فتح مقتل الناشط نزار بنات على أيدي عناصر من جهاز الأمن التابع للسلطة الفلسطينية ملف الدعم الأمريكي للسلطة، التي لا تتمتع بدعم شعبي ولا تفويض انتخابي، فهل أصبح دورها حماية أمن إسرائيل فقط؟
وتناول تقرير لمجلة Foreign Policy الأمريكية موقف إدارة الرئيس جو بايدن من السلطة ورئيسها محمود عباس، خصوصاً بعد حرب غزة الأخيرة التي أجبرت واشنطن على العودة مرة أخرى للتعامل مع القضية الفلسطينية، التي بدا أنها ليست على أجندة بايدن من الأساس.
فقد سعى رئيس وزراء إسرائيل السابق للبقاء في منصبه من خلال خطط تهجير عائلات فلسطينية من حي الشيخ جراح، وإغلاق باب العامود، وتكثيف الاعتداءات على المسجد الأقصى خلال شهر رمضان، دون أن تحرك السلطة الفلسطينية ساكناً، ومن ثم تصدّت فصائل المقاومة بقيادة حماس لمخططات الاحتلال لتهويد القدس، وأطلقت عملية "سيف القدس" التي انتهت بوقف إطلاق النار يوم 21 مايو/أيار الماضي بوساطة مصرية، بعد أن حققت المقاومة انتصاراً لم يكن يتوقعه أحد.
وقد أدّت تلك الحرب إلى حدوث تحول ضخم في الموقف الأمريكي والإسرائيلي بشأن التعامل مع السلطة الفلسطينية، التي كانت بمثابة الطرف الخاسر من هذه المعركة، بسبب تبنّيها لموقف محايد مما جرى في الضفة الغربية وغزة والقدس والداخل المحتل، بينما سجلت حركة حماس موقعاً متقدماً على مستوى تعزيز مكانتها في الشارع الفلسطيني وزيادة الثقة بمشروعها، وتحديداً في معقل السلطة الفلسطينية في مناطق سيطرتها في الضفة الغربية.
مقتل نزار بنات
لكن إدارة بايدن سارعت إلى تقديم الدعم للسلطة الفلسطينية، من خلال الاتصالات السياسية والتلويح بالدعم الاقتصادي والمعونات، سعياً إلى إنقاذ تلك السلطة برئاسة محمود عباس.
وفي 24 يونيو/حزيران، اعتُقِل نزار بنات، الناقد الصريح للسلطة الفلسطينية، من منزله في مدينة الخليل بالضفة الغربية. وبحسب أسرته، داهم أكثر من عشرين ضابطاً أمنياً في السلطة الفلسطينية المنزل، وضربوا نزار بقوة أمام زوجته وأطفاله الصغار قبل اقتياده بعيداً، وبعد أقل من ثلاث ساعات أُعلِنَت وفاته.
وأشعلت الحادثة عاصفةً من السخط الشعبي على السلطة الفلسطينية ورئيسها محمود عباس، وانطلقت مظاهرات كبيرة في الشوارع في الخليل ورام الله -مقر السلطة الفلسطينية- للمطالبة بإطاحته. وردّت قوات الأمن على الاحتجاجات بمزيد من العنف، لكنها لم تتمكن من تهدئة الاستياء المتصاعد ضد السلطة التي يقودها عباس.
ولم يكن اعتقال نزار بنات وقتله حادثة فردية، وبرغم أنه كان هدفاً ثابتاً للسلطة الفلسطينية لانتقاده إخفاقات قيادتها المتعددة، تأتي وفاته وسط حملة قمع أوسع للمعارضين والمنشقين في جميع أنحاء الضفة الغربية، بدأت في أواخر أبريل/نيسان.
وقبل أيام من مواجهة نزار القاتلة مع الأمن، اعتُقِل ناشط حقوقي بارز آخر من الخليل؛ عيسى عمرو، على يد مسؤولي الأمن بحجة أنه أهان مسؤولين حكوميين، وهي التهمة الشائعة في الدول البوليسية، التي لا يتوقف بايدن -المدافع عن حقوق الإنسان- عن انتقادها في خطاباته.
