بالنسبة للمارة، لم تكُن لافتة للنظر، فهي امرأة فرنسية شابة تستمتع بحلوى ميلبا الخوخ في متجر لبيع الآيس كريم بوسط المدينة، ولكن هذه المرأة الشابة سيكون لها دور تاريخي في حرب استقلال الجزائر.
جلست بمقهى Milk Bar في الجزائر العاصمة في 30 سبتمبر/أيلول 1956، وهي في حقيقة الأمر كانت عضوة سرية بالمقاومة الجزائرية التي تقاتل لنيل الاستقلال عن فرنسا. وكانت قد دسَّت قنبلة داخل حقيبة الشاطئ التي كانت تضعها بجوار قدميها، حسبما ورد في تقرير لصحيفة The Washington Post الأمريكية.
ويعد الاحتلال الفرنسي للجزائر واحداً من أطول عمليات الاحتلال وأكثرها بشاعة في التاريخ الحديث، وخلال أكثر من 132 عاماً (منذ العام 1830 حتى العام 1962) قدم أبناء الجزائر أرواحهم فداءً لتحرير وطنهم، الذي صار اسمه الجديد "بلد المليون شهيد" بعد حرب استقلال الجزائر.
نقلة نوعية في حرب استقلال الجزائر
أسفر الانفجار الذي تسببت به زهرة ظريف (21 عاماً آنذاك) عن مقتل ثلاثة أشخاص على الأقل وإصابة العشرات، ومثَّل نقطة تحول رئيسية في كفاح الجزائر لنيل الاستقلال فيما يعرف باسم حرب استقلال الجزائر، حسب The Washington Post.
إذ جذب الثوار الجزائريون، الذين انتفضوا ضد الجيش الفرنسي وأجبروا فرنسا في نهاية المطاف على التنازل عن سيطرتها على البلاد، اهتمام العالم، وأصبح نجاحهم واحدة من النقاط المضيئة للجهود الرامية لزعزعة الاستعمار الأوروبي في معظم أرجاء إفريقيا.
واليوم، يتلاشى الجيل الثوري بسرعة. وزهرة هي واحدة من بين عدد متضائل من أولئك الذين لا يزالون على قيد الحياة، وهي واحدة من أهم الشخصيات الأيقونية بينهم.
تتحرك زهرة (86 عاماً) بهدوء وتقترب قصة شعرها الهادئة من أذنيها. وقد مضت عقود منذ كانت هي وأصدقاؤها يتنقلون بين المخابئ في الشوارع المتعرجة لمدينة قصبة بالجزائر، حيث كان مقاتلو الحرية يُنظِّمون أنفسهم سراً في الماضي. لكن ما يزال بإمكان زهرة أن تروي بتفصيلٍ لافت للنظر الأحداث التي من شأنها ليس فقط بلورة مستقبلها، لكن أيضاً مستقبل بلادها.
وقالت زهرة في مقابلة جرت في منزل ابنها بالعاصمة الجزائرية الشهر الماضي، يونيو/حزيران، إنَّ تفجير المقهى، الذي كان يتردد عليه المستوطنون الفرنسيون، كان يهدف لأن "يخلق في نفوس المدنيين الفرنسيين نفس حالة الهلع" التي عاشها الجزائريون.
وأضافت، دون أن تُعرِب عن أي ندم، كان الأوروبيون "يحظون بحماية بالغة، وكان الأمر كما لو أنَّه ليست هناك حرب. وكان علينا أن نقول لهم: الحرب في كل مكان. ليست (الحرب) لنا فقط، بل للفرنسيين أيضاً".
كان الفرنسيون يعتبرون الجزائر جزءاً من فرنسا، وكان قرابة مليون أوروبي قد استوطنوا هناك بحلول الوقت الذي اندلعت فيه الحرب. قالت جينيفر سيشنز، وهي مؤرخة بجامعة فرجينيا: "إذا نظرنا إلى فترة إنهاء الاستعمار، كان المستوطنون الاستعماريون في العالم هم الأكثر عنفاً والأصعب من حيث إنهاء استعمارهم".
ومع أنَّ حرب استقلال الجزائر بدأت في عام 1954 وخِيضَت في أرجاء الريف الجزائري، مثَّلت هجمات سبتمبر/أيلول 1956 بداية فترة جديدة مضطربة في العاصمة.
كانت المتفجرات التي زرعتها زهرة واحدة من ثلاث قنابل وضعتها نساء جزائريات في ذلك اليوم، في سلسلة مُنسَّقة من الهجمات التي أثارت غضب ورعب الأوروبيين في المدينة، حسب وصف صحيفة The Washington Post.
وأمضى الجيش الفرنسي السنة التالية في التعرف على وتفكيك خلايا المقاتلين والداعمين لحركة الاستقلال. واعتُقِل واحتُجِزَ الآلاف، بما في ذلك زهرة. وتعرَّض الكثيرون للتعذيب أو القتل، واختفى كثيرون آخرون تماماً.
