أعلن المجلس الرئاسي في ليبيا حظر أي تحركات عسكرية في البلاد إلا بعد موافقته، رداً على إعلان ميليشيات خليفة حفتر إغلاق الحدود الجزائرية، فإلى أين تتجه الأمور قبل مؤتمر برلين2؟
"العملية العسكرية" التي أعلنت عنها ميليشيات خليفة حفتر، الجمعة 18 يونيو/حزيران هي التحرك العسكري الأكبر منذ اتفاق وقف إطلاق النار في البلاد، في أكتوبر/تشرين الأول الماضي، وما تبعه من إطلاق العملية السياسية (ملتقى الحوار الليبي) برعاية الأمم المتحدة.
ومنذ مارس/آذار الماضي، تولت السلطة التنفيذية الجديدة مقاليد الأمور. تتشكل تلك السلطة الموحدة من المجلس الرئاسي برئاسة محمد المنفي وحكومة الوحدة برئاسة عبدالحميد الدبيبة، والمهمة الرئيسية للسلطة المعترف بها من جانب المجتمع الدولي والأطراف الليبية تتمثل في التحضير لإجراء انتخابات برلمانية ورئاسية في ليبيا، في ديسمبر/كانون الأول المقبل.
لكن تظل العقبة الرئيسية متمثلة في توحيد المؤسسة العسكرية المنقسمة بين الشرق والغرب، وإخراج المرتزقة والمقاتلين الأجانب من البلاد. وحالياً يتولى المجلس الرئاسي في ليبيا منصب القائد الأعلى للقوات المسلحة، بينما يتولى رئيس الوزراء الدبيبة مهمة وزير الدفاع، وهو السيناريو الذي تم التوصل إليه مؤقتاً تفادياً للصدام مع حفتر، لكن يبدو أن الصدام أمر لا مفر منه في ظل إصرار الجنرال الانقلابي على عدم التخلي عن طموحاته في فرض نفسه حاكماً عسكرياً على ليبيا بالقوة.
ماذا حدث على الحدود الجزائرية؟
أعلنت ميليشيات حفتر -التي تطلق على نفسها "الجيش الوطني الليبي"- في بيان إطلاق عملية عسكرية في الجنوب الليبي، لملاحقة من وصفتهم بـ"الإرهابيين التكفيريين"، بحسب تقرير للأناضول.
وبحسب البيان، أرسلت ميليشيات حفتر وحدات من كتائب المشاة لدعم "غرفة عمليات تحرير الجنوب الغربي في الاتجاه الاستراتيجي الجنوبي"، وكان من المفروض أن تتوجه ميليشيات حفتر نحو الحدود التشادية، بعدما اتخذ المتمردون التشاديون الجنوب الليبي نقطة انطلاق لشن هجومهم على حكومة نجامينا.
غير أن ميليشيات حفتر فضلت التوجه غرباً نحو الحدود الجزائرية، وأعلنوا سيطرتهم على معبر "إيسين/ تين الكوم"، الذي يفصل مدينتي جانت الجزائرية وغات الليبية، اللتين تقطنهما قبائل الطوارق، التي كانت تسيطر على المعبر، بحسب وكالة الأناضول.
ورغم إعلانها منطقة الحدود الجزائرية منطقة عسكرية مغلقة، فإن ميليشيات حفتر لا تسيطر فعلياً على كامل هذه المنطقة الشاسعة، وبالأخص معبر الدبداب/ غدامس، الخاضع لنفوذ حكومة الوحدة الوطنية.
ففي عام 2014، سيطرت وحدة صغيرة مسلحة من مدينة الزنتان (170 كلم جنوب غرب طرابلس) على غدامس، لكن القوة الثالثة التابعة لكتائب مدينة مصراتة (200 كلم شرق) الداعمة لحكومة طرابلس استعادت السيطرة على المدينة في نفس العام، واحتجزت طائرة مدنية إماراتية، اتهمتها بتزويد أتباع حفتر في الزنتان بالأسلحة تحت غطاء المساعدات الإنسانية.
وحالياً تصنف غدامس ضمن المدن المحايدة، وتضم موالين للجيش الليبي وأيضاً أتباعاً لحفتر. ونشرت وسائل إعلام ليبية مؤخراً تهيئة السلطات المحلية لمعبر غدامس/الدبداب، لتوفير الشروط الأمنية واللوجستية التي طلبتها الجزائر.
كيف ردت السلطة الليبية؟
والسبت 19 يونيو/حزيران، أعلن المجلس الرئاسي الليبي بصفته القائد الأعلى للجيش حظر أي تحركات عسكرية في البلاد إلا بعد موافقته على ذلك. جاء ذلك في بيان صادر عن القائد الأعلى للجيش، نشره المركز الإعلامي لعملية "بركان الغضب" عبر حسابه بموقع تويتر، عقب تحركات ميليشيات خليفة حفتر جنوبي البلاد.
