طفل صغير على قمة تل في الضفة الغربية المحتلة يضيء في تحدٍّ شعاع ليزر أخضر اللون على عدد من مباني بؤرة "جفعات أفيتار" الاستيطانية غير القانونية الواقعة على بُعد بضع مئات الأمتار من بلدة بيتا، جنوب نابلس، كان هذا واحداً من أساليب المقاومة الفلسطينية الجديدة في الضفة الغربية.
هجر المستوطنون اليهود هذه الوحدات السكنية المجهزة مسبقاً التي كانت موجودة في هذه البؤرة الاستيطانية، في وقتٍ سابق بعد اتفاق توصلوا إليه مع الحكومة الإسرائيلية. لكن قبل مغادرتهم، نصبوا نجمة داوود معدنية ضخمة وعلماً إسرائيلياً كبيراً، كأنَّهم يقولون: "سنعود قريباً"، حسبما ورد في تقرير لشبكة CNN الأمريكية.
كانت المقاومة الفلسطينية في الضفة الغربية ضد إنشاء البؤرة الاستيطانية "جفعات أفيتار" مستمرة منذ شهرين، وقد نجحت أساليب المقاومة الفلسطينية الجديدة في إجبار المستوطنين على الرحيل على ما يبدو.
أساليب المقاومة الفلسطينية الجديدة في الضفة مستوحاة من غزة
اتّبع سكان بلدة بيتا المحليون أسلوب المقاومة الفلسطينية المعروف باسم "الإرباك الليلي" المأخوذ من شباب قطاع غزة، حيث تعمّدوا تنظيم فعاليات احتجاجية شعبية في أوقات المساء والليل لإزعاج المستوطنين ودفعهم إلى المغادرة. من جانبه، يصف الجيش الإسرائيلي هذه الأنشطة بأنَّها أعمال شغب عنيفة.
تمثّل هذه المواجهات أحدث نسخة للصراع بين الجيش الإسرائيلي والمتظاهرين الفلسطينيين وتتزامن مع مواجهات في القدس وقطاع غزة، بالإضافة إلى جدل متجدد بين الفلسطينيين حول مَن يقود مقاومتهم، حسب تقرير CNN .
يقول أحمد: "كنا نأتي إلى هنا يومياً على مدار الشهرين الماضيين لإزعاج المستوطنين لكي يغادروا ونستعيد أرضنا".
يدق أحمد بكل قوته على قضيب حديدي، بينما يقرع أصدقاؤه الطبول ممسكين الحجارة في أيديهم.
كانت سيارات الإسعاف متمركزة في هذا الموقع في وقتٍ سابق قبل حلول الظلام، حيث خاض مئات الشباب الفلسطينيين المسلحين بالحجارة والنِبال وزجاجات المولوتوف معركة مع الجيش الإسرائيلي وسط أشجار الزيتون والمباني نصف المكتملة.
يقول أحد هؤلاء الشباب، الذي يبلغ من العمر 25 عاماً، وهو يلف وشاحه بإحكام حول وجهه لإخفاء هويته: "يجب إخبارهم بهذه الحجارة أنَّ هذه أرضنا وليست أرضهم"، وأضاف: "سنضحي، بكل بساطة، بأرواحنا من أجل تحرير هذه الأرض".
وإسرائيل ترد باستخدام الذخيرة الحية
استخدم الجنود الإسرائيليون الذخيرة الحية في المواجهات مع شباب بلدة بيتا، الأمر الذي أسفر عن مقتل 4 أشخاص وإصابة عشرات آخرين بجروح خطيرة منذ بداية شهر مايو/أيار، وفقاً للهلال الأحمر الفلسطيني.
أظهر أحد سكان بلدة بيتا لشبكة "CNN" الأمريكية مقطع فيديو صنعه هو وأصدقاؤه لإحياء ذكرى ابن عمه البالغ من العمر 16 عاماً، الذي قُتل بالرصاص قبل شهرين برصاص الجنود الإسرائيليين. تعالت الهتافات في مقطع الفيديو تردد: "يا شهيد بيتا ارتاح، وإحنا نواصل الكفاح".
في السياق ذاته، يقول مواطن فلسطيني آخر من سكان البلدة، يُدعى طارق حمايل، إنَّ شقيقه، زكريا، البالغ من العمر 25 عاماً كان يحرق إطارات السيارات أسفل التل عندما أطلق جنود الاحتلال الرصاص الحي عليه.
في المقابل، يدافع الجيش الإسرائيلي عن استخدامه للذخيرة الحية، مؤكداً أنَّه لا يستخدمها إلا كملاذ أخير، حسبما نقل عنه تقرير شبكة CNN الأمريكية.
