منذ أن تولى إيمانويل ماكرون رئاسة فرنسا في عام 2017، جعل إفريقيا جزءاً أساسياً من سياسته الخارجية. وفي خطاب ألقاه عام 2017 في بوركينا فاسو، تعهد ماكرون بالتأسيس لعلاقة جديدة بين القارة وأحد مستعمريها السابقين.
في وقت مبكر من رئاسته، كشف ماكرون أن اهتمامه بإفريقيا يتجاوز شؤون المستعمرات الفرنسية السابقة، وعلى هذا النحو جاءت زيارته لنيجيريا في عام 2018، ورقصته الشهيرة في ملهى الموسيقي الإفريقي فيمي كوتي، إلى الاجتماع برواد الأعمال الشباب في قطاع التكنولوجيا بالبلاد. كما أنه أيَّد الحملات الداعية إلى إعادة القطع الأثرية المنهوبة من إفريقيا، إلا أن ذلك لم يمنعه من خيانة بعض ما يعلنه من تحيزات عندما وصف التحديات التي تواجهها إفريقيا بأنها تحديات "حضارية"، بما ينطوي عليه ذلك من عنصرية.
لكن بعيداً عن سقطاته، أوفى ماكرون بوعده بتعزيز العلاقات بين إفريقيا وفرنسا. لكن، ومع كل هذه المصالح واسعة النطاق، يبدو من الصعب حتى الآن تبيُّن أهداف ماكرون وفك شيفرة تحركاته في القارة، بحسب تقرير لمجلة Foreign Policy الأمريكية.
اجتماعات رفيعة المستوى في فرنسا
في الأسبوع الماضي، استقبلت باريس مجموعة من قادة الدول الإفريقية. وفي 17 مايو/أيار، استضاف ماكرون "المؤتمر الدولي لدعم المرحلة الانتقالية بالسودان"، الذي أُقيم لدعم سودان ما بعد عمر البشير في خطواته للعودة إلى المجتمع الدولي.
أسهمت فرنسا في التوسط من أجل صفقةٍ لتخفيف ديون السودان عن طريق تقديم قرض مرحلي لسداد متأخرات الخرطوم إلى صندوق النقد الدولي. ولمَّا كانت تقدم نفسها راعياً للبلد المنتقل إلى الديمقراطية حديثاً، ساعدت فرنسا أيضاً في جمع ملياري دولار من التبرعات للسودان من المملكة المتحدة والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي ودول أخرى.
وفي اليوم التالي لاجتماع القادة الأفارقة، عقد ماكرون قمة حول تمويل الاقتصادات الإفريقية: جمع فيها خبراء من البنك الدولي وصندوق النقد الدولي في القاعة نفسها مع القادة الأفارقة من السنغال وموزمبيق ونيجيريا وجنوب إفريقيا وجمهورية الكونغو الديمقراطية، وغيرها من الدول، وكان محور النقاش الرئيسي قضية ديون إفريقيا وسبل مساعدة القارة في التعافي من آثار جائحة كورونا.
وفي مؤتمر صحفي، عقده برفقة رئيس جمهورية الكونغو الديمقراطية، فيليكس تشيسكيدي -الذي ترأس بلاده كذلك الاتحاد الإفريقي هذا العام- والرئيس السنغالي ماكي سال، دافع ماكرون عن إعادة هيكلة الديون الدولية للبلدان الإفريقية بحيث تشمل مجموعة جديدة من المنح وسبل التمويل؛ للمساعدة في التعافي من الجائحة، إلى جانب توفير الأدوات الاقتصادية لمواجهة الخطر المتعاظم للإرهاب في القارة.
زيارة إلى بريتوريا في جنوب إفريقيا
ونشر ماكرون تغريدة على موقع تويتر خلال المؤتمر، قائلاً فيها: "أغلى ما تملكه إفريقيا من أصول هو شبابها. فهُم الأكثر ديناميكية في العالم. لكنَّ دعم هذا القطاع لم يكن قط أولوية. لذلك، فنحن نتلافى هذا التناقض الآن، مع إطلاق تحالف لريادة الأعمال في إفريقيا".
يبدو هذا الاتجاه هو بالضبط ما يريد السياسيون وصناع القرار في إفريقيا دعمه. كما أن هذا النوع من الخطوات يتوقع أن يكون له دور مؤثر في توقف تدفق المهاجرين الأفارقة إلى أوروبا، وهذه القضية تشكل مصدر قلقٍ رئيسي للرئيس الفرنسي مع اقتراب انتخابات 2022 في فرنسا، التي يُحتمل أن يواجه فيها تحدياً قوياً من مرشحة اليمين المتطرف المعادية بشدة للهجرة والمهاجرين مارين لوبان.