وقال البيان الذي اطلعت عليه الأناضول: "يحظر مطلقاً إعادة تمركز الوحدات العسكرية مهما كانت طبيعة عملها، أو القيام بأي تحركات لأرتال عسكرية لأي غرض كان، أو نقل للأفراد أو الأسلحة أو الذخائر". وأضاف: "إذا استدعت الضرورة إعادة التمركز أو التحرك لأرتال عسكرية لا يتم إلا وفق السياق المعمول به وموافقة القائد الأعلى (المجلس)".
وهذه ليست المرة الأولى التي يتحدى فيها حفتر السلطة التنفيذية الموحدة في البلاد والتصرف على الأرض بمعزل عن الاتفاقيات المدعومة من جميع الأطراف الإقليمية والدولية، ما يمثل تهديداً للمسار السلمي والاستقرار في البلاد، بصورة تعيد مرة أخرى القلق مما أقدم عليه بانقلابه على حكومة الوفاق الوطني من قبل، وشن هجومه الفاشل على طرابلس مطلع أبريل/نيسان 2019.
ففي أبريل/نيسان الماضي، أصدر محمد المنفي (بصفته القائد الأعلى للقوات المسلحة في ليبيا) قراراً بحظر سفر العسكريين أو الحديث لوسائل الإعلام دون إذن منه، لكن حفتر والمتحدث باسمه أحمد المسماري لم يلتزموا به حتى اليوم.
والقصة باختصار هي أن اللواء المتقاعد خليفة حفتر لم يظهر أي تنازلات فعلية من أجل توحيد الجيش الليبي، رغم اعترافه شكلياً بالمجلس الرئاسي وحكومة الوحدة، ما يؤشر إلى تمسكه بمشروعه في السيطرة على السلطة بالعاصمة طرابلس، إن أتيحت له الفرصة لذلك.
ويبدو أن حفتر يسعى لتسويق نفسه كمرشح محتمل للرئاسيات المرتقبة في 24 ديسمبر/كانون الأول المقبل، غير أن مشروع القاعدة الدستورية الذي أعدته اللجنة القانونية لملتقى الحوار وضع شروطاً تمنعه من الترشح، إلا إذا تنازل عن جنسيته الأمريكية.
فرغم الدعم الرسمي من طرفي الصراع الرئيسيين لحكومة الوحدة ولإجراء انتخابات، فإنه لا تزال هناك عقبات كبرى، أبرزها أن بعض المناطق وبعض مؤسسات الدولة لا تزال واقعة تحت هيمنة الكثير من الفصائل المسلحة، بحسب رويترز.
ماذا يريد حفتر من "زعمه" إغلاق الحدود الجزائرية؟
قبل نحو 10 أيام، صرّح الرئيس الجزائري عبدالمجيد تبون بأن بلاده كانت ستتدخل لمنع سقوط العاصمة الليبية طرابلس في يد المرتزقة، وهو ما يربطه البعض بإعلان حفتر إغلاق الحدود مع الجزائر وجعلها منطقة عسكرية.
إذ شكل تصريح الرئيس الجزائري لقناة الجزيرة القطرية موقفاً حاسماً لرفض بلاده سيطرة ميليشيات حفتر على طرابلس، وتهديداً ضمنياً لها بالتدخل العسكري إذا ما تعرضت العاصمة الليبية لأي تهديد. ومنذ تعديل الدستور في 1 نوفمبر/تشرين الثاني 2020، أصبح بإمكان الجيش الجزائري التدخل عسكرياً خارج حدود البلاد، بعدما كان ذلك محظوراً عليه بنص دستوري. ويشكل الموقف الجزائري الأخير تأكيداً صريحاً على وقوف الجزائر وجيشها ضد أي مغامرات جديدة لحفتر للسيطرة على طرابلس.
كما اتفقت الجزائر وطرابلس خلال الزيارة الأولى لرئيس حكومة الوحدة الوطنية الليبية عبدالحميد الدبيبة، للجزائر في 29 مايو/أيار الماضي، على عدة ملفات أهمها فتح الحدود بين البلدين. وتم التأكيد على دور الجزائر في تحقيق المصالحة الليبية خلال زيارة نائبي رئيس المجلس الرئاسي الليبي للجزائر موسى الكوني وعبدالله اللافي.
ويرتبط البلدان بحدود تمتد على طول نحو 1000 كلم، و3 معابر برية، تتمثل في معبر الدبداب/غدامس في أقصى الشمال، ومعبر تين الكوم/إيسين، في أقصى الجنوب، والذي سيطرت عليه ميليشيات حفتر السبت، ومنه فرت عائلة القطافي إلى الجزائر في 2011، بالإضافة إلى معبر طارات الأقل أهمية.
