في واقعة نادرة في التاريخ الأمريكي شهد الكونغرس اعتراضات على صفقة أسلحة لإسرائيل بقيمة 735 مليون دولار أثناء العدوان الإسرائيلي على غزة، ورغم أن المعترضين لم يستطيعوا وقف الصفقة، فإن الجدل الذي أثير حولها ما زال مستمراً، خاصة أنه لم يفت الوقت لوقفها، حسب مصادر أمريكية.
وأثارت إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن احتجاجات صاخبة في الداخل والخارج إثر قرارها الشهر الماضي المضي قدماً، وفي أسرع وقت، في إتمام صفقة أسلحة لإسرائيل أسلحة بقيمة 735 مليون دولار من القنابل دقيقة التوجيه إلى إسرائيل، في وقت كاتت الطائرات الإسرائيلية تقصف قطاع غزة.
صفقة أسلحة لإسرائيل وسط الحرب
وأبلغت الإدارة الأمريكية بالصفقة في 5 مايو/أيار أي قبل، ومثل جميع مبيعات الأسلحة لإسرائيل، أن تخضع لعملية مراجعة سريعة من الكونغرس، ما يمنح له مهلة لمدة 15 يوماً لاتخاذ إجراء لإيقافها بدلاً من فترة المراجعة المعتادة التي تبلغ 30 يوماً، حسبما ورد في تقرير لشبكة "CNN" الأمريكية.
لكن ذلك تزامن إجراءات تمرير الصفقة مع اندلاع حرب غزة، سلط الضوء عليها، والأدهى
أن عملية البيع قطعت مزيداً من الخطوات، حتى في الوقت الذي كانت فيه إسرائيل تشن حملة قصف مدمرة على غزة أسفرت عن مقتل أكثر من 250 فلسطينياً، منهم 67 طفلاً على الأقل، وأجبرت أكثر من 52 ألف شخص على ترك منزلهم.
وكما هو الحال مع جميع العمليات العسكرية الإسرائيلية، اعتمدت الهجمات اعتماداً كبيراً على أسلحة قدمتها الولايات المتحدة، والتي كان منها، هذه المرة، قنابل دقيقة التوجيه التي تطلق من مقاتلات "إف 16" التي تنتجها شركة "لوكهيد مارتن" الأمريكية، حسبما ورد في تقرير لموقع Responsible Statecraft الأمريكي.
ولكن رغم أنه كان يتوقع مرور الصفقة بسهولة فإن تزامنها مع حرب غزة، فجر اعتراضات من داخل الحزب الديمقراطي، إذ قدم السيناتور اليساري اليهودي بيرني ساندرز قراراً يرفض الصفقة في 20 مايو/أيار 2021.
كما قادت النائبة ألكساندريا أوكاسيو كورتيز جهود الديمقراطيين التقدميين الآخرين في مجلس النواب لتقديم قرار لمنع الصفقة التي تتضمن أسلحة دقيقة التوجيه.
وفي بيان حول مشروع القرار المشترك هذا، قالت أوكاسيو كورتيز إن الولايات المتحدة تبيع أسلحة بمليارات الدولارات لإسرائيل منذ عقود "دون مطالبتهم باحترام الحقوق الفلسطينية الأساسية". وبقيامها بذلك، ساهمت الولايات المتحدة بشكل مباشر في "موت وتشريد وحرمان الملايين من حقوقهم".
وأضافت كورتيز: "في الوقت الذي يدعم فيه الكثيرون، بمن فيهم الرئيس بايدن، وقف إطلاق النار، يجب ألا نرسل أسلحة هجوم مباشر إلى رئيس الوزراء نتنياهو لإطالة أمد هذا العنف".
وانضم النائبان الديمقراطيان مارك بوكان ورشيدة طليب إلى شركة أوكاسيو كورتيز في تقديم القرار المشترك.
وفوجئ رئيس لجنة الشؤون الخارجية في مجلس النواب، النائب جريجوري دبليو ميكس (ديمقراطي من نيويورك)، برد الفعل العنيف على الصفقة، وفي البداية استجاب ووعد بمطالبة إدارة بايدن بتأجيل عملية البيع، لكنه يبدو أنه تراجع.
