تمثل الغواصات الألمانية التي تصنع في تركيا إضافة جديدة لقوة أنقرة العسكرية ستزيد تفوقها على جارتها اليونان.
فعلى الشاطئ الجنوبي لخليج إزميت، في حوض بناء السفن غولجوك، بدأ المستقبل البحري التركي يتبلور تدريجياً؛ إذ تستقر الغواصة الأولى من ضمن ست غواصات ألمانية الصنع في المياه، بعد خروجها من رصيفها في مارس/آذار، وستنضم بيري ريس إلى الأسطول التركي العام المقبل.
وفقاً لوكيل وزارة الصناعات الدفاعية للحكومة التركية، يتم إنتاج هذه الغواصات بأقصى محتوى محلي في حوض بناء السفن Gölcük Naval في كوجالي بتركيا، ويقول المسؤولون الأتراك إن "المشاركة الصناعية التركية في المشروع ستبلغ حوالي 80 بالمائة من القيمة الإجمالية للصفقة".
وستلحق بها خمس غواصات أخرى من فئة ريس في السنوات اللاحقة. والحصول على هذه الغواصات انتصار للبحرية التركية، لكنه مشكلة لليونان، حسبما ورد في تقرير لموقع مجلة Economist البريطانية.
فلقد وقعت خلافات بين تركيا واليونان، رغم أن كليهما عضو في حلف شمال الأطلسي (الناتو)، في البحر المتوسط العام الماضي. واصطدمت سفنهما الحربية الصيف الماضي بعد إرسال تركيا سفينة مسح إلى المياه المتنازع عليها. وردت اليونان بمحاولة حشد الحلفاء في أوروبا والشرق الأوسط، واشترت عدداً من الطائرات الحربية الفرنسية من طراز رافال، وفي ديسمبر/كانون الأول، أعلنت مضاعفة إنفاقها العسكري ليصل إلى 5.5 مليار يورو (6.6 مليار دولار). ومع ذلك، لا يزال هذا أقل من نصف مستوى تركيا، كما أن البحرية التركية تحديداً أكبر وأحدث من نظيرتها اليونانية.
وهذه الغواصات الجديدة ستفاقم المشكلة بالنسبة لليونان.
لها ميزات في المياه المتنازع عليها بين تركيا واليونان
فغواصات فئة ريس نسخة من غواصات Type 214 الألمانية، وتملكها أساطيل البرتغال وكوريا الجنوبية واليونان نفسها. ومن الميزات المهمة في هذه الغواصات امتلاكها نظام الدفع المستقل عن الهواء (aip)، الذي يُمكّن الغواصات من التحرك دون الهواء الذي يتطلبه محرك الديزل عادةً. وبإمكان الغواصات التقليدية التي تعمل بالديزل والكهرباء البقاء تحت الماء لمدة يومين أو ثلاثة أيام. في المقابل فإن الغواصات التي تعمل بنظام الدفع المستقل عن الهواء يمكنها البقاء تحت المياه لمدة ثلاثة أسابيع، ولا "تنبعث منها أي ضوضاء تقريباً" مقارنة بالغواصات الأعلى ضجيجاً التي تعمل بالطاقة النووية ولا يمكن إيقاف تشغيل مفاعلاتها.
وهذه الميزة مثالية للمياه الضحلة المحيطة ببؤر التوتر بين اليونان وتركيا، حسبما يقول يوهانس بيترز، الذي يعمل بمعهد السياسة الأمنية بجامعة كيل.
يمكن استخدام هذه الغواصات لجمع المعلومات الاستخبارية في المياه المتنازع عليها، والتجسس على الكابلات البحرية التي تخطط اليونان لمدّها إلى قبرص ومصر وإسرائيل. يقول إيمانويل كاراجيانيس من جامعة كينغز كوليدج لندن إن هذه الغواصات "ستعيد تشكيل التوازن البحري بين اليونان وتركيا". وقال إنه يمكن تسليح هذه الغواصات بصواريخ مضادة للسفن متوسطة المدى وبإمكانها "الحد من قدرات الأسلحة اليونانية المضادة للغواصات بدرجة كبيرة"، رغم أن الكثير يعتمد على مدى نجاح تركيا في دمج أسلحتها المحلية في الغواصات الألمانية.
