أودى بحياة أكثر من 4 ملايين شخص في نحو عام ونصف، والآن تثير سلالة دلتا منه الذعر حول العالم، ورغم ذلك لا يزال أصل فيروس كورونا لغزاً يقسم الجميع بين فريق يراه طبيعياً انتقل للبشر عن طريق خفاش لم يعثر عليه أحد، وفريق آخر يقول إنه تسرب من معمل في ووهان بالصين.
وأحدث حلقات تلك السلسلة الممتدة من محاولات الوصول لحقيقة أصل الفيروس المسبب لوباء كورونا تتمثل في دراسة أعدها 21 باحثاً في علوم الأوبئة والفيروسات قالوا إن الهدف منها هو "تصحيح الأمور".
وعلى الرغم من أن جائحة كورونا قد أصابت أكثر من 187 مليون شخص حول العالم، فقد منهم أكثر من 4 ملايين و43 ألف شخص حياتهم، منذ تفشي الفيروس قبل نحو 18 شهراً، وحتى اليوم الأحد 11 يوليو/تموز 2021، بحسب موقع وورلدميترز كورونا، فإن رحلة الكشف عن أصل الفيروس ومنشئه لا تزال مستمرة في ظل حالة من الانقسام الشديد في الآراء، يعمقها أكثر البعد السياسي للقضية الصحية والعلمية.
نظرية الخفافيش تكتسب زخماً مرة أخرى
وعلى الرغم من أن نظريات المؤامرة المتعلقة بكورونا والتي صاحبته منذ بداية معرفة العالم به أواخر عام 2019 حتى اليوم لا تزال أبرز السمات الخاصة بالكارثة الصحية الأخطر والأكثر فتكاً منذ الإنفلونزا الإسبانية قبل نحو قرن من الزمان، فإن المرض والوفيات والموجات المتتالية من الوباء هي حقيقة قائمة تعاني منها جميع دول العالم.
وفي أي وباء أو أزمة صحية، من الطبيعي أن تكون منظمة الصحة العالمية هي المرجعية الأساسية والمصدر الأكثر مصداقية للأخبار والإرشادات الصحية، إلا أن المنظمة نفسها أصبحت عرضة للتشكيك في كل ما يصدر عنها، في ظل اتهامات طالتها وطالت مديرها الإثيوبي تيدروس أدهانوم بالتواطؤ مع الصين في المراحل المبكرة لتفشي الوباء، وكان مصدر تلك الاتهامات الحكومات الغربية وبصفة خاصة واشنطن أثناء إدارة الرئيس السابق دونالد ترامب.
ورغم إرسال منظمة الصحة العالمية فريق تحقيق إلى الصين للوقوف على حقيقة منشأ فيروس كورونا وأصله، وإصدار فريق التحقيق تقريراً غير حاسم، وإن استبعد بصورة كبيرة نظرية أن يكون الفيروس قد تسرب من معمل للفيروسات في مدينة ووهان الصينية، فإن نتائج التحقيق تعرضت للتشكيك من جانب كثير من الدول على رأسها الولايات المتحدة مرة أخرى، وعادت نظرية التسرب من المعمل لتطل برأسها من جديد بعد أن طلب الرئيس الأمريكي جو بايدن من أجهزة مخابراته "البحث أكثر عن أدلة تؤكد تلك النظرية".
وفي ظل هذه الأجواء المسيسة بشدة، تصاعدت التساؤلات ومعها الاتهامات، التي لم يسلم منها علماء الأبحاث أنفسهم، إذ تعرض كثير منهم لاتهامات بالتآمر والتستر، دون أن يقدم من يقفون وراء تلك الاتهامات دليلاً عليها.
والآن يسعى 21 باحثاً لفهم كيفية انتقال الفيروس الذي نشأ في الخفافيش إلى البشر بهدف "تصحيح الأمور" من خلال نشر ملخصهم بشأن الأدلة العلمية حول بداية الوباء، بحسب تقرير لهيئة الإذاعة البريطانية BBC.
ويقول البروفيسور ديفيد روبرتسون، عالم الفيروسات بجامعة غلاسكو: "ليس صحيحاً أننا لا نعرف من أين جاء (فيروس كورونا)، فنحن فقط لا نعرف كيف وصل إلى البشر".