نشأت في نظام تعليم فرنسي، ولكنها كانت تعلم أنها تعامل كغريبة في بلدها
وُلِدَت زهرة عام 1934 غربي الجزائر، ونشأت في ظل النظام التعليمي الفرنسي، لكنَّها، كما تروي في مذكراتها بعنوان "داخل معركة الجزائر: مذكرات امرأة مناضلة"، أدركت منذ سنِ صغيرة أنَّها ستُعتَبَر دوماً في أعين الفرنسيين "غريبة" في بلدها.
كانت زهرة طالبة استثنائية، وانتقلت في نهاية المطاف من أجل دراستها إلى الجزائر العاصمة، حيث كانت واحدة من بين حفنة فقط من الجزائريين في مدرستها الداخلية. وهناك التقت سامية لخضاري، التي ستصبح أقرب صديقاتها وشريكة معها في المقاومة. وقد توفيت لخضاري في عام 2012.
وتروي زهرة: "لأنَّنا كنا نعلم كل شيء يدور ببلدنا، كان واضحاً لنا أنَّه ما من خيار إلا الكفاح المسلح، وأنَّنا مضطرون لمواجهة الفرنسيين، وباستخدام العنف".
وقد جعل انغماس الشابات في المدرسة الفرنسية وقدرتهن على الامتزاج داخل الأحياء الأوروبية منهن مرشحاتٍ مثاليات للعمل الخفي لصالح الحركة.
ففي نفس الأمسية التي زرعت فيها زهرة القنبلة في المقهى عام 1956، تظاهرت سامية لخضاري ووالدتها بأنَّهما فرنسيتان وزرعتا قنبلة في مقهى شعبي. وزرعت مقاتلة أخرى، هي جميلة بوحيرد، قنبلة ثالثة في مكتب تابع للخطوط الجوية الفرنسية في نفس اليوم، لكنَّها لم تنفجر.
ماذا فعلت بعد عمليتها الجريئة؟
نجحت زهرة في الخروج من محل الآيس كريم قبل الانفجار. لكنَّها كانت ما تزال قريبة بما يكفي لتشعر بالانفجار بعد بضع دقائق. وروت أنَّها ذهبت في حالة ذعر إلى منزل أسرة صديقة، وهي امرأة فرنسية لم يكن لديها أدنى فكرة أنَّ زهرة تقف خلف الهجمات. ثم سارعت بالعودة إلى منزل سامية.
وقالت: "لم تكن التعليمات تتمثل في زرع القنابل فحسب، بل المغادرة قبل الانفجار، وعدم التعرُّض للاعتقال. كان علينا العودة، لأنَّه في حال أُلقي القبض علينا، لكان ذلك سيمثل من الناحية العملية إخفاقاً".
جرى تصوير هجماتهن على نحو شهير في فيلم "The Battle of Algiers"، وهو فيلم يحظى بإشادات ويعود إلى عام 1966. وقد حظرت السلطات الفيلم، الذي اعتُبِرَ مثيراً للجدل في فرنسا، بشكل مؤقت هناك.
واصلت زهرة بعد التفجير العمل سراً لصالح الجناح المسلح لجبهة التحرير الوطني، التي ستواصل بعد ذلك لتصبح الحزب الحاكم في البلاد بعد الاستقلال.
أُلقي القبض عليها في مخبأ في القصبة عام 1957، لكن أُطلِقَ سراحها بعد 5 سنوات، حين أُعلِن استقلال الجزائر في 1962، وهو الاستقلال الذي أعقبه موجات هجرة جماعية للأوروبيين من البلاد.
سعيدة بما يفعله شباب الجزائر اليوم
تزوجت زهرة بعد ذلك رباح بيطاط، أحد العقول المدبرة لحراك الاستقلال وأصبح لاحقاً سياسياً بارزاً ورئيساً مؤقتاً للجزائر. وعملت محامية، وأصبحت في نهاية المطاف نائبة لرئيس مجلس الأمة الجزائري. وربَّى الزوجان أيضاً ثلاثة أطفال قبل أن يموت بيطاط عام 2000.
وقبل عامين، حين اكتسحت موجة ضخمة من الاحتجاجات السلمية المناهضة للحكومة الجزائر العاصمة، قالت زهرة إنَّها شعرت كما لو أنَّ شباب الجزائر "حمل الشعلة" من جيلها.
وقالت زهرة إنَّها شعرت أنَّ الاحتجاجات دليل على أنَّ الجيل الجديد "مرتبط ببلده بشدة".
وبالنسبة لزهرة، أدَّى الشغف الذي أبداه الشباب الجزائري إلى جعلها تشعر بارتياح أكبر حيال مستقبل بلادها.
وقالت: "كافحوا من أجل نفس المبادئ التي كافحنا من أجلها، أي من أجل بلد يحكمه أبناؤه".