لم يكن الـ13 شاباً الذين اجتمعوا سراً في عام 1921 في مدينة صينية خاضعة للاحتلال يعلمون أن المنظمة التي أسسوها للتو ستحكم خمس البشر، وتقود أكبر دولة سكاناً في العالم، واليوم في الذكرى المئوية لتأسيس الحزب الشيوعي الصيني يبدو أن الحزب يتطلع لما هو أكثر من حكم الصين.
ويحتفل الحزب الشيوعي الصيني اليوم الخميس 1 يوليو/تموز، بذكرى تأسيسه المئة، لكن احتفال هذا العام لا يقتصر مُراده على تمجيد الماضي، بل يتعلق أيضاً بترسيخ الحزب لمستقبله ومستقبل زعيمه، الرئيس الصيني شي جين بينغ.
ففي الذكرى المئوية لتأسيس الحزب الشيوعي الصيني، يتطلع الحزب الذي يتحكم في كل جانب من جوانب الحياة تقريباً داخل البلاد لإعادة تشكيل النظام العالمي بعد الحرب الباردة، بحسب The Guardian البريطانية.
سنحطّم رؤوس الأعداء
في سياق التحضير لاحتفالات الذكرى المئوية للحزب الشيوعي الصيني، قال الرئيس الصيني شي جين بينغ للجمهور في ميدان تيانانمين، إن الحزب هو القوة الوحيدة القادرة على ضمان صعود البلاد، وأصدر تحذيراً مثيراً ضد أي خصم يقف في الطريق، محذراً من تحطيم القوات الأجنبية إذا حاولت منع صعود بكين، حسبما نقلت عنه صحيفة The New York Times الأمريكية.
ولكن اللافت أنه في ظل النجاحات الاقتصادية والتكنولوجية التي تحققها الصين فإن الاحتفال يقوم على استحضار تاريخ في مرحلة كان الحزب الشيوعي الصيني شيئاً مختلفاً عما هو الآن.
فلقد حثَّ شي "الحزب وأعضاءه على استحضار روح الأيام الأولى للنضال في تلال مدينة يانآن، حيث قاد ماو تسي تونغ نضال التأسيس للحزب في الثلاثينيات".
شقَّ ماو وأتباعه الطرق بأيديهم، ونحتوا البيوت البدائية التي عاشوا فيها بمنحدرات الجبال، وقد أصبحت الآن مزارات سياحية للمؤمنين بالحزب والمبشرين به.
غير أن البيوت الشبيهة بالكهوف تبدو بعيدة كل البعد عن بكين اليوم، العاصمة الحديثة التي باتت تقام فيها الاحتفالات الوطنية، وناطحات السحاب الشاهقة في شنتشن وغيرها من مراكز التكنولوجيا الفائقة المنتشرة على الساحل، والتي تبدو أكثر رمزية إلى الصين اليوم، حسب وصف تقرير لصحيفة The Independent البريطانية.
ففي الاحتفال بالذكرى المئوية لتأسيسه، لجأ الحزب الشيوعي إلى هذا الماضي -على نحو انتقائي- لمحاولة ضمان مستقبله ومستقبل رئيسه الحالي شي، الذي ربما يتطلع، كما فعل المؤسِّس ماو، إلى الحكم مدى الحياة.
تقول إليزابيث إيكونومي، وهي باحثة بارزة في معهد هوفر بجامعة ستانفورد الأمريكية، إن "الحزب الصيني يعمد إلى ربط نفسه بكل إنجازات الصين في القرن الماضي، وينبذ صلته بأي من إخفاقاتها، وعن طريق ذلك يحاول شي حشد الدعم لرؤيته، ولما يراه حقه في قيادة الحزب وحق الحزب في حكم البلاد".
