على مدار عقدين من الزمان، كان جزءٌ كبيرٌ من المؤسسة الأمنية الباكستانية يدعم طالبان بالحرب في أفغانستان. والآن، وقد استولت طالبان على مساحاتٍ شاسعة من البلاد، ويبدو أنها على وشك الاستيلاء على السلطة، قد تواجه باكستان "خيارات صعبة" كما تقول صحيفة Wall Street Journal الأمريكية.
"الحرب الأهلية في أفغانستان آخر شيء قد ترغب فيه باكستان"
منذ الغزو الأمريكي عام 2001، الذي أطاح بنظام طالبان المدعوم من باكستان في كابول، قدَّم الجيش الباكستاني القوي بشكلٍ غير رسمي دعماً محسوباً بعناية لجماعة طالبان، سامحاً للأفغان بالعمل من أراضيه. أرادت باكستان تعزيز حركة طالبان في مواجهة نفوذ عدوتها، الهند، في أفغانستان، وأن يكون لها وكيلٌ قوي هناك بعد مغادرة الولايات المتحدة. وتنفي الحكومة الباكستانية، الحليفة الرسمية للولايات المتحدة منذ عام 2001، دعمها لطالبان، لكنها تقول إن تأثيرها محدودٌ على الجماعة.
ومع اجتياح طالبان لثلث مناطق أفغانستان بعد الانسحاب الأمريكي ومحاصرة المدن الرئيسية في البلاد، يتعيَّن على السلطات الباكستانية أن تتعامل مع تلك العواقب؛ إذ يقول مسؤولون باكستانيون كبار للصحيفة الأمريكية إن "استيلاء طالبان الكامل على السلطة أو اندلاع حرب أهلية جديدة في أفغانستان من شأنه أن يأتي بنتائج عكسية ضد المصالح الوطنية لإسلام أباد".
وقال وزير الدفاع الباكستاني السابق، الجنرال المتقاعد نعيم خالد لودهي: "نحن مرتبطون ارتباطاً وثيقاً بأفغانستان، عرقياً ودينياً وقبلياً، إلى درجة أنه كلَّما وقعت حربٌ أهلية تنغمس باكستان تلقائياً". وأضاف: "الحرب الأهلية في أفغانستان هي آخر شيءٍ قد ترغب فيه باكستان".
يكمن الخوف لدى باكستان في تدفُّق اللاجئين عبر الحدود، ذات الثغرات الكثيرة، ما قد يضيف المزيد من اللاجئين إلى الـ1.4 مليون لاجئ أفغاني مسجَّل يعيشون بالفعل في باكستان. والأسوأ من ذلك هو أن انتصار طالبان الأفغانية من شأنه أن يحفِّز المتشدِّدين الباكستانيين، الذين تضاءلت قوتهم نتيجةً للعمليات العسكرية المتتالية في المناطق الحدودية القبلية في البلاد.
قال مسؤولٌ باكستاني كبير لـ"وول ستريت جورنال": "قد يتشجَّع الجهاديون لدينا. إذا كان من الممكن هزيمة الولايات المتحدة، فما هو الجيش الباكستاني ليقف في طريقنا؟". وأضاف: "الحرب لا تناسبنا على الإطلاق. لقد رأينا ذلك منذ 40 عاماً".
"باكستان عالقة في هذا الأمر"
تقول إسلام أباد إنها "لم تعد تريد أن تكون الداعم الرئيسي لنظامٍ منبوذ"، كما كان الحال عندما سيطرت طالبان على كابول من 1996 إلى 2001. في المقابل، تهدف باكستان إلى تسويةٍ سلميةٍ تفاوضية من شأنها أن تمنح طالبان نصيباً كبيراً من السلطة السياسية في كابول، إلى جانب الشرعية الدولية والتمويل.
وتعثَّرَت محادثات السلام بين طالبان والحكومة الأفغانية وساستها في الدوحة، العاصمة القطرية، إلى حدٍّ كبير، حيث قال مسؤولون أفغان إن "التمرُّد يسعى إلى استخدام المفاوضات لإضفاء الشرعية على عملياته العسكرية".
وقالت لوريل ميللر، القائمة بأعمال الممثِّل الخاص للولايات المتحدة في أفغانستان وباكستان، والتي ترأس الآن برنامج آسيا في مجموعة الأزمات الدولية: "باكستان عالقةٌ في أزمةٍ بعض الشيء".
وأضافت: "أفضل نتيجة لباكستان هي أن طالبان تتقدَّم عسكرياً بما يكفي للسيطرة على الشروط في المفاوضات، لكن ليس كثيراً بحيث تحقِّق انتصاراً عسكرياً وتحاول الحكم بشكلٍ احتكاري".
بعد سنواتٍ من التنديد العلني بالاستراتيجية الأمريكية في أفغانستان، والقول إنه ما مِن حلٍّ عسكري للأزمة، يشكو المسؤولون الباكستانيون الآن من خروج الولايات المتحدة من أفغانستان بسرعةٍ كبيرة. قال مستشار الأمن القومي الباكستاني معيد يوسف، هذا الشهر يوليو/تموز، إن "إسلام أباد ناشدت إدارة بايدن كي توقف انسحابها حتى يتم التوصُّل إلى تسويةٍ سياسية في أفغانستان".
