مع اقتراب موعد الانسحاب الأمريكي تستعد دول جوار أفغانستان لحالة الفراغ المتوقعة هناك، وتتراوح جهودها بين محاولة إيجاد موطئ نفوذ لها ومحاولة اتقاء مخاطر الاضطرابات المحتملة، خاصة في حال تحقيق طالبان مزيداً من النفوذ.
ومع توقع سحب جميع القوات الأمريكية من أفغانستان بحلول 11 سبتمبر/أيلول 2021، تنشط الجهود من قِبل الدول الإقليمية المعنية بأفغانستان للتوصل إلى إجماع حول التحديات الأمنية المشتركة، حسبما ورد في تقرير لموقع Atlantic Council الأمريكي.
دول جوار أفغانستان قلقة من العنف
فهذا البلد الفقير الجبلي المشهور بشعبه الصلب وغير المتجانس، يقع بين عدد من الدول الإقليمية الكبرى مثل باكستان وإيران وبجوار أو ليس ببعيد عن قوى عظمى أو شبه عظمى مثل الصين (التي لديها حدود قصيرة مع أفغانستان)، وروسيا والهند، كما ظهرت تركيا كلاعب جديد بعد عرضها على الولايات المتحدة حماية مطار كابول.
ووفقاً لوتيرة الانسحاب الغربي، قد تغادر القوات الأمريكية وحلفاؤها بحلول نهاية يوليو/تموز 2021، حسبما نقل تقرير لموقع EurAsian Times عن صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية.
وسلط العديد من الخبراء الأمنيين والمسؤولين الأمريكيين الضوء على الحاجة إلى حماية أفغانستان من الانزلاق في دوامة العنف وأن تصبح أرضاً خصبة للجماعات الإرهابية، وسط قلق وعدم يقين بشأن مواقف طالبان وعلاقاتها مع هذه الجماعات.
ومؤخراً، التقى الرئيس الأفغاني أشرف غني بالرئيس الأمريكي جو بايدن في واشنطن؛ لاستئناف الحوار بين الأفغان، على أمل إنهاء عنف طالبان وإبرام اتفاق سلام.
وبينما طمأن بايدن، غني وأبناء بلاده بأن "الولايات المتحدة ستبقى معهم" وسط تدهور الأوضاع، فإن الفراغ السياسي بعد الانسحاب الأمريكي أمر لا مفر منه.
الترويكا الباكستانية – التركية – الإيرانية
يُعتقد أن اللاعبين الرئيسيين الثلاثة في جوار أفغانستان الذين سيصبح لهم اليد العليا في التأثير على الأوضاع السياسية والأمنية في دولة ما بعد الانسحاب، هم: باكستان وإيران وتركيا، حسب EurAsian Times.
تتشارك الدول الثلاث علاقات مركبة، بعضها مع بعض، تجمع بين التنافس والتنسيق (خاصةً تركيا مع إيران، والأخيرة مع باكستان)، وتعتبر أفغانستان بالنسبة لباكستان وتركيا تحديداً، بوابة إلى آسيا الوسطى الغنية بالموارد، بينما لدى إيران حدود مباشرة مع آسيا الوسطى.
باكستان متهمة بدعم طالبان ولكن تخشاها
لا تعتبر باكستانُ أفغانستانَ شريكاً استراتيجياً فحسب، بل تعتبر أيضاً أرضية لإبطال مكاسب الهند في الجوار.
تُتهم باكستان بإيواء مسلحي طالبان بعد أن أطاحت الولايات المتحدة بالحكومة التي تقودها طالبان عام 2001 في مخابئ قرب الحدود القبلية.
ورغم علاقتها المحتملة مع طالبان، فإن باكستان حذرة من حكومة قوية بقيادة طالبان، من المرجح أن تتطفل على الاستقرار في باكستان وتتحدى أمنها القومي، حسب موقع EurAsian Times.
سبق أن ألهمت طالبان تمرداً داخل باكستان قادته ما يعرف بطالبان باكستان، كما أن حكومة قوية في أفغانستان يقودها البشتون أكبر عرقية بأفغانستان والتي تنتمي إليها طالبان، قد تعني عودة إثارة القلق حول الأراضي البشتونية في باكستان.