احتفالات الذكرى المئوية لتأسيس الحزب الشيوعي الصيني تحاول تجاهل الفترة المظلمة
وهكذا تركِّز احتفالات الذكرى المئوية لتأسيس الحزب الشيوعي الصيني على حقبتين مميزتين -النضالات المبكرة والإنجازات الأخيرة- لتُخفي وراءها ما يقرب من ثلاثة عقود في عهد ماو الممتد من الخمسينيات إلى السبعينيات، عندما خلَّفت سياساته الاجتماعية والاقتصادية الكارثية في أغلبها ملايين من القتلى وأفقرت البلاد.
لتحقيق غايته، أقام الحزب حفلاً رائعاً في الهواء الطلق، حضره شي في بكين ليلة الإثنين 28 يونيو/حزيران، لإحياء المسيرة الطويلة لمؤسسي الحزب في ثلاثينيات القرن الماضي، ثم الانتقال إلى فقرة يُستعاد فيها أناشيد الحزب الأولى يغنيها رجال يحملون مفاتيح عملاقة ونساء يحملن أكياساً من القمح، لكن الاحتفالية سلطت الضوء على الحاضر أيضاً، باستدعائها لقوات خاصة تتسلق جبلاً وعاملين طبيين يكافحون وباء كورونا ويرتدون ملابسهم الواقية.
يقول جوزيف فيوسميث، أستاذ السياسة الصينية بجامعة بوسطن الأمريكية، إن الحزب الشيوعي لطالما عوَّل على تاريخه لتبرير حقه في حكم البلاد.
يجادل مؤيدو الحزب الشيوعي بأن الصين وصلت إلى ما هي عليه اليوم فقط تحت قيادتها. سيساعد الحزب -كما تقول الرسالة- في تحقيق تجديد شباب الأمة الصينية. إنه ما أطلق عليه شي "حلم الصين".
لكن في بلد يبلغ تعداد سكانه 1.4 مليار نسمة، لا يوجد "حلم صيني" موحد، ولا نسخة واحدة من تاريخ الحزب. يقول المؤرخ سون بيدونغ: "في الوقت الذي تكون فيه الرقابة جزءاً من التجربة اليومية للشعب الصيني، فإن قلة من المؤرخين يعرفون بالفعل كل تاريخ الحزب". "من الصعب الحصول على مواد تاريخ الحفلات كباحث في التاريخ في الوقت الحاضر. من الصعب معرفة ما كانت عليه السنوات المئة الماضية حقاً"، حسبما ورد في تقرير The Guardian.
من يحاول فهم التاريخ عليه مغادرة البلاد
في الأول من يوليو/تموز، وهو اليوم الذي يبدأ فيه الحفل، ستبدأ صن وظيفة جديدة في جامعة كورنيل في الولايات المتحدة، بعد أن غادرت الصين العام الماضي.
بالنسبة لمؤرخة صينية، يؤلمها عدم قدرتها على القيام بالعمل الذي تقوم به في بلد ولادتها وبلغتها الأم.
صن التي كانت تعمل في جامعة شنغهاي هي واحدة من عدد متزايد من الأكاديميين الصينيين الذين تم نبذهم في الصين اليوم بسبب تفسيرهم للتاريخ.
وفي الفترة التي تسبق الذكرى المئوية للحزب كثفت السلطات جهودها لتشكيل ما يسميه شي "النظرة الصحيحة للتاريخ".
في تجربة صن، كان هذا مشروعاً طويلاً في طور الإعداد. انقلبت حياتها رأساً على عقب في عام 2015، عندما تكثفت الرقابة في الأوساط الأكاديمية، لاسيما في موضوعها، ثورة ماو تسي تونغ الثقافية، وهي الحملة السياسية التي استمرت عقداً من عام 1966 إلى 1976، والتي يصفها الحزب نفسه الآن بأنها "خطأ كامل".
يذكّر التغيير في اللهجة الرسمية والمزاج السائد بين زملائها صن بتلك الحقبة من الثورة الثقافية، وتزعم أنها مُنعت من النشر باللغة الصينية المبسطة في المجلات الأكاديمية. على الإنترنت، اتهمت بأنها تعرضت لـ"غسل دماغ من قبل الغرب".
