"إنقاذ لبنان مسؤولية اللبنانيين، وليس المجتمع الدولي"، هكذا علقت مسؤولة أممية على الأزمة في لبنان في وقت يستمر التصلب السياسي لقيادته وتتواصل عمليات النهب، فيما يصف البنك الدولي الكارثة الاقتصادية في البلاد بأنها واحدة من أسوأ 10 أزمات عالمية اقتصادية منذ منتصف القرن الـ19.
وتفاقمت أزمة الكهرباء في لبنان في الشهر الماضي، عندما توقفت عن العمل باخرتان كانتا تمدان البلاد بالطاقة. وكانت النتيجة انقطاع الكهرباء في غالبية المنازل لست ساعات، أو الحاجة إلى مزيد من وقود المولدات للأشخاص الذين يستطيعون تحمل تكاليف استخدامه، حسبما ورد في تقرير صحيفة The Guardian البريطانية.
لكن إمدادات الوقود هي الأخرى شحيحة في البلد الذي يعاني من أزمة؛ إذ تسد الطوابير الطرق بالقرب من محطات الوقود، وتصل أقصى كمية مسموح بها لـ20 لتراً، مما يجعل غالبية الرحلات محفوفة بالمخاطر.
في نهاية الأسبوع الماضي، انتشرت القوات في مدينة طرابلس الواقعة شمال لبنان، وأحاطت بالمؤسسات الحكومية بعد ليلة شهدت احتجاجات وأعمال شغب ضد سوء الظروف المعيشية، مما أدى إلى إصابة 10 جنود والعديد من المحتجين. وحتى الأدوية والمستلزمات الطبية صارت شحيحة هي الأخرى، وكثير من الأمراض الحادة لا تجد العلاج.
دولة ترفض إنقاذ نفسها
يرى العديد من اللبنانيين أن هذه الأزمات تنطوي الآن على العفن الكامن في قلب الدولة، الذي لا يزال قوياً كما كان دائماً حتى بعد 18 شهراً من أولى إشارات الأزمة الاقتصادية للبلاد. وبينما يتفكك لبنان، فإن الدبلوماسيين وقادة المساعدات والمسؤولين الدوليين، بل حتى بعض القادة المحليين، يتأملون قابلية استمرار دولةٍ ترفض إصلاح نفسها، حتى لو كان هذا الإصلاح بهدف إنقاذها.
بعد حوالي 11 شهراً من كارثة انفجار مرفأ بيروت التي وقعت في أغسطس/آب الماضي، لم يكن هناك أي تقدم مُحرز على صعيد محاولات إصلاح الحكومة، حتى عندما تسبب التضخم المفرط وانهيار النظام المصرفي في تدمير المدخرات، وعندما ارتفعت معدلات انعدام الأمن الغذائي وتسارعت وتيرة هجرة الكفاءات.
قالت نجاة رشدي، نائبة المنسق الخاص للأمم المتحدة في لبنان ومنسقة الشؤون الإنسانية: "الانفجار سرّع كثيراً من الأمور وذلك بكل تأكيد. إذ إن الأزمة في الاقتصاد، وخفض قيمة العملة، إضافة إلى الفراغ الإداري، أدت إلى انهيار الخدمات العامة في وقت كانت هناك حاجة ماسة لها".
وفي ربوع لبنان، صعد الفقر المدقع ثلاثة أضعاف منذ إشاراته الأولى قبل عامين تقريباً عندما كان الاقتصاد على شفا الانهيار. وللعديد من الأسر، كانت الخدمات الأساسية، بما فيها الصحة والكهرباء والمياه والإنترنت والتعليم، بعيدة المنال تقريباً، لكن هذا لم يؤثر كثيراً على نوايا الساسة الرامية لحماية نظام المحسوبية الذي يسير على طول الخطوط الطائفية التي تقوض الحكم الكفء على مدى عقود من الزمان.
ما زال الساسة في البلاد عاجزين عن التفاهم حول الحقائب الوزارية والحصص، ويجسد موقفهم المتصلب اختباراً للواقع بالنسبة لآمال إمكانية إدارة الوزارات في المستقبل بوصفها مؤسسات، بدلاً من إدارتها على أنها إقطاعيات.
ولكن بينما كانت الهيئات العالمية والحكومات الدولية ترغب بدرجة كبيرة أن تدعم لبنان خلال الأزمات الماضية- التي كانت أخف بكثير- فإن الكارثة هذه المرة يُعتقد أنه يمكن تجنبها؛ إذ إنها قضية حكم أكثر من كونها قضية إنسانية، حسب وصف The Guardian .
ما زال قادة لبنان معتقدين أن العالم سينقذهم
قالت نجاة رشدي: "إن تنمية لبنان هي مسؤولية اللبنانيين. تنمية لبنان ليست مسؤولية المجتمع الدولي".