يشير المحللون أيضاً إلى أنَّ رفض باكستان الصريح للقواعد العسكرية الأمريكية في البلاد يرجع على الأرجح إلى ضغوط من الصين وإيران، بينما تقول إسلام آباد إنها تخشى انتقام طالبان وبقية الجماعات المتشددة.
إيران تتطلع إلى نصيب من النفوذ في أفغانستان وتقليل الخسائر
يمثل الانسحاب الأمريكي من أفغانستان فرصة ومخاطرة بالنسبة لإيران.
فإيران سعيدة باستبدال خصمها اللدود الولايات المتحدة، وستحاول الاستفادة من ذلك في تعزيز وجودها بالمنطقة.
إضافة إلى رغبتها في حماية أقلية الهزارة الشيعية بأفغانستان والاستفادة منها، تأمل إيران بناء روابط أمنية مع الحكومة الأفغانية، وهي بطبيعة الحال تقلق من طالبان المعادية لإيران الشيعية لأسباب مذهبية.
في حالة قيام دولة طالبان أو تمزُّق أفغانستان، سيتعين على إيران مواجهة تهديدات الأمن القومي التي تلوح في الأفق وتدفق اللاجئين الأفغان.
وقال وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف: "الفراغ بأفغانستان وصفة لحرب جديدة، ونحن في المنطقة لا نستطيع أن نتسامح مع ذلك، ومع وجود 3 ملايين لاجئ أفغاني بإيران، لا يمكننا تحمُّل مزيد من العبء".
وتعتبر إيران واحدة من أكثر الفاعلين الإقليميين نفوذاً في أفغانستان، وهي دائماً ما ترى في أفغانستان تهديداً لأمنها، ولكنها أيضاً فرصة لتوسيع التجارة وإمكانية الوصول إلى الأسواق الأفغانية وآسيا الوسطى.
لم ترغب إيران قط في وجود أمريكي طويل الأمد بأفغانستان، واستهدفت الولايات المتحدة بكل من القوتين الناعمة والصلبة. عارضت إيران الاتفاقية الأمنية الثنائية التي تم التفاوض عليها بين أفغانستان والولايات المتحدة، بينما دعمت أيضاً المتمردين المناهضين للولايات المتحدة. لطهران مصالح أمنية كبيرة في أفغانستان، وقد قاتلت ولاية خراسان الإسلامية التابعة لـ"داعش" هناك من خلال إرسال "لواء فاطميون"، الذي جند مقاتلين أفغاناً شيعة في الماضي.
ستسعى إيران جاهدة للحفاظ على وصولها إلى السوق الأفغانية، وتعزيز الأيديولوجية الشيعية هناك، والتصدي للتهديدات العابرة للحدود الوطنية مثل التشدد وتهريب المخدرات والتمرد، وتميل إيران إلى العمل بهدوء في البلاد، باستخدام القوة الناعمة لنشر نفوذها، حسب موقع Atlantic Council .
مع انسحاب القوات الأمريكية، سيكون لإيران نفوذ مباشر أكبر في أفغانستان، وستهدف إلى حماية مصالحها من خلال بناء تحالفات مع القوى الإقليمية، خاصةً الصين وروسيا.
تركيا تراهن على علاقة وثيقة مع الجميع
تتطلع تركيا إلى توسيع وجودها ولعب دوراً أكبر في المنطقة.
ورغم أنه ليست لديها حدود مع أفغانستان، فإنه قد يكون لها ثقل، لعدة أسباب، فهي الدولة الإسلامية الوحيدة العضوة في الناتو ولديها أواصر عرقية وثقافية مع الأوزبك، إحدى عرقيات أفغانستان المهمة.
كما أن تركيا بما أنها دولة إسلامية ويحكمها حزب إسلامي الجذور، فإن لديها قدرة أكبر على إقامة علاقات قوية مع المجتمع والحكومة في أفغانستان، وحتى المعارضة، وضمن ذلك طالبان، التي رغم اعتراضها حتى الآن على الوجود التركي، فإنها يمكن أن تتعامل معه بشكل مختلف عن الوجود الغربي.
وبالنسبة لتركيا، فإن هدفها ليس تقديم خدمة للأمريكيين مقابل تسهيلات في أماكن أخرى فقط.
ولكن بالنسبة لأنقرة، أفغانستان مهمة لتعزيز نفوذها في منطقة تراها امتداداً عرقياً وثقافياً لها ولكن الجغرافيا فصلتها عنه، وهي منطقة آسيا الوسطى.