لم تسفر هذه الجهود عن وقف الصفقة، لكنها أبرزت التناقض الذي يميز إدارة بايدن بين شعارات حقوقية وتصرفات على الأرض لا تختلف عن سابقاتها.
فبعد وقف إطلاق النار، توجه وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن إلى الشرق الأوسط في زيارة تضمنت اجتماعات مع القادة الإسرائيليين حول ما سماه بايدن "التزام أمريكا الصارم بأمن إسرائيل".
كما كشفت هذه الصفقة عن انشقاقات في الحزب الديمقراطي قد تؤدي إلى تغييرات طويلة المدى، حيث يجد أعضاؤه أنفسهم في منطقة مجهولة: يتجادلون حول ما إذا كان ينبغي على الولايات المتحدة أن تضع قيوداً جديدة على مساعدتها لإسرائيل، حسبما ورد في تقرير لصحيفة The Washington Post الأمريكية.
عندما سُئل عما إذا كان الانقسام الواضح والمتزايد في الحزب الديمقراطي فيما يتعلق بالعلاقات الأمريكية الإسرائيلية يثير قلق الحكومة الإسرائيلية، قال إيتاي ميلنر، المتحدث باسم القنصلية العامة لإسرائيل في نيويورك، لموقع Business Insider الأمريكي: "علاقاتنا مع الحزب الديمقراطي حزب قوية جداً".
وأضاف ميلنر: "صحيح أن هناك بعض الخلافات بين بعض أجزاء الحزب الديمقراطي لكن هذا لا يعني أننا في خلاف معهم"، وأضاف: "هنا في نيويورك، على سبيل المثال، نجتمع مع القادة التقدميين للحزب الديمقراطي"، وقال ميلنر إن القنصلية عقدت اجتماعات مع أعضاء التيار، التي ينتمي إليها أوكاسيو كورتيز ورشيدة طليب.
موقف غير مسبوق
"ما يحدث غير مسبوق"، هكذا وصف شبلي تلحمي، أستاذ السياسة في جامعة ميريلاند الأمريكية الذي يتتبع المواقف المتغيرة تجاه الصراع الإسرائيلي الفلسطيني منذ أكثر من عقد، ولكن "يبقى أن نرى ما إذا كان سيتحول إلى شيء أكثر عمقاً واستدامة".
فالمكانة المتميزة لإسرائيل كمتلقٍّ للمساعدات العسكرية الأمريكية، التي ينص عليها قانون أمريكي للحفاظ على "التفوق العسكري النوعي" على منافسيها العرب، لطالما تم التعامل معها على أنها "لا يمكن المساس بها" ، على حد تعبير تلحمي.
وإسرائيل هي أكبر متلقٍّ للمساعدات الخارجية الأمريكية منذ الحرب العالمية الثانية، وهذه الصفقة هي جزء صغير من الدعم العسكري الأمريكي الشامل لإسرائيل.
236 مليار دولار من المساعدات تسببت في قتل آلاف الفلسطينيين
ويرى موقع Responsible Statecraft أن صفقة بيع القنابل الجديدة ليست إلا أحدث دفعة في سياسة تنتهجها الولايات المتحدة فيما يتعلق بدعم الجيش الإسرائيلي على مدى عقود مضت، وقد شملت أكثر من 236 مليار دولار (مع مراعاة فروق التضخم في 2018 بالدولار) من المساعدات منذ تأسيس دولة إسرائيل، أكثر من ثلاثة أرباعها على هيئة مساعدات عسكرية. كما لا يزال لدى إسرائيل ثلاث سنوات أخرى من التزام الولايات المتحدة لمدة 10 سنوات بتقديم 38 مليار دولار من المساعدات العسكرية من 2019 إلى 2028، وفقاً لتعهدات الولايات المتحدة في اتفاق بين البلدين في عام 201.