ورغم أن اليونان لم تعارض صفقة الغواصات حين أُبرمت عام 2009، لكن اشتباك العام الماضي غيّر الأمور. يقول مسؤول يوناني: "نحن لا نقول إنه لا ينبغي بيع تركيا هذه الغواصات. ولكن نقول إنه لا ينبغي بيعها لتركيا الحالية". إذ ترغب اليونان في أن تمتنع ألمانيا عن بيع هذه الصواريخ لتركيا وتقول إنه يمكن بيع هذه الغواصات لبلد آخر. واستشهدت بمثال أمريكا التي منعت تركيا من شراء طائرات إف-35 منذ عامين بعد شرائها منظومة دفاع جوي روسية (علماً أن الموقف الأمريكي لم يكن له علاقة باليونان، بل بسبب شراء أنقرة لصواريخ إس 400 الروسية التي تمتلك أثينا النسخة الأقدم منها وهي إس 300).
اليونان خدعت الوساطة الألمانية
على أن اليونان تتجاهل الإشارة إلى أن التحركات التركية في المياه المتنازع عليها جاءت بعد أن استجابت أنقرة لطلب برلين بوقف التنقيب في المناطق المتنازع عليها، مقابل تعهد الطرفين بحل المسألة سياسياً ودبلوماسياً، وذلك إثر تصعيد سابق كاد يصل لمواجهة بين البلدين في يوليو/تموز 2020، حسبما قالت صحيفة بيلد الألمانية الشعبية الواسعة الانتشار.
ولكن اليونان استغلت هذه المفاوضات التي أطلقت مع تركيا بوساطة ألمانية بعد هذه الحادثة لتمرير اتفاق ترسيم الحدود البحرية مع مصر، ثم عادت للاستغاثة بالاتحاد الأوروبي بعدما عاودت أنقرة إرسال سفنها للمياه المتنازع عليها بعدما نكثت أثينا بتعهداتها.
لماذا رفضت ميركل وقف صفقة الغواصات الألمانية التي تصنع في تركيا؟
ورفض ألمانيا لإفشال صفقة الغواصات ليس مفاجئاً؛ إذ يُعتقد أن قيمتها تبلغ 3.5 مليار دولار، وهو مبلغ ضخم مقارنة بإجمالي قيمة صادرات الأسلحة الألمانية البالغة 14 مليار دولار على مدى العشر سنوات الماضية. وتسيطر برلين على السوق العالمية للغواصات، على وجه الخصوص، بعد أن باعت أكثر من 120 منها إلى 17 بحرية منذ الستينيات.
على أن الدوافع المالية ليست الوحيدة؛ إذ أصبحت علاقة تركيا مع الاتحاد الأوروبي ومكانتها في حلف شمال الأطلسي (الناتو) من القضايا الخلافية العميقة؛ حيث تحرص فرنسا واليونان وقبرص على صد ما يزعمون أنه سلوك تركيا العدواني التوسعي. وعلى النقيض من ذلك، تريد ألمانيا- مثل إيطاليا وبولندا وإسبانيا- إنقاذ العلاقات مع أنقرة من الانهيار.
والهدف من هذا جزئياً إحكام السيطرة على الهجرة إلى أوروبا من الشرق الأوسط، حسب مجلة Economist البريطانية.
ويقول المسؤول اليوناني باستياء إن المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل "مهووسة" بهذه القضية.
وبعد قمة الاتحاد الأوروبي التي انعقدت في 24 يونيو/حزيران، قالت أنجيلا إن الاتحاد وافق على تقديم 3 مليارات يورو للمهاجرين في تركيا تُضاف إلى حزمة بقيمة 6 مليارات يورو نالت الموافقة عليها عام 2016. ورغم انخفاض أعداد المعابر غير القانونية من شرق البحر المتوسط بمقدار النصف، مقارنة بالعام الماضي، لا يزال يوجد أكثر من 3 ملايين لاجئ في تركيا.
وثمة اعتبارات أكبر لها دورها. وبعضها استراتيجي. إذ تعتبر ألمانيا تركيا حائط صد على الطرف الجنوبي لحلف الناتو، حيث تعيد روسيا فرض نفسها. والبعض الآخر داخلي. إذ تضم ألمانيا أكبر عدد من المغتربين الأتراك يصل عددهم إلى حوالي 3 ملايين شخص. تقول سينم أدار، من مركز دراسات تركيا التطبيقية في برلين: "علاقة ألمانيا بتركيا لا تقتصر على السياسة الخارجية، ولكنها أيضاً قضية داخلية".
وما يدعم موقف ألمانيا أن البحر المتوسط هادئ في الوقت الحالي. وحتى الآن، عقد حلف الناتو ست جولات من المحادثات بين القوات المسلحة اليونانية والتركية. وعادت المفاوضات بين البلدين حول حقوق الحفر والقضايا المتصلة به في وقت سابق من هذا العام، وإن كان تقدمها بطيئاً. وكان كيرياكوس ميتسوتاكيس، رئيس الوزراء اليوناني، قد التقى الرئيس التركي رجب طيب أردوغان على هامش قمة الناتو في 14 يونيو/حزيران.