فأفغانستان هي الجار الملاصق لجمهوريات آسيا الوسطى، البلدان التي تنظر إليها تركيا باعتبارها أشقاء في الأخوة التركية، فهي كلها تتحدث لغة من لغات المجموعة التركية باستثناء طاجيكستان.
ومنذ استقلال هذه الجمهوريات تحاول تركيا تعزيز علاقتها بها، ووجود نفوذ تركي في أفغانستان سوف يعزز هذا المسعى، ومما يعزز موقف أنقرة أيضاً علاقتها الوثيقة مع باكستان.
وسيؤدي الوجود التركي في أفغانستان إلى إضافة ساحة جديدة للعلاقة المركبة بين أنقرة وإيران وروسيا، التي تجمع بين التنافس والتنسيق، مثل القوقاز وسوريا وليبيا (في الأخيرة تتنافس تركيا وروسيا ودول أخرى).
وأجرت تركيا حواراً ثلاثياً مع إيران وأفغانستان؛ لإعادة تأكيد "عملية سياسية شاملة يقودها ويملكها الأفغان".
وعززت تركيا نفوذها الدبلوماسي والأمني من خلال إرسال قوات وتدريب جنود أفغان كجزء من أنشطة قوات التحالف الغربي.
بعد وصول محادثات الدوحة إلى طريق مسدود، عرضت تركيا التوسط وإجراء حوار سلام مع طالبان في أبريل/نيسان 2021.
في لقاء بايدن وأردوغان الأخير، عرضت تركيا توفير الأمن لمطار كابول بعد الانسحاب، وهو نقطة الدخول والخروج الرئيسية للمسؤولين رفيعي المستوى والموظفين الدبلوماسيين وعمال الإغاثة.
ولكن بقاء تركيا في أفغانستان ليس مضموناً، إذ تريد دعماً سياسياً ومالياً ولوجيستياً من الولايات المتحدة، وقال وزير الدفاع التركي خلوصي أكار، إنه "إذا تم الوفاء بهذه الأمور، فيمكننا البقاء في مطار حامد كرزاي الدولي".
ومع ذلك، تنظر طالبان إلى وجود تركيا على أنه انتهاك لاتفاقية الدوحة لعام 2020، والتي بموجبها يتعين على القوات التركية كجزء من قوات الناتو، الانسحاب بالكامل. وعارضت طالبان أيضاً عرض تركيا حراسة مطار كابول، مشيرة إلى أن أمن مطار كابول "مسؤولية الأفغان".
وقالت طالبان إن الجنود الأتراك ينتمون لأمة عظيمة ولكن إذا بقوا في أفغانستان فسيصبحون قوة احتلال.
وأضافت: "إن وجود قوات أجنبية تحت أي اسم أو بأي دولة في وطننا غير مقبول للشعب الأفغاني والإمارة الإسلامية (ما سمته طالبان الدولة أثناء حكمهم في 1996-2001)".
روسيا والصين سعيدتان وقلقتان
بطبيعة الحال، تبدو روسيا والصين سعيدتين بالانسحاب الأمريكي، ولكنهما قلقتان من عدم الاستقرار وتزايد نفوذ طالبان.
وعلى الرغم من عدم رغبة أي من الدولتين في وجود إمارة إسلامية قريبة، فإنهما قد تتقبلان مثل هذا النظام إذا كان يخدم مصالحهما، وهذا يتطلب الحفاظ على العلاقة مع طالبان، حسب Atlantic Council.
وتركز روسيا على التهديدات التي تواجهها من انعدام الأمن والتطرف الديني والمخدرات في أفغانستان.
تريد روسيا ودول آسيا الوسطى التأكد من أن التمرد في أفغانستان بعد انسحاب الولايات المتحدة أو عدم الاستقرار السياسي لن يعبر حدودهم.
من المرجح أن تجد روسيا طرقاً للعمل مع طالبان، التي يتوقع كثيرون أن تتولى السلطة (سواء بشكل رسمي أو غير رسمي) في أفغانستان الجديدة.