مواجهة المعارضين بالحديد والنار
ويبدو أنَّ موجة القمع جاءت رداً على التآكل السريع في الدعم للسلطة الفلسطينية، ولحركة فتح التي تهيمن على مؤسساتها، ولعباس البالغ من العمر 85 عاماً الذي يجلس على رأسها. ورغم أنَّ شعبيتها عامةً آخذة في الانخفاض لسنوات، لكن القرار الأخير الذي اتخذه عباس بإلغاء الانتخابات البرلمانية المرتقبة التي كان من المقرر إجراؤها في 22 مايو/أيار (وهي الأولى منذ 15 عاماً وكان بنات مرشحاً فيها)، بجانب التصورات واسعة النطاق عن ضعف السلطة الفلسطينية في مواجهة الطرد الإسرائيلي القسري للعائلات الفلسطينية من منازلهم في القدس الشرقية، واقتحام الحرم القدسي خلال شهر رمضان المبارك، أدت جميعها إلى تراجع الموقف العام من السلطة الفلسطينية إلى مستويات دنيا غير مسبوقة.
وأظهر استطلاع حديث أُجرِي في يونيو/حزيران، أنَّ 14% فقط من الفلسطينيين يؤيدون قيادة فتح، وهو تراجع مذهل في دعم الفصيل الذي قاد الحركة الوطنية الفلسطينية منذ الستينيات. وعلى النقيض من ذلك ارتفعت شعبية حركة المقاومة الإسلامية حماس في استطلاعات الرأي، بعدما بدأت في إطلاق الصواريخ من غزة على إسرائيل، دفاعاً عن القدس ضد العدوان الإسرائيلي.
ومع ذلك، فإنَّ نزعة الاستبداد في الأراضي الفلسطينية المحتلة في تصاعد منذ سنوات، وهي نتاج ليس فقط لنخبة سياسية فاسدة تخدم مصالحها الذاتية، بل أيضاً لسياسة أمريكية مناهضة للديمقراطية، تعمل بمثابة حصن لقيادة عباس الاستبدادية، وأجندة سياسية إسرائيلية أغلقت الباب أمام الاستقلال الفلسطيني، وقلبت السلطة الفلسطينية من حكومة دولة في طور التكوين إلى مُتعهِّد ثانوي للاحتلال، ومراقبة المراكز السكانية الفلسطينية، ومنع أي تحدٍّ لحكم الاحتلال الإسرائيلي.
وأجرت السلطة الفلسطينية انتخابات ديمقراطية آخر مرة في عام 2006. وفي ذلك الوقت أدى الانتصار غير المتوقع لحركة حماس -التي فازت بـ74 مقعداً من أصل 132 مقعداً- إلى قطع إسرائيل والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي العلاقات مع السلطة الفلسطينية على الفور؛ ما شكَّل ضغوطاً هائلة على عباس لقلب نتائج الانتخابات.
وفي النهاية، أدى ذلك إلى مواجهة قصيرة، لكن دموية، مزَّقت النظام السياسي الفلسطيني إدارياً بين السلطة الفلسطينية بقيادة فتح في الضفة الغربية وحركة حماس في قطاع غزة. ومنذ ذلك الحين تمكنت مجموعة صغيرة بقيادة عباس من احتكار السلطة المؤسسية وصنع القرار وحلّ البرلمان والتلاعب بالقضاء لخدمة مصالحها.
دعم غربي للسلطة الفلسطينية
وفي الوقت نفسه، واصل رعاة السلطة الفلسطينية الغربيون دعم المؤسسة وتمويل قواتها الأمنية وتدريبها، رغم النزعات الاستبدادية المتزايدة وانتهاكات حقوق الإنسان المُوثَّقة. علاوة على ذلك ومن أجل منع حماس من دخول السلطة الفلسطينية من جديد، ثبَّط هؤلاء الرعاة ضمنياً إعادة توحيد النظام السياسي وتجديده الديمقراطي.
ومع ذلك، فإنَّ النظر إلى السياسة الفلسطينية من خلال هذا المنظور الثنائي -إما فتح أو حماس- يتجاهل المشهد السياسي الأوسع الذي تشكَّلت فيه 30 قائمة حزبية جديدة، وتأهلت لخوض انتخابات 22 مايو/أيار، بما في ذلك الفلسطينيون الشباب الذين تعرضوا للإقصاء من الساحة السياسية طوال حياتهم.