وقال مسؤول عسكري إسرائيلي لشبكة "CNN" إنَّ الجنود لا يتبعون سياسة إطلاق النار بهدف القتل، لكنه كان واضحاً بشأن حقيقة استهداف مَن يُطلق عليهم "المحرضين الرئيسيين"، أولئك الأشخاص الذين يقول إنَّهم يُحرّضون على الاحتجاجات أو يقودونها.
أوضح المسؤول العسكري الإسرائيلي أنَّه إذا فشلت القوة غير المميتة -مثل الغاز المسيل للدموع أو الرصاص المطاطي- في خفض لهيب الاحتجاجات، فيمكن استخدام الذخيرة الحية ضد أرجل "المحرض الرئيسي" من أجل تقليل حدة العنف في حال خرج الوضع عن السيطرة.
ناشط إسرائيلي: جيش الاحتلال يرى كل مظاهرة تهديداً
ويشير المحامي الإسرائيلي، مايكل سفارد، الذي مَثَّل جماعات حقوقية تطعن في قانونية استخدام القوة المميتة ضد المتظاهرين الفلسطينيين، إلى أنَّ القانون الدولي لا يسمح باستخدام أفراد الشرطة أو الجيش القوة المميتة ضد المدنيين إلا في حال كان استخدام مثل هذه القوة ضرورياً إلى أقصى حد لحماية أنفسهم أو غيرهم من خطر الموت الوشيك.
لكن أفنير جفارياهو، المدير التنفيذي لمنظمة "كسر الصمت" الإسرائيلية التي تجمع شهادات من الجنود الإسرائيليين حول فترة خدمتهم في الجيش، يذهب إلى أبعد من ذلك، قائلاً: "يرى الجيش الإسرائيلي أي احتجاج فلسطيني باعتباره غير قانوني، بغض النظر عما يحدث فيه".
من جانبه، أصر المسؤول العسكري الإسرائيلي على أنَّ قواعد الاشتباك التي يتبعها الجنود مسموح بها بموجب القانون الدولي.
الفارق بين المستوطنات والبؤر الاستيطانية
تقع بؤرة "جفعات أفيتار" الاستيطانية على قمة تل يُعرف محلياً باسم جبل صبيح. يُنظر إلى هذا الموقع باعتباره استراتيجياً، فهو نقطة عالية على طول ممر يربط تل أبيب بوادي الأردن وهذا شيء مهم بالنسبة للحركة الاستيطانية، التي يتمثل هدفها النهائي في ضم أكبر مساحة ممكنة من الضفة الغربية. ويساعد عزل المجتمعات الفلسطينية عن بعضها البعض في تحقيق هذا الهدف.
تقدم الأيديولوجية والذاكرة الحية للحوادث العنيفة دافعاً آخر لإنشاء مستوطنة في هذا المكان. فكما هو الحال مع العديد من المستوطنات الأخرى بالضفة الغربية، يُخلّد اسم هذه البؤرة الاستيطانية ذكرى وفاة المستوطن الإسرائيلي، أفيتار بوروفسكي، الذي قُتل في عملية طعن عند تقاطع مروري قريب قبل 8 سنوات.
كان هناك عدد من المحاولات السابقة لتأسيس مجتمع دائم في هذا المكان وجاء الدافع للمحاولة مُجدَّداً في مايو/أيار عقب مقتل مستوطن آخر في هجوم بإطلاق النار عند نفس التقاطع. شُيّدت المباني سريعاً وانتقل عشرات المستوطنين إليها في غضون أسابيع، وذلك في خضم التوترات المتصاعدة في القدس والحرب التي دامت 11 يوماً بين حركة حماس وإسرائيل.
تحدث ديفيد هيفري، نائب رئيس المجلس الإقليمي "شمرون" المسؤول عن إدارة المستوطنات في الجزء الشمالي من الضفة الغربية، عن بؤرة "أفيتار" الاستيطانية بتحدّ، قائلاً: "إذا كان هؤلاء الأشخاص يعتقدون أنَّهم سيقضون على الحياة اليهودية، فلدينا مفاجأة لهم. لن نموت ونعتزم مواصلة العيش".
ووفقاً لمنظمة "السلام الآن" الإسرائيلية المناهضة للاستيطان، تعد "أفيتار" واحدة من أكثر من 270 مستوطنة في الضفة الغربية، لا تشمل القدس الشرقية. وتعتبر جميع هذه المستوطنات غير قانونية بموجب القانون الدولي.