وقال يوسف في التلفزيون الباكستاني: "الوضع على الأرض يتحرَّك بأسرع من أن يتمكَّن أحدٌ من التخطيط له". وأضاف: "نريد أن تكون علاقتنا مع أفغانستان على ما يرام، وألا تُستخدم أراضيها ضد باكستان. إذا حدث ذلك، فلا توجد خياراتٌ مُفضَّلة لدى باكستان".
لكن تظل طالبان حليفة لباكستان وورقة قوة ضد الهند
كثيراً ما تُقابَل مخاوف باكستان باستخفافٍ من قِبَلِ المسؤولين الغربيين. وهم يشيرون إلى عقدين من إنكار إسلام أباد دعمها لطالبان، عندما بدا هذا الدعم على مرأى أولئك الموجودين في كابول وواشنطن. ويقول بعض المسؤولين الأجانب إنه على الرغم من تصريحاتها العلنية بعكس ذلك، لا تزال باكستان تسعى إلى سيطرة طالبان الكاملة في أفغانستان. وفي باكستان، حيث يخشى الكثيرون انتقاد الجيش، يتفق القليل من الأصوات على ذلك. وقالت بشرى جوهر، المُشرِّعة السابقة من حزبٍ سياسي قومي بشتوني في باكستان للصحيفة الأمريكية: "المُرشَّحون المفضلون لباكستان في أفغانستان هم فقط طالبان".
أظهرت عملية التفاوض مع طالبان، التي أسفرت عن اتفاق فبراير/شباط 2020 لسحب القوات الأمريكية، درجة قرب باكستان من طالبان. كان ممثِّلو الحركة في الدوحة يسافرون بانتظام إلى باكستان للتشاور مع قيادتهم. وفي الشهر الماضي يونيو/حزيران، قال وزير الداخلية الباكستاني إن عائلات كبار قادة طالبان تعيش في ضواحي إسلام أباد.
وظلَّت باكستان متورِّطةً في دورات الحرب في أفغانستان لأكثر من 40 عاماً، حيث دعمت الجماعات الجهادية المتعاقبة- أولاً ضد الاحتلال السوفيتي في الثمانينيات- بدعمٍ من الولايات المتحدة. وبمجرد مغادرة السوفيت وبدء الحرب الأهلية، رعت إسلام أباد وكلاءً أفغاناً جزئياً لإبعاد نفوذ نيودلهي، خوفاً من الوقوع بين أفغانستان المعادية والهند المولعة بالقتال ضدها. استقرَّ دعم باكستان على طالبان عندما ظهرت الحركة الإسلامية في منتصف التسعينيات. وتعتبر باكستان صداقة الحكومة الأفغانية أولوية استراتيجية.
وتتهم إسلام أباد وكالات الاستخبارات الهندية والأفغانية بإيواء متمرِّدين باكستانيين- انفصاليين من البلوش وجهاديين متطرِّفين على السواء- والسماح لهم بشنِّ هجماتٍ عبر الحدود من أفغانستان. وتنفي كابول ونيودلهي هذا الاتِّهام.
على الجهة المقابلة، يقول محللون إن باكستان نجحت إلى حد كبير في الإبقاء على مسافة مع حركة طالبان، مسافة استطاعت من خلالها عدم تحمل غرمها، لكنها كسبت غنمها. كما "بذرت باكستان الكثير، وسقت ورعت، وبالتالي فإن الانتصار الطالباني اليوم هو انتصارها، وتعزيز لوجودها ونفوذها وهو ما يثير قلق الدول المجاورة، وفي حال بدء حرب أهلية في أفغانستان على غرار ما حلّ بها بعد رحيل القوات السوفيتية فإن باكستان قد تكون الفائز الأكبر؛ إذ إن هذه الحرب لن تكون أقل من تغلب البشتون من جديد، وهم العمق الاستراتيجي لباكستان، فهم القادرون على تحجيم نفوذ خصم باكستان التاريخي والتقليدي الهندي.
وبقيت باكستان نقطة ترانزيت حقيقية لحركة طالبان، وظلت البلاد نافذة العالم على طالبان، تماماً كما نافذة الأخيرة على العالم، وهو الدور الذي لعبته أيام الجهاد الأفغاني، والتزمت باكستان خلال الفترة الطالبانية بنصيحة ثمينة أهداها الرئيس الباكستاني الأسبق ضياء الحق أيام الجهاد الأفغاني لرئيس مخابراته يومها الجنرال أختر عبد الرحمن: "حافظ على أن يغلي الماء بشكل تدريجي، ولا تتعجل"، وهي نفس القاعدة الأصولية التي درستها حركة طالبان الأفغانية في كتب أصولها الفقهية وبمدارسها الشرعية: "من استعجل الشيء قبل أوانه عُوقب بحرمانه".