ثورة حتى على المدرسين
والثورة الثقافية، حركة تطهير اجتماعي وسياسي عنيفة في الصين من عام 1966 حتى عام 1976. أطلقها ماو تسي تونغ، رئيس الحزب الشيوعي الصيني ومؤسس جمهورية الصين الشعبية، كان هدفها المعلن هو الحفاظ على الشيوعية الصينية من خلال تطهير بقايا العناصر الرأسمالية والتقليدية من المجتمع الصيني، وإعادة فرض فكر ماو تسي تونغ (المعروف خارج الصين باسم الماوية)، باعتباره الأيديولوجية المهيمنة في جمهورية الصين الشعبية، وكانت ثورة على أي مظهر من مظاهر السلطة التقليدية.
أضرت الثورة الثقافية باقتصاد الصين وثقافتها التقليدية، حيث قدر عدد القتلى بمئات الآلاف إلى 20 مليوناً، فضلاً عن نهب المواقع الثقافية والدينية، وحدث انهيار سد بانكياو عام 1975، وهو أحد أكبر الكوارث التكنولوجية في العالم، وتعرض عشرات الملايين من الناس للاضطهاد: تم تطهير أو نفي كبار المسؤولين، وأبرزهم الرئيس الصيني ليو شاوقي، إلى جانب دينغ شياو بينغ (الذي تولى السلطة بعد ذلك)، تم إرسال أكثر من 10 ملايين شاب من المثقفين الحضريين إلى الريف.
أثرت آثار الثورة الثقافية بشكل مباشر أو غير مباشر على جميع سكان الصين بشكل أساسي، حيث توقف الكثير من النشاط الاقتصادي، وكانت الحالة الثورية، بغض النظر عن التفسير، الهدف الأساسي للبلاد. وأصبح فكر ماو تسي تونغ هو الدليل العملي المركزي لكل الأشياء في الصين. وتجاوزت سلطة الحرس الأحمر الثوري سلطة جيش التحرير الشعبي، وسلطات الشرطة المحلية، والقانون بشكل عام. تم تجاهل الفنون والأفكار الصينية التقليدية وهوجمت علناً، مع الثناء على ماو الذي يمارس في مكانهم، تم تشجيع الناس على انتقاد المؤسسات الثقافية واستجواب آبائهم ومعلميهم، الأمر الذي كان ممنوعاً تماماً في الثقافة الصينية التقليدية.
وشملت أعنف جوانب الحملة حوادث التعذيب والقتل والإذلال العلني، كثير من الأشخاص الذين اتهموا بأنهم أعداء للثورة ماتوا منتحرين، خلال أغسطس/آب عام 1966 المعروف باسم الأحمر، قُتل في بكين وحدها 1772 شخصاً، وكان العديد من الضحايا مدرسين تعرضوا للهجوم والقتل على أيدي طلابهم.
لن يتحولوا إلى الديمقراطية لأنهم لا ينسون درس الاتحاد السوفييتي
يعد تعزيز الحزب الصيني لشرعيته أمراً بالغ الأهمية له، لاسيما أن الحزب يحكم الصين منفرداً منذ أكثر من 70 عاماً، ضمت في طياتها سنوات الفوضى تحت حكم ماو، وانهيار الاتحاد السوفييتي والتبني غير المتوقع لإصلاحات السوق، التي بنَت بمرور الوقت قوة اقتصادية هائلة، إلا أن ذلك لا يمنع أن ملايين من سكان البلاد ما زالوا يعيشون في فقر.
اعتقد كثير من صانعي السياسة والمحللين الغربيين أن الرأسمالية ستحول الصين إلى دولة ديمقراطية مع ازدهار شعبها، على غرار الديكتاتوريات السابقة مثل كوريا الجنوبية وتايوان.
لكن الحزب الشيوعي صدم هذا الرأي، واتخذ منعطفاً حاسماً ضد الديمقراطية عندما شنَّ حملة قمعٍ واسعة النطاق على المحتجين المطالبين بالديمقراطية في ميدان تيانانمن بالعاصمة بكين في عام 1989، ثم سحق أي تحديات لحكم الحزب الواحد في العقود التالية، وكان آخر تلك الحملات حملته الأخيرة للقضاء على المعارضة في هونغ كونغ، بعد احتجاجات مناهضة للحكومة في عام 2019.
