يبدو أن استراتيجيات السعودية والإمارات في اليمن قد تغيرت مع يأسهما من هزيمة الحوثيين وتحولت إلى السعي للهيمنة على المناطق الاستراتيجية في اليمن التي تمثل أهمية خاصة للملاحة الدولية، ولاسيما طرق نقل النفط.
فمع تعثُّر عملية السلام بين المتمرِّدين الحوثيين والتحالف الذي تقوده المملكة السعودية في اليمن، رسَّخت المملكة والإمارات قبضتهما على أجزاءٍ استراتيجية من البلاد. ومن غير المُرجَّح أن تتخلَّى الرياض وأبوظبي عن مكاسبهما دون ضغوطٍ دولية كبيرة، حسبما ورد في تقرير لمؤسسة Brookings الأمريكية.
ورفض الحوثيون مبادرة سعودية لوقف إطلاق النار، طرحت خلال شهر مارس/آذار 2021.
فقد اقترحت السعودية سلسلة من الخطوات لإنهاء الحرب المستمرة منذ سنوات في اليمن، بما في ذلك وقف شامل لإطلاق النار يبدأ بمجرد قبول الحوثيين، أي بعد سبع سنوات من الحرب الأهلية في البلاد.
ويأتي موقف الحوثيين بعد زيادة عدد هجماتهم تجاه السعودية.
استراتيجيات السعودية والإمارات في اليمن تركز على المناطق الحيوية
ركَّزَ السعوديون اهتمامهم على محافظة المهرة، شرقيّ اليمن، وهي ثاني أكبر محافظة في اليمن ومتاخمة لسلطنة عمان. المهرة بعيدةٌ عن الأراضي التي يسيطر عليها الحوثيون في شماليّ اليمن، ويسكنها مسلمون سنَّة. ويتحدَّث الكثير من سكَّان المحافظة لغة المهرة، مِمَّا يميِّزهم عن السكَّان المتحدِّثين باللغة العربية في جميع أنحاء اليمن.
قد يصل عدد سكَّان المحافظة إلى 300 ألف نسمة، رغم أن التقديرات السكَّانية في اليمن متضاربة للغاية. ولطالما ارتبطت المهرة ارتباطاً وثيقاً بمحافظة ظفار العمانية المجاورة، والتي تضم أيضاً عدداً قليلاً من السكَّان الناطقين بالمهرة.
وانتقل حوالى ربع مليون شخص للعيش في المهرة منذ العام 2015، ما أدّى إلى ارتفاع عدد سكانها ليصبح 550 ألف نسمة وتصل بعض التقديرات إلى أن عددهم بلغ 650 ألفاً منذ أوائل العام 2019، وفقاً للسلطات المحليّة. إذا صحّ هذا التقدير، فهذا يعني أن أكثر من ثلث سكان المهرة يتحدّرون من محافظات أخرى، حسبما ورد في تقرير لمركز كارنيغي الأمريكي.
لماذا تسعى الرياض لتعزيز تواجدها في منطقة المهرة؟
ابتداءً من عام 2017، سيطَرَ السعوديون تدريجياً على المهرة، واحتلوا العاصمة والميناء، وسيطروا على المراكز الحدودية مع عمان، حسب تقرير مؤسسة Brookings.
وأفادت منظمة هيومان رايتس ووتش بأن السعوديين والقبائل المحلية المتحالفة معهم استخدموا القوة والتعذيب والاحتجاز التعسُّفي لسحق أيِّ معارضةٍ لاحتلالهم. ولدى السعوديين 20 قاعدة وبؤرة استيطانية في المحافظة الآن.
وسبق أن وجه يمنيون، بينهم مسؤولون حكوميون، انتقادات متكررة إلى السعودية والإمارات، حيث أرسلتا قوات إلى مناطق بعيدة عن نفوذ الحوثيين، خصوصاً في محافظتي سقطرى والمهرة (شرق)، ما أثار سخط كثيرين شددوا على ضرورة تحرير المناطق الواقعة تحت سيطرة الحوثيين، وليس التوجه شرقاً لتحقيق "مطامع توسعية".
في الغيضة، وهي المركز الإداري للمهرة، ثمة ساحة صغيرة تضم مدرّجاً كان مخصّصاً للاحتفالات الرسميّة، بيد أنه تحول إلى موقع للاحتجاجات التي يشارك فيها المئات، لا بل أحياناً الآلاف من الأشخاص ضد التواجد العسكري السعودي في المحافظة، وفقاً لتقرير لمركز كارنيغي الأمريكي.
في أيلول/سبتمبر 2019، أسّس قادة احتجاجات المهرة، بدعم من عُمان، مجلس الإنقاذ الوطني الجنوبي لمواجهة المجلس الانتقالي الجنوبي المدعوم من الإمارات وإخراج القوات العسكرية التابعة للتحالف بقيادة السعودية من كلٍّ من المهرة وجنوب اليمن. ويُطالب هؤلاء القادة من السعودية بوقف التدخلات، وإعادة جميع المرافق الحيوية بما في ذلك المنافذ والمؤسسات الحكومية، وتسليمها إلى أبناء المهرة.
يكمن هدف السعوديين الأساسي والمعلن في إبقاء الحوثيين خارج شرق اليمن، لكن مصالحهم الاقتصادية المتزايدة في المهرة دفعتهم لإبعاد الإمارات، التي تريد هي الأخرى السيطرة لحماية خطوط الملاحة التجارية على الساحل الجنوبي اليمني، حسب كارنيغي.
فمن الواضح أن استراتيجيات السعودية والإمارات في اليمن قد تتصادم أحياناً.
أما عُمان، التي كانت أكثر حياديةً في السابق، فقد عزّزت بدورها دعمها غير المباشر لليمنيين – عبر المال والسيارات والتغطية الإعلامية والاتصالات الدبلوماسية – لتأمين حدودها. لايزال مجهولاً كم ستدوم فترة السلام النسبي هذه في ظل ظروف كهذه.
لأنها توفر للمملكة ممراً مباشراً إلى المحيط الهندي
والسيطرة على المهرة تمنح المملكة السعودية وصولاً مباشراً إلى المحيط الهندي. وتعتزم الرياض بناء خط أنابيب نفطي من منطقتها الشرقية الواقعة على ساحل الخليج العربي عبر المهرة إلى البحر العربي المفتوح على المحيط الهندي، بحسب بعض التقارير.
ومن شأن ذلك أن يخفِّف من اعتماد السعودية على مضيق هرمز (الذي يصل بين المحيط الهندي والخليج) لتصدير النفط، وهو المضيق الذي يستطيع الإيرانيون تهديد الملاحة به، ويعتبر واحداً من أهم الأوراق في أيديهم ضد دول الخليج عامة.
ويراقب العمانيون عن كثبٍ دور السعوديين في المهرة. كانت المهرة قاعدةً لجنوب اليمن الشيوعي لدعم تمرُّد ظفار في السبعينيات، والذي هُزِمَ بعدما أرسل شاه إيران قواتٍ لمساعدة الجيش العماني. وتُعَدُّ سلطنة عمان هي الدولة الخليجية الوحيدة التي لم تنضم إلى التحالف السعودي، وظلَّت محايدةً في اليمن، وغالباً ما تستضيف محادثاتٍ مع الحوثيين في مسقط. ورأى السلطان قابوس في العام 2016 أن قرار السعودية بالتدخُّل في اليمن كان قراراً متهوِّراً. أما خليفته، فهو مهتمٌّ بمستقبل اليمن حقاً، ولا سيما محافظتيّ المهرة وحضرموت في الجنوب الشرقي من اليمن.
أبوظبي تركز على الجزر.. وها هي تسيطر على واحدة من أكثر جزر العالم استراتيجية
من ناحيةٍ أخرى، تركِّز أبوظبي على جزر اليمن الاستراتيجية. وقلَّصَت الإمارات دورها في الحرب العام الماضي. اختار الإماراتيون بهدوءٍ الخروج من المستنقع اليمني قدر الإمكان، وقلَّلوا من وجودهم في عدن بشكلٍ كبير. ولا يزال لديهم بعض الجيوب الصغيرة من القوات في مدينتيّ المخا وشبوة، وفي مدنٍ أخرى أيضاً.
