خلال الأشهر القليلة الماضية، كانت هناك سلسلةٌ من الهجمات على البنية التحتية للكهرباء في العراق؛ حيث أفادت وسائل إعلام محلية بأن ما يصل إلى 70 برجاً لأسلاك الكهرباء قد تعرَّضَ للتخريب، فيما تشتبه السلطات في أن أفراداً من تنظيم "داعش" هم من يقفون وراء هجمات التخريب. وقال متحدِّثٌ باسم وزارة الكهرباء العراقية، في مقابلةٍ تلفزيونية: "هناك من يحاول زعزعة استقرار البلاد وبث الإرهاب".
ولكن حتى إن كان أعضاء التنظيم المتطرف هم من يقفون وراء هذه المشكلة، فإن الواقع يقول إن مشكلة نقص الطاقة وانقطاعها لدى العراق- البلد النفطي الكبير- هي أزمة طويلة الأمد، كما يقول تقرير لشبكة DW الألمانية؛ إذ إن معظم المدن العراقية ليس لديها مصدر طاقة على مدار الـ24 ساعة على أيَّةِ حال، لكن الوضع يائسٌ بشكلٍ خاص في الصيف شديد الحرارة، عندما ترتفع درجة الحرارة لتزيد على 50 درجة مئوية.
وبالطبع، الطلب يفوق العرض، ويسبِّب الأعطال بالتبعية. شهد مطلع الأسبوع الماضي انقطاعاً حاداً للكهرباء في المستشفيات والمباني الحكومية، وحتى في المطارات المحلية لعدة ساعات.
غالباً ما يؤدِّي الوضع إلى اندلاع احتجاجات. خلال الأسبوعين الماضيين، اقتحم عراقيون غاضبون محطات توليد الكهرباء في بغداد وديالى، وفي أواخر الشهر الماضي يونيو/حزيران، أصبح وزير الكهرباء في البلاد، المهندس ماجد مهدي حنتوش، وزير الكهرباء الثامن عشر على التوالي الذي يستقيل خلال الصيف.
مليارات أُنفِقَت لحل أزمة الكهرباء في العراق.. لكن دون نتائج
كما يحدث دائماً في كلِّ صيفٍ تقريباً في العراق، تعِد الحكومة بالقيام بما هو أفضل. في ديسمبر/كانون الأول من العام الماضي، أفادت لجنةٌ برلمانية شُكِّلَت للتحقيق في قطاع الطاقة بأن 81 مليار دولار قد أُنفِقت على القطاع منذ العام 2005. ومع ذلك، لم تكن هناك تحسيناتٌ كبرى.
سيكون من السهل أن تُعزَى مشكلات الطاقة في العراق إلى الفساد. كلٌ يتصوَّر الكثير من المُحتَجين الغاضبين، لكن مُحلِّلين يقولون إن الإجابة أعقد من ذلك.
أوضح علي الصفار، المُحلِّل في وكالة الطاقة الدولية في باريس، والتي تقدِّم المشورة للحكومة بشأن السياسات، وتجمع بيانات الطاقة العالمية: "إنها مثل عاصفة عاتية". وأضاف: "لا يتعلَّق الأمر بالوضع الفني فقط، فهناك عوامل غير فنية وأسباب سياسية واقتصادية أيضاً".
وأشار الصفار إلى أن بعض هذه العوامل خارج سيطرة السياسيين العراقيين، مثل النمو السكاني وامتداد فترة الصيف والجفاف المتزايد، مِمَّا يزيد من الطلب على الطاقة ويقلِّل العرض، حيث تعمل المولِّدات الساخنة بصورةٍ أقل كفاءة.
لكن الصفار جادَلَ بأنه يمكن إدارة عوامل أخرى بشكلٍ أفضل. في رأيه ورأي خبراءٍ آخرين، تتمثَّل إحدى أكبر مشكلات العراق في ارتفاع مستويات انعدام الكفاءة في كلٍّ من العرض وإدارة الطلب.
انعدام الكفاءة المفرط في قطاع الطاقة بالعراق
تفقد شبكة الكهرباء العراقية حالياً ما بين 40 إلى 50% بينما تنقل الطاقة. هذه النسبة هي الفرق بين ما يُنتَج وما يُسلَّم للمستخدمين النهائيين في العراق. تحدث هذه الخسارة لأسبابٍ فنية، على سبيل المثال تلف معدَّات نقل الكهرباء، أو ضعف أدائها، أو قِدمها، وكذلك هناك أسبابٌ غير فنية، مثل السرقة أو التخريب.