ويقول تشانغ تشي، الباحث بمعهد تاريخ الحزب الشيوعي الصيني وآدابه، إن قادة الحزب تلقوا الدرس من الاتحاد السوفييتي، بعد أن رأوا بأعينهم كيف فقد الشيوعيون سلطتهم بعد فتح الباب أمام التعددية، حسبما ورد في تقرير لصحيفة The Independent البريطانية.
ورغم أن الثروة المكتشفة حديثاً في الصين أعطت الحزب الوسائل لبناء شبكة سكك حديدية عالية السرعة، وبنية تحتية أخرى مهيأة للتحديث في الداخل ولاستعراض القوة في الخارج، عن طريق برنامج عسكري وفضائي قوي، فإن الصين لا تزال دولة ذات دخل متوسط، لكن حجمها يجعل اقتصادها ثاني أكبر اقتصاد في العالم، ويضعها على مسار منافسة الولايات المتحدة كقوةٍ عظمى.
في غضون ذلك، ضاعفت الصين من تكتيكاتها القمعية، وعمدت إلى القضاء على أي معارضة من منتقدي سياساتها، وإلى الدمج القسري لاستيعاب الأقليات العرقية التي حاولت الحفاظ على عاداتها وتقاليدها في مناطق، مثل التبت وشينغيانغ ذات الأغلبية المسلمة.
ومن المرجح أن تبث احتفالات الذكرى المئوية لتأسيس الحزب الشيوعي الصيني العام رسالة مفادها أن الحزب أوصل الصين إلى هذا الحد، وأنه وحده قادر على الارتقاء بالأمة في درب المجد، وهي الحجة الأساسية التي يحاجج بها للبقاء في الحكم.
ويبدو أن شي يفكر أيضاً في فترة رئاسية ثالثة لمدة 5 سنوات، تبدأ في عام 2022، بعد أن ألغى الحزب بندَ الاقتصار على مدتين.
يقول ألكسندر هوانغ، وهو أستاذ بجامعة تامكانغ، إن الذكرى المئوية هي في الوقت نفسه معيار لقياس المدى الذي قطعته البلاد، ولحظة فارقة للحزب ورئيسه شي في طريقهم للتحرك نحو أهدافهم لعام 2049، التي تصادف مرور 100 عام من حكم الحزب الشيوعي للبلاد.
الهدف قيادة العالم، ولكن داخل البلاد هناك من يرفض هذه الطاحونة
يشير هوانغ إلى أن الهدف المعلن هو توفير متطلبات الرفاهية الأساسية لجميع السكان، وأن تصبح الصين قائدة للعالم تتمتع بقوة وطنية ونفوذ دولي.
ويقول: "إن التحدي الأكبر للقيادة الصينية اليوم هو بلوغ هذا الهدف"، لاسيما في ظل التوترات المتزايدة مع البلدان الأخرى، وارتفاع مستويات الشيخوخة بين السكان، والتحديات المتعلقة بجيل الشباب، الذي كما في أي مكان آخر يرفض معايير الانسياق إلى طاحونة كسب العيش بلا أفق في تغيير أو حق في إبداء الرأي.
ومع ذلك، فإن قدرة الحزب على التطور واستدامة حكمه لفترة طويلة، وإن كانت تُعزى جزئياً إلى تفوقه في قمع المعارضة، فإنها تشير إلى أنه قد يظل مسيطراً سيطرة جيدة حتى قرنه الثاني. ورغم أن الحزب الصيني يصر على أنه لا ينوي تصدير نموذجه إلى دول أخرى، فإن استمرار صعوده قد يشكِّل تحدياً للنموذج الديمقراطي الغربي، الذي انتصر في الحرب الباردة وفرض هيمنته على عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية.