على مدى العقود الأربعة الماضية، تمتعت الأحزاب الأرثوذكسية اليهودية المتطرفة بمميزات ونفوذ داخل إسرائيل أكبر من وزنها الانتخابي، بشكل يراه كثير من النخب الإسرائيلية تهديداً لمستقبل الدولة، والآن بات هذا النفوذ مهدداً.
فلقد قضت الأحزاب الأرثوذكسية اليهودية أوقاتاً في الحكومة الإسرائيلية أكثر من الوقت الذي قضته بعيداً عنها، ولكن بالنسبة للكثيرين في إسرائيل فإن انتهاء هيمنتهم على السلطة، قد يكون بوابةً لتخفيف بعض القيود المفروضة على الحياة العامة.
والآن تنضم الأحزاب الأرثوذكسية اليهودية المتطرفة إلى حليفهم بنيامين نتنياهو في المعارضة، وقد بدأوا فعلياً الحديث عن استهداف ائتلاف رئيس الوزراء الإسرائيلي الحالي نفتالي بينيت، بينما يحاولون الحفاظ على بعض الامتيازات التي يتمتعون بها في المجتمع الإسرائيلي، والتي حصلوا عليها بشق الأنفس، حسبما ورد في تقرير لصحيفة The Wall Street Journal الأمريكية.
فالعديد من الحاخامات والمشرعين يعتبرون ائتلاف بينيت تهديداً يواجه نمط حياتهم. إذ إن حكومته، التي أدت اليمين الدستورية يوم الأحد 13 يونيو/حزيران، تجسد تحالفاً واسعاً من أحزاب اليمين واليسار والوسط، بل ومن حزبٍ إسلامي عربي مستقل، وهي المرة الأولى التي تحدث في السياسات الإسرائيلية.
على مر السنين، أقام الحزبان الحريديان الرئيسيان [الحريديم الأشكناز: كتلة يهودات هتوراه، والحريديم الشرقيون (السفارديم): حزب شاس] تحالفاً وثيقاً مع نتنياهو، زعيم الليكود، واستفادا من دورهما بوصفهما عناصر أساسية في سلسلة من الائتلافات الحاكمة التي ترأسها نتنياهو.
في موقعهم هذا، مارسوا ما يراه عديد من النقاد نوعاً من السلطة غير المتكافئة لفرض نفوذهم على سياسات الدولة، وقد برز ذلك، على سبيل المثال، عندما تصدوا بنجاح، أو بعض طوائفهم، لقيود الدولة الخاصة بمكافحة وباء كورونا، ورفضوا ببساطةٍ الانصياع لها في مجتمعاتهم، حسبما ورد في تقرير لصحيفة The New York Times الأمريكية.
وبلغ نفوذ الأحزاب الأرثوذكسية اليهودية إلى حد إصدار قانون عام 2015 أعفى طلاب المدارس الدينية من الجندية، مجاملة لهم، وهو القانون الذي ألغته المحكمة العليا الإسرائيلية عام 2017.
لماذا تخشى الأحزاب الأرثوذكسية اليهودية الحكومة الجديدة؟
يخشى الساسة الأرثوذكس المتطرفون من أن يقلص هذا مكانتهم في المجتمع، وأقسموا على تعطيل الإدارة الجديدة وإسقاطها في نهاية المطاف، مُدَشِّنين ما يمكن أن تصير مناوشات طويلة حول نوعية الدولة التي يجب أن تكون عليها إسرائيل.
قال أوري مكليف، النائب المنتمي إلى التحالف الحزبي يهدوت هتوراة: "سوف أستخدم ما استخدمه أبونا يعقوب عندما احتاج أن يتعامل مع عيسو: الهدايا، والصلاة، والحرب"، وذلك في مقابلة مع قناة Kan News يوم الإثنين 14 يونيو/حزيران. وكان مكليف يشير إلى المعركة بين حفيدي نبي الله إبراهيم، يعقوب وأخيه عيسو، بحسب الرواية التوراتية.
تذكر سياسي آخر من الأرثوذكس المتطرفين، وهو الحاخام يعقوب ليتسمان، كيف نجح هو وحلفاؤه في خلع أحد الشركاء الرئيسيين لبينيت، وهو السياسي الوسطي يائير لابيد، عندما شغل منصب وزير المالية في إحدى الحكومات التي ترأسها نتنياهو، واتخذ خطوة بقطع التمويل عن التعليم الديني.
وقال ليتسمان، بينما يغادر منصب وزير الإسكان في الحكومة المنتهية ولايتها: "اصطحبناه إلى المدرسة آنذاك، وأتمنى أن نستمر في اصطحابه إلى المدرسة اليوم".
كيف يعيشون؟
الأرثوذكس المتطرفون، المعروفون في إسرائيل بـ"الحريديم"، التي تعني مخافة الله، يتبنون نمط حياة يلتزم بالمعايير الأكثر صرامة من الشريعة اليهودية. ويشكل هؤلاء نحو 12% من السكان، ويعيشون في مجتمعات تتجنب الاختلاط بين الجنسين ويبتعدون عن الحياة العلمانية الحديثة.
ويُنَصِّب عديد من قادة هذه المجتمعات أنفسهم في موقع حماة إسرائيل الأخلاقيين، وفي وقت سابق من هذا الشهر نشرت مجموعة من الحاخامات البارزين خطاباً يقول إنهم سوف يقاتلون للحفاظ على شخصية إسرائيل اليهودية.
جاء في الخطاب: "لا يمكننا قبول حقيقة أن حكومة ستتشكل في إسرائيل، وأنها ستضر الأمور الأساسية للدين والدولة".
يمكن أن تكون الأحزاب الأرثوذكسية المتطرفة من المنغصات الكبرى بالنسبة لبينيت، في ظل الدعم الطفيف الذي تحظى به حكومته.
فقد دعمه 60 عضواً فقط من أعضاء البرلمان الإسرائيلي البالغ عدد أعضائه 120 عضواً، بينما صوّت 59 عضواً ضده. وامتنع عضو عن التصويت. وجاء التصويت بعد سنوات من الجمود السياسي الذي شهد إجراء 4 انتخابات وطنية منذ 2019.
مع نتنياهو في المعارضة والحكم
شاركت الأحزاب الأرثوذكسية اليهودية المتطرفة في الحكومات الإسرائيلية مشاركة كبيرة منذ أن تولى حزب الليكود، الذي ينتمي إليه نتنياهو، مقاليد السلطة عام 1977، عندما كان يرأسه مناحم بيجن، وهو قائد سابق لمنظمة عسكرية صهيوني صار سادس رئيس وزراء لإسرائيل. ولم يبتعدوا عن الانضمام إلى الحكومة عادةً إلا لعام أو عامين.
اعتمد نتنياهو، صاحب أطول مدة في منصب رئيس الوزراء الإسرائيلي، على دعم الأحزاب الدينية في أكثر من مناسبة. وشكل ائتلاف واحد فقط بدونهم لم يدم طويلاً، ويتحالف حالياً مرة أخرى مع الأحزاب الأرثوذكسية المتطرفة، بوصفه زعيم المعارضة، في محاولة لفتح الشقوق في صفوف الحكومة الإسرائيلية الجديدة.
عقد نتنياهو أول اجتماع معهم أول من أمس الإثنين 14 يونيو/حزيران، وقال إنهم سوف يلتقون مرة على الأقل أسبوعياً ليمضوا قدماً في خططهم لإطاحة الحكومة الجديدة بسرعة.
وقد بدأت نقاط الاشتعال في الظهور فعلياً.