إذ من المقبول على نطاق واسع أن أحد أسلاف الفيروس كان في الأصل مرضاً ينتشر بشكل غير ضار في الخفافيش البرية، لكن من الضروري اكتشاف كيف وأين ومتى شق طريقه لأول مرة إلى شخص لمنع تفشي المرض في المستقبل.
ولا يوجد دليل قاطع، ولا يوجد خفاش مصاب بفيروس كوفيد، أو حالة بشرية مؤكدة، يُظهر كيف بدأ انتقال الفيروس من الخفافيش إلى البشر بشكل قاطع، وقد لا يعرف ذلك أبداً، لكن العلماء الذين كتبوا هذا التقرير الأخير يريدون توضيح الأدلة المتاحة وما يعنيه ذلك.
وقاموا بنشر ما يسمى مسودة البحث قبل طبعه، ما يعني أنه لم يراجعه أو يحرره خبراء آخرون، ويقول البروفيسور روبرتسون إن الاستنتاج الرئيسي لهذا التقرير هو أن الخصائص البيولوجية لهذا الفيروس تتطابق بشكل وثيق مع الفيروسات الموجودة في الطبيعة وتحديداً في الخفافيش.
كورونا المستجد يشبه فيروس سارس
البروفيسور روبرتسون قال لـ"بي بي سي" إن وباء كورونا المستجد يشبه إلى حد كبير ظهور فيروس سارس أول مرة في عام 2003. وفي تلك الحالة، عُزل الفيروس في حيوان يسمى زباد النخيل. واكتشف الباحثون في السنوات القليلة التالية فيروسات شديدة الصلة في الخفافيش، وفي عام 2017 عُثر على سلف فيروس سارس في مجموعة من خفافيش حدوة الحصان في جنوب الصين.
وهكذا تم تتبع مصدر التفشي الأساسي وتعقبه إلى الحيوان البري الذي جاء منه وبذلك تم حل اللغز القاتل، ويقول البروفيسور روبرتسون: "الاختلاف الوحيد مع كوفيد هو أننا لم نعثر على الأنواع الوسيطة هذه المرة، لكن ظل هناك ارتباط الفيروس بالخفافيش والارتباط القوي بأسواق بيع الحيوانات الحية".
ويتفق العديد من العلماء على أن أسواق الحيوانات الحية المزدحمة وغير الصحية توفر نقطة انتقال مثالية للأمراض الجديدة لـ"تنتشر" من الحيوانات. وفي الأشهر الـ 18 التي سبقت بداية الوباء، أظهرت دراسة أنه تم بيع ما يقرب من 50 ألف حيوان من 38 فصيلة مختلفة في الأسواق في مدينة ووهان الصينية. ويقول الباحثون إن التداعيات الطبيعية التي ربما تكون مرتبطة بتجارة الحيوانات هي إلى حد بعيد السيناريو المرجح لأصل كوفيد.
استبعاد نظرية التسرب من المعمل.. مرة أخرى
وكان فريق منظمة الصحة العالمية الذي زار ووهان قد توصل إلى استنتاجات مماثلة منذ أكثر من عام، لكن أدى رفض الفريق لاحتمال تسرب الفيروس عن طريق الخطأ من مختبر إلى إثارة معارضة بين بعض العلماء. والمختبر قيد الفحص هو معهد ووهان لعلم الفيروسات الذي درس فيروسات كورونا في الخفافيش لأكثر من عقد.
ويشير مؤلفو هذا التقرير الجديد إلى أنه لم يتم التلاعب بالفيروس، كما أنه لا يمكن التلاعب بأي من تلك الفيروسات لتصبح سارس كوف 2. لكن بعض العلماء لا يقبلون هذا الاستنتاج تماماً، بما في ذلك البروفيسور ديفيد ريلمان من جامعة ستانفورد الأمريكية.
وقال البروفيسور ريلمان لبي بي سي نيوز: "أرى أن التقرير الجديد جهد متعمد لحشد كل المعلومات الممكنة لدعم فرضية جيدة تماماً، وهي الانتشار الطبيعي، لكنها فرضية غير متوازنة وغير موضوعية".
