يبدو أن الولايات المتحدة الأمريكية عادت من جديد للالتفات لأهمية سلطنة عمان واكتشاف مدى أهميتها في مصفوفة الطاقة في الشرق الأوسط، أما الصين فقد أدركت أهمية هذه الدولة منذ وقت طويل، وعملت بنشاط على توسيع نطاق علاقاتها مع مسقط وتعميقها، فالأخيرة تمتلك موقعاً استراتيجياً غير عادي، وتعد ركناً مهماً في كل الطرق البرية والبحرية لمشروع الهيمنة الصيني على الطاقة العالمية متعدد الأجيال: "حزام واحد، وطريق واحد"، أو ما يعرف بـ"مبادرة الحزام والطريق".
الأزمة الاقتصادية دفعت سلطنة عمان نحو أحضان الصين
يقول موقع OilPrice.com الأمريكي في تقرير نُشر حديثاً إنه لولا التحول الأمريكي مجدداً نحو تقدير أهمية سلطنة عُمان وموقعها الاستراتيجي على الخريطة، لكانت على وشك الدخول إلى المرحلة الأخيرة من خطوات الانضمام إلى محور النفوذ الصيني الروسي الإيراني في الشرق الأوسط، لكن الآن بعد أن أدركت الولايات المتحدة أهمية عمان، فقد يتغير الحال ولا تسمح بوقوع السلطنة في قبضة بكين.
تمثلت معضلة عمان الرئيسية لسنوات في أن لديها موارد طبيعية محدودة للغاية وفقاً للمعايير الإقليمية، فهي تمتلك 5 مليارات برميل فقط من احتياطيات النفط المؤكدة (بالكاد تحتل المرتبة 22 في العالم) مع حدٍّ أدنى بكثير من احتياطيات الغاز الطبيعي.
لمواجهة هذا العجز، قررت عمان الاعتماد على استراتيجية تعظيم عائدات موارد الهيدروكربونات الخام هذه عن طريق تحويلها إلى مجموعة من المنتجات البتروكيماوية ذات القيمة المضافة، مع تركيز هذه الجهود تركيزاً كبيراً على مجموعة من المشروعات المترابطة التي تتمحور حول مشروعات مدينة الدقم. ومع ذلك، فإن العيب الأبرز في هذه الاستراتيجية هو أنها تتطلب قدراً كبيراً من الاستثمارات المسبقة على مدى سنوات عديدة، قبل أن تصبح البنية التحتية اللازمة جاهزة للبدء في تحقيق عوائد مالية مجدية.
في الوقت الذي بدأت فيه عمان جدياً في متابعة استراتيجية البتروكيماويات هذه، في منتصف عام 2013 تحديداً، أعلنت شركة النفط العمانية للمصافي والصناعات البترولية (أوربك) أنها شرعت في برنامج تكلفته 5 مليارات دولار لتعزيز قدرات التكرير في مصفاتها. كان سعر خام برنت آنذاك أكثر من 100 دولار أمريكي للبرميل، وبدا ثابتاً حول هذا المستوى، لكن بعد بضعة أشهر فقط من ذلك، أشعلت السعودية أولى حروبها الكارثية في أسعار النفط بهدف تدمير قطاع النفط الصخري الأمريكي الناشئ آنذاك بعد أن دفعت دول الأوبك إلى الإنتاج بكامل طاقتها، ما أدى إلى انهيار أسعار النفط وإفلاس العديد من منتجي النفط الصخري.
مبادرة الحزام والطريق وتمدد النفوذ الصيني في سلطنة عمان
يقول الموقع الأمريكي إنه على الرغم من "الفشل المذهل" للسعودية في تدمير قطاع النفط الصخري في الولايات المتحدة، فإنها بطريقة ما نجحت في تدمير الموارد المالية للمملكة نفسها، ولزملائها من الدول الأعضاء في منظمة "أوبك"، وجميع البلدان الأخرى التي كانت اقتصاداتها تعتمد على صادرات النفط، ومنها سلطنة عمان. ومنذ ذلك الحين، تعاني عمان أزمةً مالية حادة وتسعى يائسة للعثور على راعٍ دولي من القوى الكبرى لمساعدتها على الصمود اقتصادياً وإكمال خططها الرامية إلى إنشاء قطاع بتروكيماويات عالمي المستوى وقوة اقتصادية.