ويستعد البلدان لفتح معبر الدبداب/غدامس، الأقرب إلى طرابلس، والقريب من حقول عين أناس الغازية في الجزائر، وحقل الوفاء الغازي بليبيا، والذي تم الاتفاق على عودة العملاق النفطي الجزائري سوناطراك للاستثمار بهذه المنطقة بعد مغادرتها في 2011، لأسباب أمنية.
ومن ثم يسعى حفتر من هذه العملية إلى تحدي الجزائر، بعد أن أصبح موقفها داعماً بشكل صريح لحكومة الوحدة الوطنية، وقد سبق له أن هدد في 2018 بنقل الحرب إلى الجزائر، وإن تجاهلت الأخيرة تهديداته دبلوماسياً، إلا أن جيشها ردّ بطريقته عبر تنفيذ مناورة عسكرية بالقرب من الحدود الليبية.
ويحاول حفتر إفساد الاتفاقات الموقعة بين الجزائر وحكومة الوحدة الليبية، خاصة ما تعلق بمحاربة الإرهاب، وتأمين الحدود المشتركة، ومكافحة التهريب والجريمة المنظمة وتجارة السلاح والبشر.
وهذا ما ذهب إليه المحلل الاستراتيجي الليبي عادل عبدالكافي، حيث قال في تدوينة له "تحركاته (حفتر) وتحشيده لقطع الطريق على التعاون والدعم الجزائري، وما أفضت إليه التفاهمات مع الجانب الجزائري لبداية انخراط في عمليات حفظ الحدود ومنع تدفق المرتزقة وتضييق الخناق على العناصر الإرهابية".
فاللواء المتقاعد يسعى للإيحاء بأنه من يسيطر على المعابر الحدودية مع الجزائر، وأنه من يتواجد على الأرض، وبإمكانه تأمين الحدود المشتركة، وعلى الجزائر أن تُنسق معه أمنياً وليس مع حكومة الوحدة. وهذا الموقف فيه تصعيد ضد المجلس الرئاسي بصفته القائد الأعلى للجيش وأيضاً ضد الدبيبة الذي يتولى وزارة الدفاع.
كما أن الجزائر معنية بغلق الحدود المشتركة، خاصة مع اقتراب موعد فتح معبر الدبداب/غدامس، بينما يمثل معبر تين الكوم/إيسين، نقطة عبور نحو مناطق تواجد القبائل الليبية التي تعود أصول بعضها للجزائر.
ويعتقد ناشطون إعلاميون جزائريون أن حفتر لا يمكنه أن يتحدى الجيش الجزائري، المصنف كثاني أكبر قوة عسكرية في إفريقيا، وإنما الأمر يتعلق بقوى دولية وإقليمية تقوم باستعماله كبيدق لإشغال الجزائر في الجبهة الجنوبية الشرقية من حدودها، بحسب الأناضول.
الرسالة الأخرى التي أراد حفتر توجيهها، تعني الدول المشاركة في مؤتمر برلين2، الذي سينعقد الأربعاء المقبل، والذي من شأنه أن يبحث إخراج مرتزقة شركة فاغنر الروسية وغيرها من ليبيا، وهذا لا يخدم مصالح اللواء المتقاعد. ويريد حفتر إبراز ميليشياته كشريك محتمل في مكافحة الإرهاب بمنطقة الساحل الإفريقي، خاصة بعد إعلان فرنسا إنهاء عملية برخان بالمنطقة.
الأمر الآخر يتعلق بتواجد قوات تابعة لحكومة الوحدة في الجنوب، والتي تهدد سلطته في المنطقة، خاصة أنه لا يسيطر فعلياً سوى على القواعد العسكرية والمطارات وحقول النفط وبعض المدن الرئيسية في إقليم فزان، وتجد ميليشياته صعوبة في تأمين كامل مساحة الإقليم الشاسعة، وتخشى أن تغير وحداته في الجنوب ولاءها لحكومة الوحدة.
وباستعانته باللواء التاسع ترهونة (الكانيات)، الذي فرضت عليه عقوبات أمريكية وبريطانية لارتكابه جرائم حرب، يسعى حفتر لإبعاده عن مناطق الاحتكاك في الشرق، خاصة بعد وقوع عدة اشتباكات محدودة بين الكانيات وكتائب من الشرق سواء في بنغازي (شرق) أو سرت (وسط).
والخلاصة هنا هي أن حفتر عندما أراد الهجوم على طرابلس في ربيع 2019، مهد لذلك عبر سيطرته على مدن الجنوب الغربي في شتاء ذات العام، وهذا ما يفسر إرسال الجيش الليبي وحدات استطلاع من اللواء 444، إلى جنوب شرق بلدة الشويرف (نحو 400 كلم جنوب طرابلس)، لتجنب أي هجوم مباغت لميليشيات حفتر.