إذ إن اتفاقيات موقعة بين أعضاء الائتلاف الجديد تجلب مزيداً من التنافس حول تنظيم مشروعات الكوشر (النظام الغذائي اليهودي)، وتتيح للسلطات البلدية الحاخامية أن ترأس التحولات الدينية، وهو شيء مقصور في الوقت الحالي على السلطة الدينية اليهودية للدولة، التي يسيطر عليها الأرثوذكس المتطرفون.
يؤثر الموضوع على نفوذ هذه المجتمعات تأثيراً مباشراً، إضافة إلى أن الجماعات الأرثوذكسية المتطرفة تحشد الدعم فعلياً وتصب غضبها بشكل مباشر على بينيت، وهو ضابط سابق في القوات الخاصة الإسرائيلية ورائد أعمال تقني متدين يبلغ من العمر 49 عاماً، ويعتمر القبعة الدينية "الكيباه".
قال مكليف، الذي شغل سابقاً منصب وزير النقل: "لقد باع [بينيت] جميع قيمنا. الحكومة الإسرائيلية الجديدة سوف تكون تخلياً تاماً عن الدين".
النخب الإسرائيلية تخشى مما يفعله الأرثوذكس بالتعليم
ويعد التعليم مصدر قلق منتشر بشأن هذه المجتمعات. يذهب طلاب الأرثوذوكس المتطرفين إلى مدارس منفصلة، حيث لا يدرسون تقريباً الحساب والعلوم. وبالنسبة لقادة هذه المجتمعات، يعد حفظ المنهج الديني ضرورة بالغة الأهمية للحفاظ على نمط حياتهم.
ينتاب القلق كثير من القادة العلمانيين من أن زيادة النسبة السكانية التي لم تتلق التعليم الأساسي الذي يؤهلهم للحياة العملية، يمكن أن يشكل تهديداً على النمو الاقتصادي المستقبلي لإسرائيل.
قال جلعاد ملاخ، مدير برنامج الأرثوذكس المتطرفين في إسرائيل في معهد الديمقراطية الإسرائيلية: "إنهم غاضبون للغاية ومحبطون للغاية ويمكن أن تقول أيضاً إنهم تحت الضغط". وأوضح أنهم قلقون من أن الحكومة الجديدة سوف تقطع الدعم عن مجتمعاتهم وتقلص نفوذهم السياسي.
كان العام الماضي صعباً على الإسرائيليين الأرثوذكس المتطرفين. فقد ضربت جائحة كوفيد-19 بلداتهم وأحيائهم بشدة، بعد أن كانوا بطيئين أو متقاعسين عن اتباع إرشادات التباعد الاجتماعي التي تتعارض مع كثير من التقاليد الأرثوذكسية المتطرفة.
وبين الإسرائيليين الأكثر علمانية، تضررت شعبية نتنياهو من التصور القائل إنه كان متساهلاً في مسألة فرض الإغلاق من أجل الإبقاء على دعمه بين هذه المجتمعات.
وبمجرد أن رفعت إسرائيل قيود الجائحة، تعرضت مجتمعاتهم لمحنة أخرى عندما قُتل عشرات الأشخاص جراء تدافع خلال احتفالية دينية شمال إسرائيل، في أول تجمع حاشد منذ بداية الجائحة.
ويمثل وصول بينيت إلى الحكومة أزمة أخرى بالنسبة لقادة الأرثوذكس المتطرفين، ما يجعلهم مصدر تهديد لبقاء ائتلافه الهش في شكله الحالي، وربما طريقاً لعودة نتنياهو إلى السلطة.
ففي بعض أحياء الأرثوذوكس المتطرفين، مثل حي بني براك، تنبأ بعض السكان بالفعل بأن قادتهم سوف يعودون إلى الحكم، حسب ما ورد في تقرير صحيفة The Wall Street Journal.
قال جدليا بن شمعون، وهو محام ينتمي إلى الأرثوذوكس المتطرفين يبلغ من العمر 42 عاماً: "مثلما نجونا من الفراعنة في مصر، سوف نتجاوز كذلك من هذه الحكومة".