الآن وقد أصبح إبراهيم رئيسي رئيساً منتخباً لإيران، من الطبيعي أن تصبح مسيرته وحياته تحت الأضواء لمحاولة استقراء سياساته المتوقعة بشأن الاتفاق النووي وغيره، فكيف ستؤثر طبيعته "كموظف" على أدائه كرئيس؟
يبلغ رئيسي من العمر 60 عاماً، وكان قد أعلن أثناء الحملة الانتخابية أنه لا جدوى من المحادثات مع القوى العالمية لرفع العقوبات الأمريكية والعودة للاتفاق النووي، إذ قال: "بعض (الساسة) يعقدون محادثات كي يروا ما الذي يمكنهم الحصول عليه من الغربيين. إذا عقدوا جلسات (داخل البلاد) حول كيفية تعزيز الإنتاج وإزالة العراقيل، لكانت كثير من المشكلات قد حُلَّت الآن".
ويتم تصوير رئيسي على أنه رجل دين متشدد وكان آخر منصب رسمي له قبل أن يفوز بالرئاسة هو رئيس السلطة القضائية، وفاز في الانتخابات الرئاسية التي أجريت مؤخراً وشهدت أقل نسبة مشاركة في تاريخ الجمهورية الإسلامية.
ونشر موقع Middle East Eye البريطاني تقريراً رصد رحلة صعود الرجل إلى سُدَّة السلطة في إيران، بعنوان "إبراهيم رئيسي: الرئيس الإيراني الجديد الذي يتبع الأوامر دائماً".
من هو إبراهيم رئيسي؟
قبل أربع سنوات من الثورة الإيرانية في عام 1979، غادر رئيسي البالغ من العمر 15 عاماً بلدته في مشهد إلى مدينة قم المقدسة، التي يقع فيها أحد أهم المعاهد الدينية في البلاد. وفي عام 1981، تخلى رئيسي عن دراسته ليصبح المسؤول القضائي الأعلى في مدينة كرج القريبة من العاصمة الإيرانية طهران.
وفي أقل من عشر سنوات، ترقى إلى عدة مناصب رفيعة في السلطة القضائية، ليصبح أصغر الأعضاء سناً فيما أطلقت عليه المعارضة الإيرانية "لجنة الموت".
والإشارة هنا إلى لجنة الإعدامات التي أمرت في عام 1988 بإعدام ما بين ألفين إلى 4 آلاف معتقل سياسي إيراني، منهم أعضاء منظمة "مجاهدي خلق" الإيرانية، وهي جماعة تصنفها إيران والعراق على أنها إرهابية، إلى جانب ناشطين ماركسيين وأعضاء في مجموعات يسارية.
في العام نفسه، عُيِّن رئيسي مدعياً عاماً للعاصمة طهران، ووصفه حينها آية الله أكبر هاشمي رفسنجاني بأنه شخصية "معتدلة". ثم ترقى رئيسي ليصبح رئيس "مكتب التفتيش العام" التابع للسلطة القضائية في عام 1994.
"مطيع وينفذ الأوامر"
وفي حين أن رئيسي طالما سعى إلى إبراز نفسه على أنه مناصر وتابع مخلص للمرشد الأعلى آية الله على خامنئي، فإن ذلك لم يمنع أن يكون له انتقادات في بعض الأحيان على تعليقاته وسلوكه.
ففي عام 1996، انتهز رئيسي زيارةً إلى رئيس البلاد آنذاك، أكبر هاشمي رفسنجاني، لينتقد خلالها تصريحاتٍ للمرشد الأعلى خامنئي كان قد لمَّح فيها إلى وقوع فسادٍ في البلاد في ظل رئاسة رفسنجاني. ووصف رئيسي تصريحات خامنئي بأنها "مؤذية"، مشيراً إلى أن مكتبه لم يسجِّل أي قضايا أو وثائق تشير إلى هذا الفساد.
ومع ذلك، قال مصدر، طلب عدم الكشف عن هويته، لموقع Middle East Eye: "لطالما كان رئيسي شخصية معتدلة، حتى عندما كان ينتقد سياسات المؤسسة الحاكمة، فإن ذلك لم يحد به عن اتجاهه قط ولطالما كان ينفِّذ الأوامر الموجهة إليه على أتم وجه".
وفي عام 2009، انتقد رئيسي، بصفته النائب الأول لرئيس السلطة القضائية، المرشَّحين الرئاسيين الإصلاحيين مير حسين موسوي ومهدي كروبي، اللذين أعلنا وقتها عن شكوك بأن الانتخابات الرئاسية زوِّرت لصالح المرشَّح المتشدد محمود أحمدي نجاد، وهدَّد بمحاكتهما على "خطيئتهما التي لا تُغتفر".
وبعد أن شغل منصب النائب الأول لرئيس السلطة القضائية لمدة عشر سنوات، أنزل رئيس السلطة القضائية آنذاك، آية الله صادق آملي لاريجاني، رتبةَ رئيسي إلى منصب المدعي العام للبلاد. وتشير مصادر إلى أن هذا الإنزال في الرتبة مرجعه أن رئيسي كان يحمل ضغينة ضد لاريجاني، الذي كان من بين المرشحين لخلافة خامنئي.
ومع ذلك، يبدو أن معجزة أعادت الحظ إلى رئيسي، إذ تقرَّر إعداده للرئاسة وقيادة البلاد. وفي هذا السياق، يفسر مسؤول سابق، تحدث شريطة عدم الكشف عن هويته، الأمر لموقع MEE، بالقول: إن "المرشد الأعلى لطالما سعى إلى جعل رؤساء البلاد من الخاضعين لسيطرته. ولهذا السبب كان دائماً ما يعارض تولي شخصية إصلاحية لمنصب الرئاسة".