سيسمح الانسحاب الأمريكي والفراغ المحتمل في القوة الذي ينتج في المنطقة لروسيا بإنشاء موطئ قدم جيوسياسي في أفغانستان. لهذا الغرض، بدأت بالفعل في بناء علاقات مع الفصائل السياسية الأفغانية. لا تزال روسيا تعتبر نفسها قوة مهيمنة إقليمية وتعتبر رحيل الولايات المتحدة فرصة لتنشيط دورها وتوسيع قوتها من خلال بناء تحالفات في المنطقة، لاسيما مع الصين.
أما الصين فيمكن تحقيق مصلحة رئيسية لها عبر تأمين المكاسب الاقتصادية من خلال استخدام موقع أفغانستان كحلقة وصل إقليمية إما في مبادرة الحزام والطريق وإما في الممر الاقتصادي بين الصين وباكستان. إضافة إلى ذلك، منذ عام 2007، كانت الصين تبحث عن طرق لاستخراج الثروة المعدنية الهائلة لأفغانستان، الأمر الذي يتطلب الأمن والبنية التحتية للمواصلات. لا شيء من هذا ممكناً بدون أفغانستان مستقرة، لذلك لا تزال الصين تقيّم المشهد السياسي في أفغانستان وما يمكن أن تكسبه من اتفاق السلام.
حلف إيراني صيني روسي
ويبدو أن بكين وروسيا ستميلان للتعاون مع إيران لتوسيع نطاق نفوذهما السياسي إلى المنطقة من خلال الاتفاقات الثنائية والثلاثية، حسب Atlantic Council.
قد تؤدي العلاقة الصينية الإيرانية المتنامية إلى التنسيق بأفغانستان، خاصة في ظل القلق من طالبان، ولكن يجب تذكر أن الصين حليف أقرب لباكستان التي تعد لها رؤية مختلفة عن إيران للوضع في أفغانستان.
المشكلة أن الصين في ظل ممارستها مع الإيغور، قد تختلف مع حليفتها باكستان في الموقف من طالبان، ولكن ليس من الواضح بعد هل ينتقل التطير الصيني من الأصولية الإسلامية من الداخل الإيغوري إلى الجوار الأفغاني.
ولكن على وجه الخصوص، لدى روسيا والصين وإيران الكثير لتكسبه (أو تخسره) من عملية السلام في أفغانستان.
في السنوات الأخيرة، شاركت الدول الثلاث بشكل مباشر في السياسة الأفغانية: رسمياً، من خلال العلاقات الدبلوماسية بين دولة وأخرى، وبشكل غير رسمي، من خلال دعم الفصائل السياسية المختلفة.
وأصبحت روسيا وإيران تحديداً لاعبتين إقليميتين أكثر استباقية في الشؤون الأفغانية منذ بدء عملية السلام الأفغانية في عام 2018. إضافة إلى ذلك، ستحدد شراكات الصين بمواردها المالية الهائلة مع روسيا وإيران حالة أفغانستان بعد الانسحاب العسكري الأمريكي.
اللافت أنه رغم التأثير للقوى المشار إليها جميعها في أفغانستان، تظل طبيعة حركة طالبان من الصعب الضغط عليها، عكس النظام الهش في البلاد، والمراهنة على هزيمة طالبان فشلت كما اكتشفت الأمريكيون بعد 20 عاماً.
كما أن التدخل الخارجي قد يزيد الأمور سوءاً، إذ انتقل من دعم الحكومة الأفغانية في مواجهة طالبان إلى دعم فصائل وميلشيات عرقية أو مناطقية، أو طائفية، في مواجهة الحركة المتشددة، وهو سلوك قد يكون متوقعاً من طهران تحديداً، مثلما فعلت في العراق ولبنان.
المشكلة ليست فقط، في أن ذلك سيؤدي إلى احتمال تفتيت أفغانستان لإمارات طائفية أو إثنية بدلاً من إمارات طالبان المتشددة، ولكن أيضاً قد يكون فاشلاً حتى في حماية طائفة الهزارة الشيعية أو غيرها من أقليات أفغانستان، لأن التركيبة الاجتماعية الأفغانية تفيد بصعوبة -إن لم يكن استحالة- تهميش البوشتون كبرى قوميات البلاد، وقد يكون جزءاً مما يحدث في البلاد نتيجة محاولة فصائل المجاهدين المنتمية للعرقيات غير البشتونية بقيادة أحمد شاه مسعود، تهميش البشتون بعد الانسحاب السوفييتي وسقوط نظام نجيب الله الشيوعي.