لطالما كانت سلطنة عمان محطة لوجستية رئيسية في طريق الحرير البحري الأصلي للصين، ومن ثم فلا مفاجأة في أن تعتبرها بكين ترساً طبيعياً في نسختها الجديدة من طريق الحرير، "مبادرة الحزام والطريق"، ولم يكن لديها أدنى شك على الإطلاق في أنها ستتغلب على الولايات المتحدة في تحقيق هذا الهدف، ومن أجل ذلك، طوَّرت الصين حضوراً واسعاً لها على الأرض في عمان عن طريق مجموعة من الاستثمارات الضخمة متعددة المستويات.
من الأمثلة البارزة على هذا النهج توقيعُ اتفاقية تأجير لقطعةِ أرض بهدف إنشاء منطقة صناعية ضخمة في منطقة الدقم، وتقتضي الاتفاقية السماحَ لعدد من الشركات الصينية بالاستثمار في السلطة بمبلغ لا يقل عن 10 مليارات دولار أمريكي في المرحلة الأولى. وعلى الرغم من أن الصفقة تمحورت في البداية حول توسيع القدرات الإنتاجية لمصفاة الدقم والعمليات المرتبطة بها، فإن حقيقة الأمر أن الصفقة تندرج تحت نطاق أوسع بكثير من المشروعات في ثلاثة مجالات: الصناعات الثقيلة والصناعات الخفيفة والصناعات متعددة الاستخدامات، وكلها ستكون جاهزة للاعتماد عليها في غضون السنوات الخمس إلى العشر القادمة.
جاءت أحدث إشارة إلى أن عمان قد استنفدت أي خيارات واقعية أخرى لتأمين مستقبلها مالياً، بخلاف الوقوف على نحو حاسم مع الصين، مع التصريحات الأخيرة من وزير النفط والغاز العماني، محمد الرمحي، بأن "السلطنة تعيد إحياء خطط استيراد الغاز الإيراني، والتفكير أيضاً في تمديد شبكة خطوط الأنابيب التابعة لها إلى اليمن".
أمريكا توجه بوصلتها نحو سلطنة عمان قبل أن تصبح نفوذاً كاملاً للصين
مع ذلك، لم تفقد الولايات المتحدة تماماً فرصتها مع عمان، إذ إن جهود مسقط الأخيرة لجمع التمويل تفتح الطريق أمام زيادة المشاركة -إذا كانت ثمة مشاركة ذات مغزى على الإطلاق- من الولايات المتحدة. وأحد مداخل هذه المشاركة قد يكون "شركة تنمية طاقة عمان" (EOD) الحكومية التي تجري حالياً محادثات مع عديد من البنوك الدولية لجمع 1.5 مليار دولار لتمويل قروضها.
وكانت مصادر قانونية قريبة من الإجراءات صرَّحت لموقع OilPrice.Com مؤخراً، بأن الطرف الرئيسي الجديد الذي دفعت به الولايات المتحدة للمشاركة في إيقاف تقدم الصين في الشرق الأوسط، والحديث هنا عن الإمارات، أبدى أيضاً استعداداً قوياً للاضطلاع بدور رئيسي في توفير أي تسهيلات وآليات وأصول قانونية للإقراض.
قبل أكثر من شهر بقليل، صرَّح الرمحي بأن شركة تنمية الطاقة العمانية تتطلع إلى جمع نحو 3 مليارات دولار لتمويل عملياتها، وهو ما يفتح الباب أمام مزيدٍ من فرص الاستثمار المباشر للولايات المتحدة في البنية التحتية الأوسع نطاقاً لسلطنة عمان في المستقبل.