هذا الأسبوع، يسافر ماكرون إلى جنوب إفريقيا، حيث يلتقي رئيس جنوب إفريقيا سيريل رامافوزا، الذي نصَّب نفسه قائداً لحملة الترويج للتطعيم ضد لقاح كورونا في إفريقيا. وقد أبدى ماكرون الدعم لهذه الجهود، داعياً إلى تقديم تبرعات للمساعدة في تعزيز حملة التطعيم ضد لقاح كورونا في إفريقيا، ويشمل ذلك الإمداد بالفائض من اللقاحات وتمويل برامج الصحة العامة.
وهي مساعٍ محمودة، لا سيما إذا استحضرنا الاتجاه السائد في كثير من دول العالم الغنية لتكديس اللقاحات في مخازنها. لكن ذلك غير مُنبتّ الصلة بعاملٍ آخر، وهو أن جنوب إفريقيا دولة لها أهمية استراتيجية بارزة، فهي طرف له أدوار رئيسية في منطقة تواجه الآن تمرداً يوصف بأنه تهديد إرهابي في موزمبيق. وقد التقى ماكرون بالفعل رئيسَ موزمبيق، فيليب نيوسي، في باريس، الأسبوع الماضي، ويُتوقع أنه طلب دعماً فرنسياً في محاربة التمرد.
إصلاح العلاقات مع رواندا
قبل وصوله إلى جنوب إفريقيا، يبدأ ماكرون جولته من العاصمة الرواندية كيغالي، حيث يُفترض أن تكون زيارته الرسمية للبلاد "الخطوة الختامية في طريق تطبيع العلاقات بين فرنسا ورواندا"، وفقاً لما قاله مسؤول في القصر الرئاسي الفرنسي، كما ستشهد الزيارة إعلاناً تاريخياً عن سفير فرنسي جديد في كيغالي.
كانت رواندا قد قطعت العلاقات الدبلوماسية مع فرنسا في عام 2006، بعد أن أصدر قاضٍ فرنسي أمرَ توقيف بحق مساعدين للرئيس الرواندي، بول كاغامي، بسبب تورطهم المزعوم في اغتيال سلفه، جوفينال هابياريمانا.
وقُتل رئيس عشيرة الهوتو السابق، الذي كان لوفاته دور كبير في إطلاق حملة الإبادة الجماعية لعشيرة التوتسي عام 1994، بعدما أُسقطت طائرته التي كان يقودها طاقم فرنسي. ورداً على أوامر الاعتقال، أمرت الحكومة الرواندية بمظاهرات مناهضة لفرنسا وطردت السفير الفرنسي من البلاد.
عادت العلاقات بين البلدين في عام 2009، لكنها كانت علاقة فاترة هيمنَ عليها انتقاد رواندا لتواطؤ فرنسي في الإبادة الجماعية التي شهدتها البلاد. غير أن هذا العام شهد ما يشبه نقطة تحوُّل بالعلاقات بعد أن أقرت لجنة فرنسية في مارس/آذار، بأن فرنسا تتحمل "مسؤولية جسيمة" لامتناعها عن بذل مزيدٍ من الجهود لوقف عمليات القتل بحق المدنيين.
وعلى هامش القمة التي عُقدت الأسبوع الماضي، قال كاغامي لقناة France24 الإخبارية الفرنسية إنه رحب بالتقرير، لأنه راعى "مقاربة الحقائق"، وإن البلدين لديهما الآن فرصة لبناء علاقات قوية. كما أجرى كاغامي وماكرون محادثات ثنائية خلال القمة.
هل أصبحت الديمقراطية آخر الأولويات؟
في مقالٍ كتبه الصحفي الفرنسي البارز فيليب برنارد بصحيفة Le Monde، قال إن ثمة تساؤلات تتعلق بالمضمون الذي ستكون عليه العلاقة بين البلدين، مشيراً إلى أن فرنسا، وإن أقرت بمسؤولية دورها في الإبادة الجماعية، فإن ذلك لا ينبغي أن يعني غض الطرف عن الطبيعة الاستبدادية التي لا تخطئها عين للنظام الرواندي الحالي.
ومع ذلك، فإن الواقع يشهد بأن فرنسا لطالما تعامَت تاريخياً عن هذه السمة في حلفائها، لاسيما عندما يكونون مهمّين لمصالحها الاستراتيجية في إفريقيا. ويكفي هنا الإشارة إلى أن ماكرون حضر شخصياً منذ فترة قريبة، جنازة الدكتاتور التشادي إدريس ديبي، وأبدى الدعم للحكومة الانتقالية العسكرية التي يديرها نجل ديبي، وذلك رغم انتقادات المراقبين ومنظمات المجتمع المدني؛ لما في ذلك الدعم من هدرٍ لفرصة تاريخية لإقامة نظام ديمقراطي في البلاد.