وبالتالي، مع مرور الأيام، يبتعد مسؤولو السلطة الفلسطينية الذين لا يزالون في السلطة أكثر فأكثر عن التفويض الانتخابي. ومع عدم وجود تقدم نحو إنهاء تفاوضي للنزاع مع إسرائيل، واستراتيجية لتحرير الفلسطينيين من الاحتلال العسكري الإسرائيلي اللانهائي، فإنَّ ادعاءاتهم بالتمتع بالشرعية لم يعد لها أساس من التأييد الشعبي.
ومن أجل التمسك بالسلطة، أصبح عباس وحلفاؤه يعتمدون تدريجياً على القمع السياسي، ويوجهون القدرات القسرية للسلطة الفلسطينية، ليس فقط ضد أعضاء معسكر حماس المنافس، لكن ضد أية حالة معارضة من الجمهور. وفي استطلاع للرأي أُجرِي في مارس/آذار، قال 53% من الفلسطينيين في الضفة الغربية إنهم يشعرون أنهم لا يستطيعون انتقاد الحكومة دون خوف.
بيد أنه من المستحيل تجاهل دور الولايات المتحدة وغيرها في السماح باستمرار هذه التوجهات غير الديمقراطية. ففي ظل غياب عملية سلام قابلة للحياة، فإنَّ دعمها المستمر للسلطة الفلسطينية مدفوعٌ أساساً بالرغبة في الحفاظ على الاستقرار وضمان الأمن الإسرائيلي، دون اهتمام كبير بالتكلفة التي يتحملها الجمهور الفلسطيني فيما يتعلق بأمنه الإنساني وحرياته الأساسية.
ورغم أنَّ اتفاقيات أوسلو قد انهارت ولم تعد تخدم الهدف الأعلى المتمثل في تسهيل اتفاقية السلام، فإن التنسيق الأمني للسلطة الفلسطينية مع الجيش الإسرائيلي ظل شرطاً للدعم الغربي المستمر. وقد خلق هذا مناخاً من الإفلات من العقاب للسلطة الفلسطينية في تعاملها مع شعبها.
علاوة على ذلك، لا يخدم التنسيق الأمني للسلطة الفلسطينية إلا مصالح الإسرائيليين، بينما يواجه الفلسطينيون العاديون هجمات يومية من المستوطنين اليهود والجيش الإسرائيلي، وتُحرَق حقولهم وبساتينهم، وتُغتصب أراضيهم من أجل بناء المزيد من المستوطنات، وتُهدَم منازلهم بالجرافات، ولا يوجد من يحميهم.
ولا يقتصر الأمر على افتقار السلطة الفلسطينية القوة لحماية شعبها من هذه الهجمات فحسب، بل يضاف إلى ذلك أنها أصبحت جزءاً لا يتجزأ من الجهود المبذولة لقمعه. جدير بالذكر أنَّ مقر إقامة نزار بنات في الخليل يقع في "منطقة ج"، وهي منطقة خاضعة للسيطرة الإسرائيلية الأمنية والإدارية الكاملة؛ ما يعني أنَّ السلطة الفلسطينية تعيَّن عليها الحصول على إذن الجيش الإسرائيلي لدخول منزله، وأنَّ إسرائيل تعرف أنَّ التهديد الوحيد الذي يمثله هذا الناشط المناهض للفساد هو تهديد سياسي لعباس، وليس تهديداً أمنياً لإسرائيل.
لقد دفع هذا النموذج الأمني الأحادي الجانب العديد من الفلسطينيين إلى النظر إلى السلطة الفلسطينية على أنها مُتعهِّد فرعي للاحتلال الإسرائيلي وليست قناة تُوصلهم للحكم الذاتي.
إنَّ قمع النشطاء مثل بنات، واغتياله في النهاية، يخدم المصالح المحدودة للسلطة الفلسطينية المتمثلة في إبقاء المعارضة في مأزق، ومنع أي تحدٍّ محتمل لسيطرة قادتها الحاليين على السلطة؛ بل ويخدم أيضاً المصلحة الأوسع لإسرائيل من خلال الحفاظ على نواة قيادة في الجانب الفلسطيني، على استعداد لمواصلة لعب دور المقاول من الباطن، ربما إلى أجل غير مسمى.