لكن الإمارات نشطةٌ في العديد من الجزر الرئيسية. وفي الفترة الأخيرة، أظهرت صورٌ للأقمار الصناعية أن الإمارات تشيِّد قاعدةً جوية كبيرة في جزيرة ميون، الواقعة في مضيق باب المندب، الذي يربط بين البحر الأحمر وخليج عدن. وتبلغ مساحة الجزيرة 5 أميال مربَّعة، وتمثِّل مفتاح السيطرة على باب المندب.
كانت الجزيرة، المعروفة أيضاً باسم بريم، هدفاً للإمبراطوريات منذ العصور القديمة.
فلقد تصارعت البرتغال والإمبراطورية العثمانية عليها في القرن السابع عشر. وانتزعها البريطانيون من العثمانيين عام 1875 أثناء حفر قناة السويس في مصر.
وسيطرت جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية الشيوعية عليها في عام 1968، وشاركت هذه الجمهورية مع مصر في محاصرة المضايق المؤدِّية إلى إسرائيل خلال حرب 1973. وأخيراً، أخذها الحوثيون عام 2015، لكنهم خسروها للإماراتيين عام 2016.
وقبلها سيطرت على واحدة من أغرب جزر العالم
تسيطر أبوظبي أيضاً على جزيرة سقطرى في خليج عدن، وهي أكبر بكثيرٍ من جزيرة ميون، وهي الأكبر في الأرخبيل اليمني، ويبلغ سكَّانها 60 ألف نسمة. تاريخياً، كانت الجزيرة جزءاً من سلطنة المهرة قبل أن تصبح جزءاً من جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية. ولدى الإماراتيين قاعدةٌ عسكرية هناك تُستخدَم لجمع المعلومات الاستخباراتية عن التحرُّكات البحرية في باب المندب وخليج عدن.
ولطالما كانت جزيرة سقطرى، وهي جزء من أرخبيل سقطرى اليمني، وجهةً آسرة لعشاق السفر والأكاديميين. وقد أكسبتها فصائل الكائنات النادرة والمناظر الطبيعية الخلابة التي ما زالت بكراً لم تمسها أيادي البشر والثقافة المحلية المتمردة لقبَ "غالاباغوس المحيط الهندي".
وأطلق عليها مدونون اسم الجوهرة الخفية لبحر العرب، فيما وصفها آخرون بـ"المكان الأكثر غرابة في العالم"، حسبما ورد في تقرير لصحيفة The Independent البريطانية.
وأفادت تقارير صحفية مؤخَّراً أن سياحاً إسرائيليين يزورون سقطرى، كجزءٍ من اتفاقات أبراهام بين إسرائيل والإمارات. وزار آلاف الإسرائيليين دبي وأبوظبي، ويبدو أن بعضهم يستفيدون من الرحلات الأسبوعية للجزيرة. واحتجَّت حكومة الرئيس اليمني عبد ربه منصور هادي على حركة السياحة هذه، وطالبت باستعادة السيادة اليمنية على الجزيرة، لكن أبوظبي تجاهلت طلب منصور هادي منذ فترةٍ طويلة.
وتحرص كلٌّ من الرياض وأبوظبي على تحقيق استفادةٍ من ذلك المستنقع الذي قفزتا فيه عام 2015 وكبَّدهما الكثير من الخسائر. قد يكون الاستحواذ على الأراضي ذات الأهمية الاستراتيجية هو المكسب الوحيد الممكن. وقد يجري الاستحواذ بحكم الأمر الواقع، ولن تقبله أيُّ حكومةٍ يمنية أبداً.
ويرى تقرير مؤسسة Brookings الأمريكية أنه يتعيَّن على الولايات المتحدة ألا تكون طرفاً في تمزيق أوصال اليمن. وويشير إلى أنه إذا تم التوصُّل إلى وقفٍ لإطلاق النار في اليمن، قد يضطر السعوديون إلى إخلاء المهرة ويفعل الإماراتيون الأمر ذاته ميون وسقطرى، وإعادة السيطرة عليها إلى اليمنيين.