وأفلتت إسرائيل في أغلب الأحيان من المساءلة عن استخدامها العشوائي للمعدات العسكرية الأمريكية، حتى عندما شمل ذلك عمليات أسفرت عن عدد كبير من الضحايا الفلسطينيين، مثل عملية "الرصاص المصبوب" الإسرائيلية عام 2008، والتي أسفرت عن مقتل 1383 فلسطينياً، منهم 333 طفلاً. وزاد على ذلك أن الولايات المتحدة لا تكلف نفسها حتى عناء تعقب الوحدات العسكرية التي تحصل على الأسلحة الأمريكية، ما يعسِّر تطبيق قيود حقوق الإنسان، مثل قانون "ليهي"، الذي يحظر على الولايات المتحدة دعمَ الوحدات العسكرية التي ترتكب انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان.
لماذا فشلت محاولات وقف الصفقة، وهل فات الأوان؟
سبب فشل الجهود في الكونغرس مثل التي قامت بها النائبة الديمقراطية ألكساندريا أوكاسيو كورتيز والسيناتور بيرني ساندرز، في منعَ بيع صفقة القنابل دقيقة التوجيه، يرجع في جزء كبير منه إلى المهلة القصيرة التي خصصت لمناقشة الصفقة، وإصرار إدارة بايدن على إتمامها في أسرع وقت، حسب Responsible Statecraft.
ومع ذلك، فإن هذه ليست نهاية القصة، إذ لا يزال بإمكان إدارة بايدن إيقاف صفقة البيع.
وفي إطار استمرار الجهود الرامية لوقف الصفقة، أصدرت مجموعة مؤلَّفة من 100 منظمة من منظمات السلام والدفاع عن حقوق الإنسان والمجموعات السياسية هذا الأسبوع رسالةً تحث إدارة بايدن على التخلي عن هذه الصفقة.
شملت قائمة الموقعين على الرسالة طيفاً واسعاً من المنظمات والجمعيات المعنية: منها مجموعات دينية، مثل منظمة "كنائس من أجل السلام في الشرق الأوسط"، ومنظمة "المسلمون الأمريكيون من أجل فلسطين"، و"لجنة الأصدقاء للتشريع الوطني" (FCNL)، ومنظمة "الصوت اليهودي من أجل السلام" (JVP) جنباً إلى جنب مع مجموعات أكثر علمانية مثل "الحركة العالمية للدفاع عن الأطفال- فلسطين"، وحركة "ديمقراطيو العدالة"، وحركة "عدم التجزئة" Indivisible التقدمية الأمريكية، وحركة "صن رايز" Sunrise Movement المعنية بسياسات المناخ، وحركة "مووف أون" MoveOn، وحزب "العائلات العاملة"، ومنظمة "الديمقراطية الآن للعالم العربي" (DAWN)، كما وقَّعت مؤسسات ومراكز أبحاث في شؤون السياسة الخارجية، مثل "معهد كوينسي" Quincy Institute، و"مركز السياسة الدولية".
من جهة أخرى، يأتي اتساع نطاق الدعم لمطالب بيع القنابل على هذا النحو، ليؤكد حقيقة أن معارضي الدعم العسكري غير المشروط لإسرائيل يزدادون قوة، أنهم لن يتراجعوا بسهولة عن مطالبهم، حسب تقرير Responsible Statecraft.
أما فيما يتعلق بجوهر الرسالة، فقد لخّصها حسن الطيب، المدير التشريعي لسياسات الشرق الأوسط في "لجنة الأصدقاء للتشريع الوطني"، على النحو التالي:
"يجب على إدارة بايدن استخدام سلطتها الحالية لمنع تسليم ما قيمته 735 مليون دولار من الأسلحة الهجومية الجديدة إلى إسرائيل. إذ إن المضيّ قدماً في هذه الصفقة، سيُنظر إليه على أنه دعم للهجمات الإسرائيلية العشوائية على غزة وتشجيع لها على مزيدٍ من أعمال العنف ضد المدنيين الفلسطينيين. ويجدر بالإدارة الأمريكية بدلاً من ذلك أن تركِّز جهودها على تقديم المساعدة الإنسانية للفلسطينيين، والمساعدة في جهود إعادة الإعمار في غزة، واستخدام النفوذ الأمريكي على إسرائيل لإنهاء الاحتلال والحصار، ودعم السبل الدبلوماسية اللازمة لتحقيق سلامٍ دائم بين الإسرائيليين والفلسطينيين".