ويُعتَبَر النقص في العراق من أعلى معدَّلات النقص في العالم. على سبيل المثال، في ألمانيا، تبلغ خسائر النقل والتوزيع حوالي 4%، بينما يقع المتوسِّط العالمي عند 8%.
أوضح الصفار أن مأزق الكهرباء في العراق يسلِّط الضوء على مدى صعوبة إصلاح شيءٍ دون إصلاح الآخر.
في الواقع، وضعت الحكومة العراقية بالفعل خططاً لتحديث وتطوير شبكتها الوطنية عدة مرات، وهو أمرٌ يتطلَّب استثماراتٍ مالية كبيرة. لكن من أين يأتي المال؟
حلقات مفرغة
قلةٌ من العراقيين هم مَن يدفعون بالفعل فواتير الكهرباء. عدادات الكهرباء، وهي جزءٌ من النظام القديم الذي يُراد تحسينه، لا تعمل بشكلٍ صحيح، أو ببساطة يتجاهلها البعض ولا يركِّبونها. ويُعَدُّ استخدام الطاقة مجاناً هكذا ممارسةً شائعة.
بالإضافة إلى ذلك، يسأل العراقيون العاديون في كثيرٍ من الأحيان لماذا يجب أن يدفعوا مقابلاً عندما تكون الخدمات سيئة للغاية هكذا! إنهم يفضِّلون الدفع لمشغِّلي مولِّدات الحي المحلي بدلاً من الدفع للسلطة.
أشارت دراسةٌ أُجرِيَت في أكتوبر/تشرين الأول 2020 عن قطاع الكهرباء إلى أن السكَّان المحليين أنفقوا 4 مليارات دولار على المولِّدات الخاصة في عام 2018. إنها تجارةٌ ضخمة، وذات صلةٍ وثيقة بالساسة وقادة الميليشيات.
علاوة على ذلك، فإن انخفاض أسعار النفط العالمية العام الماضي كان يعني أموالاً أقل في ميزانية الدولة العراقية للقيام باستثمارات التحديث والتطوير. وينتهي الأمر إلى عدم رغبة الجمهور في الدفع مقابل التحسينات، ولكن هذا الجمهور بحاجةٍ إلى المزيد من الطاقة، ورجال الأعمال المحليون لا يريدون التحسينات؛ لأن ذلك سيضرُّ بـ"مافيا المولِّدات" المربحة، والحكومة لا تستطيع إجراء التحسينات حتى إذا أرادت ذلك.
تدخُّلٌ دولي والدور الإيراني في الأزمة
قالت مريم سلمان، المستشارة في شركة قمر للطاقة الاستشارية في دبي: "غالباً ما يجد العراق نفسه في مأزقٍ يستعصي على الحل". وأضافت: "لا يمكن التخلُّص من الضغط السياسي والتكتيكات المخادعة وسوء الإدارة والإهدار المالي في القطار، دون تنفيذ إطار تنظيمي قوي لدفع الإصلاح إلى الأمام. ومن ناحيةٍ أخرى، لا يمكن تنفيذ ذلك دون التخلُّص من الفساد".
هناك أيضاً عوامل أخرى معقَّدة، بما يشكل العلاقات الدولية الصعبة. وقَّع العراق اتفاقياتٍ لاستيراد الطاقة من دولٍ مثل الأردن والكويت، وآخرها من السعودية ومصر. لكنه يستورد أيضاً كمياتٍ كبيرة من الغاز والكهرباء من إيران المجاورة، وهو أمرٌ تحاول الولايات المتحدة، أحد الحلفاء الرئيسيين الآخرين للبلاد، تثبيطه.
يُزعَم أن انقطاع التيار الكهربائي الأخير كان مرتبطاً بهذا الشأن، حيث طالبت إيران بسداد مدفوعاتٍ أسرع من العراق لإمدادات الطاقة، قبل قطع هذه الإمدادات. وفي الوقت نفسه، يواجه العراق عقباتٍ في سداد مدفوعاتٍ أسرع بسبب العقوبات الأمريكية على إيران، من بين أمورٍ أخرى.
ووفقاً لمصادر مُطَّلِعة، فإن الصفقات التي أُبرِمَت في عاميّ 2018 و2019 مع شركة سيمنز الألمانية وشركة جنرال إلكتريك الأمريكية، للمساعدة في تأهيل الشبكة العراقية للكهرباء، قد تعقَّدَت أيضاً بسبب الدبلوماسية الدولية.