كان من الصعب ابتلاع مثل هذه الفظاظة بالنسبة لزعماء الحرب الأهلية والموالين لهم، الذين لا يزالون يسيطرون على شؤون البلاد؛ إذ إن فرنسا، التي دعمت لبنان منذ عهد طويل، أبلغت كبار المسؤولين مراراً وتكراراً أن المساعدات لن يبدأ إرسالها إلا بعد تطبيق الإصلاحات، مثل الشفافية ومراجعة حسابات البنك المركزي.
قال أحد الوزراء المكلفين في لبنان: "ما زالوا يعتقدون أن هناك حزمة إنقاذ قادمة؛ لأنهم يرون أن المجتمع العالمي إنسانيون علمانيون لن يتركونا نسقط. ماذا إذا كانوا مخطئين؟ هل نغرق جميعاً مع السفينة، والأشرار يحصلون على طوق نجاة نحو فرنسا؟"
وحتى ذلك الاحتمال يبدو غير محتمل على نحو متزايد. فبعد أن انهار سعر الليرة اللبنانية ووصل إلى 16 ألف ليرة مقابل الدولار، وبعد أن انهار كذلك الاحتياطي النقدي ووصل إلى مستويات حرجة، ثمة مزيد من الاستعداد داخل وخارج لبنان لفحص النظام الذي مهد الطريق أمام هذه الفوضى.
السلع تهرَّب لسوريا وأزمة الوقود احتيالية
يُسلَّط مزيد من الضوء على المخططات التي ملأت جيوب الطبقة السياسية وعدد من الشخصيات الأخرى غير الخاضعة للمساءلة، ومن بينهم بعض كبار المسؤولين الأمنيين. كانت العقود الأساسية للبنان- التي تغطي واردات الوقود وتوليد الكهرباء والاتصالات والقياسات البيومترية وجوازات السفر- من بين أكبر مصادر الفساد في البلاد.
قال المسؤول الوزير المكلف: "مؤخراً، صار بيع السلع المدعومة إلى سوريا (عن طريق البنك المركزي هو أحد مصادر الفساد)، ولا سيما النفط والأدوية. يحدث كل هذا على مرأى البصر".
وصف أحد الدبلوماسيين الأوروبيين أزمة الوقود بأنها عملية احتيالية؛ إذ قال: "ليس هناك شح في الوقود. بل يُبقي الموردون المحليون عليه على متن السفن لتكون طريقة لزيادة هوامش الربح، ويجري شحنه إلى سوريا؛ حيث يُباع بأسعار أعلى مما يمكن أن يحققوه في الأسواق المحلية. هوامش الربح تدخل جيوب جميع الأطراف".
وأضاف: "الأنظمة والأشخاص الذين قادونا نحو هذا المسار، هم أنفسهم الذين يُفترض أن يُخرجوننا منه. لكنهم لا يريدون. لا تستطيع حل مشكلة ترفض أن تُحلّ".
نادى بعض الساسة اللبنانيين، ومن بينهم سامي الجميل الذي استقال من البرلمان في أعقاب انفجار مرفأ لبنان، باللامركزية الإدارية في لبنان وإصلاح البرلمان والقوانين التشريعية.
والساسة أحياناً يغطون بعضهم وأحياناً يتصارعون
صحيحٌ أن المستنقع السياسي الذي تقع فيه البلاد لم يجلب التغيير بعد، لكن هناك إشارات على أن قادة لبنان بدأوا يستشعرون شدة الموقف. فرضت الولايات المتحدة عقوبات على وزير الخارجية السابق جبران باسيل، وهو مرشح لأن يحل محل حماه ميشال عون، في منصب الرئيس. وألمحت فرنسا والاتحاد الأوروبي إلى أنهما قد يتبعان نفس المسار مع قادة آخرين، ومن بينهم حاكم مصرف لبنان، رياض سلامة.
قال الوزير المكلف: "حتى هذه المرحلة يعطي كل منهم غطاءً إلى الآخر. جميعهم يعرفون أي صفقات فاسدة أغنت أي جماعة، ويعلمون نقاط ضعف بعضهم بعضاً".
ومع ذلك، داهم قاض موال لباسيل في شهر مايو/أيار الماضي دار تمويل تعمل باسم سلامة، الذي يعد مقرباً من رئيس مجلس النواب النافذ نبيه بري. وبعد أسابيع، فتح قاض موال لبري تحقيق فساد حول عقد بين شركة تركية مسؤولة عن بواخر تمد الطاقة، وبين وزارة الطاقة التي يديرها باسيل. وفي أعقاب ذلك انقطعت الكهرباء، بعد أن ادعت الشركة أن الحكومة مدينة لها بـ200 مليون دولار متأخرات، وزعم المدعي المالي وجود مخالفات منتشرة على مدى سنوات.
قال صهيب الزغيبي، وهو تاجر من بيروت: "كان هناك وقت عندما كنا نحن اللبنانيين نقول ما دامت البلاد مستمرة، سوف ننظر إلى الجانب الآخر. ولكن إنها نهاية الزمان، فلقد تبين أن هذه هي النهاية الطبيعية للإفلات من العقاب".