وقد تسنح إحدى هذه الفرص مع اتجاه السلطنة إلى بيع شركة "أوكيو" الحكومية العمانية للطاقة لإحدى وحدات الحفر الرئيسية التابعة لها، شركة "أبراج لخدمات الطاقة"، وهي عملية بيع لا تزال في المرحلة الأولى من المناقشات، وفقاً للمصادر القانونية التي تحدثت إلى OilPrice.com الأسبوع الماضي. وقال أحد المصادر القانونية إن "الخيارات المتاحة هي بيع جزء من أسهم الشركة أو معظمها أو كلها، إما عن طريق البيع الخاص أو من خلال الاكتتاب العام الأولي [طرح عام أولي] أو كليهما".
وفي هذا السياق، وإن كان عرض صكوك سلطنة عمان المتوافقة مع الشريعة الإسلامية لشهر يونيو/حزيران كان ناجحاً، بعد أن تمكنت السلطنة من بيع ما قيمته 1.75 مليار دولار في صكوك مدتها 9 سنوات بعد أن سحبت أكثر من 11.5 مليار دولار في إصدار السندات الثاني هذا العام، إلا أنه من الصحيح أيضاً أن هذا النجاح يُستبعد أن يُترجم إلى نجاح مماثل في تعويم سوق الأوراق المالية بأرقام كبيرة، لأن سوق الصكوك سوقٌ شديد التخصص والمحدودية يستقطب تلقائياً العطاءات الثقيلة من مجتمع مستثمريه الأساسيين.
وبدلاً من ذلك، سينصرف أكثر تركيز المستثمرين في سوق الأسهم على الوضع الائتماني لسلطنة عمان، وقد تفاقم هذا الوضع سوءاً على نحو مطرد منذ حرب أسعار النفط التي حرَّضت عليها السعودية في الفترة من 2014 إلى 2016، ونفس الشيء مرة أخرى في مطلع عام 2020. ومن ثم، أصبحت سلطنة عمان الآن إحدى دولتين خليجيتين فقط ذات تصنيف ائتماني "غير مرغوب فيه"، والأخرى هي البحرين. هذا الملف الائتماني السيئ هو السبب في أن فكرة عمان السابقة ببيع حصة في شركة النفط العمانية للمصافي والصناعات البترولية عبر الاكتتابات العامة لم تحقق أي شيء حتى الآن.
أمريكا وخطط السيطرة على خليج عمان وقطع الطريق على إيران والصين
وقد أوقفت خطط الاكتتاب العام هذه مؤقتاً، لكن إذا كانت الولايات المتحدة تريد البدء حقاً في اتخاذ موقف ضد الصين في نقطة برية وبحرية حيوية للغاية في الشرق الأوسط، يمكنها المضي في شراء أكبر قدر ممكن من أسهم شركة أبراج للطاقة، ثم إقناع السلطان ببيعها أكبر قدر ممكن من أسهم "أوكيو".
يقول الموقع الأمريكي، إنه يُتوقع أن يؤمِّن ذلك للولايات المتحدة السيطرةَ الفعالة على خليج عمان، الذي يشكِّل نقطة دخول وخروج إلى الخليج العربي ونقطة عبور النفط الرئيسية لمضيق هرمز. كما أنه يُعرقل جميع خطط إيران قصيرة إلى متوسطة الأجل التي تتطلع بها إلى أن تكون لاعباً رئيسياً في مجال الغاز الطبيعي المسال عن طريق الاستفادة من 25% من قدرات معالجة الغاز الطبيعي المسال العمانية في قلهات، وأيضاً خطة إيران الأوسع نطاقاً لإنشاء أنبوب بطول 192 كيلومتراً وقطر 36 بوصة يمتد بطول قاع بحر عمان على عمق يصل إلى 1340 متراً، من جبل مبارك في محافظة هرمزغان جنوبي إيران إلى ميناء صحار في عمان، لتصدير الغاز إلى بقية دول العالم.
وربما المكسب الأكبر للولايات المتحدة من هذا التدخل هو التضييق على الصين بوضع عقباتٍ كبيرة تحول دون حصولها على الطرق البرية والبحرية المطلوبة في إطار مشروع "حزام واحد وطريق واحد" بسلاسة.