كما أشارت بيث ميلر، مديرة الشؤون الحكومية في منظمة "الصوت اليهودي من أجل السلام"، إلى أن "مجرد تفكير إدارة بايدن في صفقة أسلحة لإسرائيل لهو أمرٌ مشين، خاصة في أعقاب الهجوم العسكري الإسرائيلي الأخير على غزة. فقد شاهد العالم للتو كيف تستخدم إسرائيل هذه الأسلحة- لتدمير البنية التحتية والقضاء على عائلات فلسطينية بأكملها. ومن ثم، فإن بايدن، بتوقيعه على المضي قدماً في عملية البيع، يعطي الضوء الأخضر للحكومة الإسرائيلية لمواصلة قتل الفلسطينيين بأسلحة أمريكية. وهو ما يجعلنا نقول إنه لا يمكن المضي قدماً في هذا البيع مهما كانت الظروف والأسباب"، حسب كاتب التقرير.
حتى الآن، لم توجِّه إدارة بايدن سوى انتقادات خفيفة لهجمات إسرائيل على غزة، فضلاً على قمع الأخيرة الأوسع نطاقاً لحقوق الفلسطينيين وقمعها المنهجي للفلسطينيين في كل من الأراضي المحتلة وداخل إسرائيل. وقد جاء البيان الأخير الصادر عن وزير الخارجية الأمريكي، أنتوني بلينكن، مبرهناً على هذا النهج المتهاون مع إسرائيل، وحتى عندما سُئل في مقابلة مع موقع Axios عما إذا كانت إسرائيل ستُحاسب على الهجمات على أحد أبراج غزة، التي كانت تضم المقر الرئيسي لوكالات إعلامية دولية منها قناة "الجزيرة" القطرية ووكالة Associated Press، كرَّر الشعار الأساسي الذي ترفعه الإدارة الأمريكية مع أي تطرقٍ إلى هذا الموضوع: "إسرائيل تمتلك حق الدفاع عن نفسها، وقد كانت الطرف الذي تلقى هجمات صاروخية عشوائية".
وتابع بلينكن بالقول: إن "إسرائيل بوصفها دولة ديمقراطية يقع عليها عبء إضافي للتوثق من أنها تبذل كل ما في وسعها لتجنب وقوع خسائر في صفوف المدنيين".
لكن بمجرد النظر إلى عدد القتلى من المدنيين في غزة يتضح أن إسرائيل لم تتخذ تلك الاحتياطات الكافية، ومع ذلك فإنه لا يوجد مؤشرات حتى الآن عن أن إدارة بايدن جادة في فرض عواقب على إسرائيل لدواعي إساءة استخدامها للأسلحة الأمريكية.
على صعيد آخر، فإن الهجمات على غزة ليست سوى جانب واحد من النهج الإسرائيلي الذي وصفته منظمة "هيومن رايتس ووتش" بأنه نهج يفرض "حرماناً شديداً إلى درجة ترقى به إلى مستوى الفصل العنصري والاضطهاد، وهما جريمتان ضد الإنسانية".
تجدر الإشارة إلى أنه في عام 1991 امتنع الرئيس جورج إتش بوش عن تقديم ضمانات قروض لإسرائيل إلى أن توقف بناء المستوطنات، وألغت الحكومة الأمريكية فعلاً المساعدات التي وعدت بها إسرائيل.
في ضوء المواقف القوية للأعضاء التقدميين في الكونغرس، فإن هذا يعني أن إدارة بايدن تستطيع أن تفعل شيئاً مماثلاً.
يقول موقع Responsible Statecraft: "حان الوقت الآن للتراجع عن مسار الدعم العسكري الأمريكي لإسرائيل رداً على قمعها المستمر للفلسطينيين. وفي هذا السياق، يشكِّل وقف بيع القنابل دقيقة التوجيه لإسرائيل نقطة بداية جيدة لذلك.