ساعد خامنئي، ومع مؤسسة الحكم، الرئيسَ الأسبق أحمد نجاد في الفوز بالانتخابات الرئاسية لأنهم كانوا متيقنين من أنه سيكون بيدقهم. ومع ذلك، بدأ أحمدي نجاد يُبدي العصيان في الفترة الثانية من ولايته الرئاسية في عام 2009، ليتحول ذلك إلى ذكرى مريرة ودرس للمرشد الأعلى.
ثم عندما خاب أمل المؤسسة في (الرئيس) حسن روحاني، لسياساته وأفعاله التي يرون أنها تنتهك المحظورات، سعى فريق خامنئي لإيجاد وجهٍ جديد، لكن بشرط ألا يكون لديه أي فرصة في محاولة تجاوز خامنئي أو إبداء العصيان. ووقع الاختيار على "شخص لا يعرفه معظم الناس، وله وجه طيب: إنه رئيسي".
منصبٌ يُحسد عليه
نتيجة لذلك، قرر المرشد الأعلى خامنئي تعيينَ رئيسي، على الرغم من أن لاريجاني كان قد أقصاه بالفعل، فجأةً في عام 2015 لرئاسة مؤسسة "آستان قدس رضوى"، وهي المؤسسة المسؤولة عن إدارة الضريح المقدس للإمام علي بن موسى الرضا، ثامن أئمة الشيعة، في مدينة مشهد الإيرانية.
وتعتبر "آستان قدس رضوى" إحدى أكثر المؤسسات ثراءً وأنفَذها تأثيراً في إيران، إذ تضع رئيسها بين أهم خمسة مسؤولين في الجمهورية الإيرانية.
وأدَّى منصب رئيسي الجديد، والشائعات حول كونه مرشحاً جاداً لخلافة المرشد الأعلى خامنئي، إلى رفع مكانته تدريجياً بين الناس العاديين وفي الساحة السياسية. وبعد عامٍ من توليه رئاسة "آستان قدس رضوي"، دخل رئيسي السباقَ الرئاسي لعام 2016 مدعوماً من مؤسسة الجمهورية الإيرانية خلفه في محاولةٍ للإطاحة بالرئيس روحاني.
وعلى الرغم من ذلك، لم يكن رئيسي بارعاً ما يكفي للتغلب على روحاني المفوَّه، الذي كان يكتسح المناظرات الرئاسية، مع عجز رئيسي عن مواجهة انتقادات روحاني المركَّزة.
ومع ذلك، فإن ما أضعف مصداقية رئيسي أكثر من أي شيء آنذاك هو ترتيبه للقاءٍ مع مغني الراب أمير تتلو، الذي يحظى بشعبية كبيرة بين الأجيال الشابة في إيران. تتلو، الذي تغطي الوشوم جسده بالكامل، كثيراً ما تعتبر أغانيه مبتذلة وغير أخلاقية في نظر الإيرانيين المتدينين، وحتى العاديين.
من ثم، وفي حين أن هدف حملة رئيسي الانتخابية من الاتفاق كانت كسب أصوات الشباب، فإن المبادرة جاءت بنتائج عكسية صادمة وأفقدت رئيسي دعمَ الطبقة الدينية والنخب.
رئاسة السلطة القضائية
وعلى الرغم من خسارته الانتخابات، عيَّن خامنئي موظفَه المقرب رئيسي في عام 2019 رئيساً للسلطة القضائية في البلاد. وأثارت الخطوة غضبَ أنصار روحاني وقاعدته الإصلاحية، التي اعتبرت التعيين انتقاماً لخسارة المرشح المفضل للمرشد الأعلى خامنئي في السباق الرئاسي.
وخلال العامين اللذين قضاهما إبراهيم رئيسي على رأس السلطة القضائية في إيران، حاول محاكمة أبناء الفاسدين من الطبقة الثرية الإيرانية، وهي معركة أكسبته شعبية بين شعب سئم من حالات الكسب غير المشروع.
وفي السلطة القضائية، كان رئيسي قد خطط لتصوير نفسه على أنه شخص ضد حجب شبكات التواصل الاجتماعي ومنحاز لحرية الصحافة. ومع ذلك، فقد حظرت السلطة القضائية في عهده كلاً من تطبيقات "سيغنال" Signal و"كلوب هاوس" Clubhouse، وأمرت بإغلاق مجلة أسبوعية إصلاحية تُسمى Voice.
وقبيل انتخابات 2021 الرئاسية، بدت المؤسسة الحاكمة تخشى من أداءٍ ضعيف آخر لمرشَّحها رئيسي في المناظرات الرئاسية، ومن ثم زيادة احتمالات انتصار خصومه. ونتيجة لذلك، منع مجلس صيانة الدستور الذي يُشرف على الانتخابات عديداً من الإصلاحيين والمعتدلين من الترشح للمنصب.
حتى شخصية معتدلة، مثل علي لاريجاني، مستشار خامنئي، الذي وصفه قاسم سليماني بأنه الشخص الأنسب لتولي الرئاسة، لم يُسمح له بالترشح. ومن هنا، عُبِّد الطريق لكي يتولى رئيسي منصب رئيس إيران المقبل.
ويبدو رئيسي ظاهرياً شخصية معتدلة ذات نهج ناعم في التعامل مع غيرها، ويبدو أنه مُدار من شخصيات مؤسسية رفيعة المستوى خلف الستار، وهي الشخصيات التي لطالما اتبع أوامرها على مدار تاريخه.
أما فيما يتعلق بالسياسة الخارجية، فإن الأرجح أن يبتعد رئيسي عن نهج روحاني المؤيد للتقارب مع الغرب، وهو ما يجعل احتمالية خفض التوترات بين طهران والغرب احتمالاً أبعد بكثير.