تُفرّق إسرائيل بين تلك المستوطنات التي تحظى بموافقة الحكومة وتلك التي لا تحظى بموافقتها والمعروفة باسم "بؤر استيطانية"، مثل "أفيتار".
الجيش الإسرائيلي يعترف بأنه يحمي المستوطنين حتى لو ارتكبوا جرائم
لكن على الرغم من أنَّ إنشاء هذه البؤرة الاستيطانية على جبل صبيح هو غير قانوني بموجب القانون الإسرائيلي، لا يزال المستوطنون هناك يتمتعون بحماية الجنود الإسرائيليين بينما يواصلون البناء في الموقع وتطويره.
في هذا الصدد، يوضح الجيش الإسرائيلي أنَّه ليس لديه خيار آخر. قال مسؤول بالجيش الإسرائيلي: "كل المواطنين الإسرائيليين يتمتعون بالحماية بموجب القانون حتى عندما يرتكبون أفعالاً إجرامية. دورنا وواجبنا هو حمايتهم".
اعترف الجيش الإسرائيلي بحدوث مخالفة بعد ظهور صور في يونيو/حزيران لجنود يساعدون المستوطنين على نقل مبانٍ مجهزة مسبقاً إلى مواقعها في البؤرة الاستيطانية. وقال المسؤول العسكري إنَّ الجنود المتورطين قيل لهم إنَّهم أخطأوا.
يشير درور إتكيس، الناشط الحقوقي المناهض للاستيطان، إلى أنَّ هذه الواقعة كاشفة للغاية، قائلاً: "لا يوجد فارق إطلاقاً بين المستوطنين والحكومة. إنَّهما كيان إسرائيلي واحد يعمل في نفس الاتجاه وهو نزع ملكية الأراضي من الفلسطينيين".
تفاصيل الاتفاق بين بينيت والمستوطنين لإخلاء هذه البؤرة
يشعر إتكيس وآخرون مثله بالذهول من اتفاق توصل إليه مستوطنو أفيتار مع الحكومة الإسرائيلية الجديدة، التي تولَّى رئيس وزرائها اليميني، نفتالي بينيت، في فترةٍ ما منصب مدير عام الهيئة الجامعة الراعية لمصالح المستوطنين.
شهد هذا الاتفاق موافقة المستوطنين على إخلاء البؤرة الاستيطانية بشرط بقاء المباني. وقد تقرَّر إنشاء نقطة عسكرية ثابتة في الموقع مع احتمالية بناء مدرسة دينية عسكرية تابعة لها إذا قضت محكمة إسرائيلية بأنَّ هذا الموقع "أراضي دولة".
فتح غائبة
في الوقت نفسه، تسلط الاحتجاجات في بلدة بيتا الضوء على جدل متجدد بين الفلسطينيين حول مَن يقود المقاومة الفلسطينية.
يقول نشأت الأقطش، أستاذ الإعلام في جامعة "بيرزيت" الفلسطينية، إنَّ "هذه الاحتجاجات لا ينسقها أي فصيل سياسي فلسطيني. لا يُسمح لأحد برفع أي علم باستثناء العلم الفلسطيني. ولا يوجد انخراط لأحزاب سياسية. هذه حركة شعبية خالصة".
باتت مسألة قيادة المقاومة الفلسطينية ضد الاحتلال الإسرائيلي متاحة للجميع في ظل النظر إلى السلطة الفلسطينية على نحوٍ متزايد باعتبارها غير ذات صلة بما يحدث على أرض الواقع، لاسيما بعد الاحتجاجات التي اندلعت في القدس الشرقية وسط غضب متزايد من التهديد بطرد عائلات فلسطينية من منازلها، فضلاً عن أحداث حرب غزة الأخيرة.
تحظى حركة حماس، المصنفة منظمة إرهابية من جانب الولايات المتحدة وعدة دول أخرى، بموجة دعم كبيرة حالياً وسرعان ما اعتبرت مغادرة المستوطنين جبل صبيح، وإن كان مؤقتاً، بمثابة انتصار لها.
قالت الحركة في بيان إنَّ "انسحاب المستوطنين يمثل إنجازاً جديداً يؤكد مجدداً قدرة المقاومة على فرض إرادة شعبنا الفلسطيني وإجبار الاحتلال على التراجع أينما وجد".
ومع ذلك، لا يهتم الشاب الفلسطيني العائد من مواجهة مع جنود إسرائيليين بالسياسات الفلسطينية الداخلية، وقال: "نحن هنا منذ الكنعانيين. يزعمون أنَّ الأرض ملكهم، لكن هذا غير حقيقي. الشيء الأكثر فاعلية لدينا هنا هو وحدتنا. هذا سر انتصارنا".