وكان البروفيسور ريلمان، أحد كُتاب رسالة إلى مجلة ساينس العلمية رفيعة المستوى، والتي شكك فيها عدد من كبار العلماء في استنتاجات تقرير منظمة الصحة العالمية وطالبوا بإجراء تحقيق أكثر شمولاً فيما يسمى فرضية التسرب من مختبر.
ويختلف العلماء غالباً مع بعضهم البعض، وذلك جزء من العملية العلمية. ونشر الآراء القائمة على الأدلة في المجلات العلمية هو منبر لهذا الخلاف القائم على الأدلة. لكن الجدل حول "التسرب من المختبر والتداعيات الطبيعية" تجاوز الخلاف العلمي القوي.
وقد اتُّهم بيتر داسزاك، الذي قاد تحقيق منظمة الصحة العالمية في فبراير/شباط من عام 2020، بإسكات أي نقاش حول احتمال حدوث تسرب من مختبر عندما أصدر و26 مؤلفاً مشاركاً بياناً في مجلة لانسيت الطبية قال فيه: "نحن نقف معاً لندين بشدة نظريات المؤامرة التي تشير إلى أن كوفيد 19 ليس له أصل طبيعي".
العلماء أيضاً يتعرضون لاتهامات وتهديدات
ولم يثق كثيرون ببساطة في المعلومات التي قدمتها السلطات الصينية لفريق التحقيق التابع لمنظمة الصحة العالمية. وأمر بايدن، بعد أكثر من عام الاستخبارات الأمريكية بـ"مضاعفة" الجهود للتحقيق في أصول سارس كوف 2، بما في ذلك النظرية التي تقول إنه تسرب من مختبر. وفي ذلك الوقت تقريباً، تعرض بعض العلماء الذين رفضوا علناً سيناريو التسريب المختبري للهجوم، ولا سيما في وسائل التواصل الاجتماعي.
ويقول أحد الذين عملوا على أصول سارس كوف 2 منذ الأيام الأولى للوباء إن الأدلة تشير إلى انتشار طبيعي، وقال لـ"بي بي سي" إنه يفكر في ترك مجال بحثه لأن الإساءة باتت شديدة.
وقال الباحث، الذي لم يرغب في الكشف عن هويته لأنه يخشى مزيداً من المضايقات: "لقد قُرصن بريدي الإلكتروني، كما أن رسائل بريد إلكتروني تحاول الإيقاع بي، وتروج ادعاءات أنني زورت البيانات وأنني جزء من مخطط منهجي للتستر، وهناك آخرون عانوا أسوأ من ذلك بكثير، وكل هذا له تأثير سلبي ويجعلك تتساءل عن قيمتك".
وبينما تصاعد الجدل خلال العام الماضي، لم يكن هناك دليل علمي جديد يشير إلى تسرب من مختبر، ويتفق جميع العلماء تقريباً على أن البحث القوي عن دليل على أصول سارس كوف 2 هو السبيل الإيجابي الوحيد للمضيّ قدماً.
ويقول البروفيسور ريلمان: "ما لا نحتاجه الآن هو أن يصر العلماء على تفسيرهم المفضل في غياب بيانات جديدة قوية". وأضاف: "لم يتم العثور على سارس كوف 2 في أي مضيف حيواني طبيعي، دعونا فقط نهدأ ونطالب بإجراء تحقيق مناسب".
ويشير البروفيسور ستيوارت نيل، من كينغز كوليدج لندن، وهو مؤلف مشارك للتقرير الجديد، إلى أن تلك المطالب لن تؤدي بالضرورة إلى النتيجة التي يبحث عنها الجميع.
وقال البروفيسور نيل: "سنحتاج إلى تعاون السلطات الصينية، وهم بحاجة إلى أن يكونوا أكثر وضوحاً بشأن ما يعرفونه عن المرحلة المبكرة للوباء في ووهان في نهاية عام 2019″، مضيفاً: "إن ذلك فقط هو الذي سيلقي الضوء على كيفية وصول الفيروس إلى ووهان، وأين كان قبل ذلك، فهذا هو ثاني أكبر مرض حيواني المصدر ناجم عن الخفافيش في الصين منذ 20 عاماً، وإذا لم يتم تصحيح هذا الأمر فسيحدث مرة أخرى".