من داخل قصر الرئاسة بقرطاج، يُثار جدل بعدما نشر موقع "ميدل إيست آي" البريطاني، الأحد، وثيقة "مسرَّبة" تحدثت عن مزاعم "انقلاب" تدبره الرئاسة التونسية ضد الحكومة الحالية.
وثيقة سُرِّبت في وقت بدأت فيه ملامح انفراج الأزمة السياسية تلوح في الأفق، بعد قبول الرئيس قيس سعيد أواخر الشهر الماضي بالحوار الوطني، وهو ما وصفه كثيرون "بالخطوة الإيجابية".
وعلى الرغم من أن الوثيقة المسرّبة وضعت الرئاسة مجدداً في محل "إحراج"، فإن الأخيرة نفت صحتها وأي علاقة بها.
رئيس الجمهورية خرج عن صمته بعد أيام من نشر الوثيقة، وأكد خلال لقاء جمعه بوزير الدفاع إبراهيم البرتاجي وبرئيس الحكومة والمكلف بشؤون وزارة الداخلية هشام المشيشي، أنهم (الرئاسة) "ليسوا دعاة انقلاب ولا دعاة خروج عن الشرعية"، بل "دعاة تكامل بين المؤسسات".
أما مستشار الرئيس وليد الحجام، فاعتبر أن توقيت نشر هذه الوثيقة "غير بريء" و"تقف وراءه جهات لا تريد الخير لتونس وتعمل على التشويش وعلى (ترذيل) مؤسسة رئاسة الجمهورية ومس هيبة الدولة".
وأضاف أن "الوثيقة المزعومة تتضمن أخطاء شكلية لا يمكن أن تصدر عن الرئاسة ولم ترد عليها، ونحن ننفي نفياً تاماً ما ورد في مضمونها، وننزه أنفسنا عن مثل هذه الأساليب التافهة والساذجة".
دفاع عن النفس
وفي حديث لـ"الأناضول"، قال المحلل السياسي طارق الكحلاوي إنّ "الرئيس قيس سعيد أراد قطع النّقاش حول موضوع الوثيقة المسربة حتى لا يذهب في اتجاهات أخرى، خاصّة لجهة التّشكيك في تمسكه بتطبيق الدّستور".
وأوضح: "هناك نقطة كثيراً ما ركز عليها الرئيس، وهي أنه وعلى الرغم من عدم اتفاقه مع الدستور الحالي، فإنه أقسم على احترامه".
وزاد: "سياسياً، فإن سعيد في موقع دفاعي أمام هذه الحملة ضده، ولكنه في الوقت ذاته حافظ على التسلسل الوظيفي، حتى إنه استقبل هشام المشيشي كوزير داخلية".
ورأى الكحلاوي أن "سعيد في موقف دفاعي، وقد يحمل تغير لهجته تكتيكاً أو انحناء في وجه العاصفة، لا سيما أنه قبل أسبوعين كان هناك قبول واتجاه نحو إجراء حوار وطني للخروج من الأزمة الحالية".
وأشار إلى أن لرئيس الجمهورية "رؤية ما زالت واضحة للأزمة، وتفيد بأن الفريق الحكومي الحالي غير قادر وغير مؤهل لمواجهة الأزمات التي تمر بها البلاد، وهو رأي جزء من التونسيين".
في السياق ذاته، اعتبر المحلل السياسي كمال الشارني، لـ"الأناضول"، أن "سعيّد الآن في موقف دفاع، إذ الأصل كان على الرئاسة المسارعة بالنفي وطلب نشر تكذيب رسمي في الصحيفة البريطانية إذا كانت الرسالة مزورة أو أن الرئاسة لم تتلقها أصلاً".
وتابع الشارني أن "تغير اللهجة والخطاب، وحتى المفردات لدى الرئيس ليس عفوياً، وليس لدي شك في أن هناك من نصحه بذلك لما تخلفه خطبه عادة من إحساس بالتشنج والغموض والتهديد وتقسيم التونسيين."
وقال: "علينا أن ننتظر لنتأكد أن هناك تغييراً حقيقياً وعميقاً في خطب الرئيس المقبلة تجاه خصومه ومنافسيه".
استثمار في الصراع السياسي
غير أن الكحلاوي رأى أن "أولوية من سرّب الوثيقة هي الاستثمار في الصراع السياسي في تونس، إذ كانت هناك بوادر حوار بين رئيس الجمهورية ورئيس البرلمان في الفترة الأخيرة، ومن شأن مثل هذه التسريبات أن تعطل ذلك، ومن نشرها لا يريد أن تحدث توافقات سياسية في البلاد."
ولفت إلى أن "من يعتبر أن تصريحات الرّئيس تحمل اعترافات ضمنية بصحة الوثيقة فهو يمارس مغالطات.. فسعيد أخذ مسافة من الوثيقة، وقال إنه لا علاقة لها بمؤسسة الرئاسة".
وتابع الكحلاوي: "حتى وإن أرسلت الوثيقة من خارج الديوان الرئاسي، فمن الواضح أن من أرسلها أضاف عليها بعض المؤثرات كعبارة سري مطلق (شكلياً لا تتطابق مع ما هو معتمد في وثائق الرئاسة)".
وفي هذا الصدد، قال الشارني: "صحيح أن الرسالة لا تحمل أي علامة رسمية أو مرجعاً إدارياً على مصدرها أو متلقيها، لكنها مثيرة للشبهات والشكوك في ظل اللغط القوي الذي نسمعه عن توسيع صلاحيات الرئيس في قانون الطوارئ والفصل 80 من الدستور، وكان على الرئاسة أن تتبرأ منها بقوة ووضوح".
نصف اعتراف
وأضاف الشارني: "فوجئنا بنصف اعتراف من الرئيس بأن ما يسمى بوثيقة "مشروع الانقلاب" قد تكون تسربت من القصر، وذلك حين هون من مسؤوليتها بالنسبة إلى رئاسة الجمهورية، على أساس أن تلقي رسالة لا يحمل متلقيها مسؤولية ما فيها".
وأضاف: "شخصياً، لم أستغرب هذا الاعتراف الجزئي حين نتذكر أن الرئاسة لم تسارع بالإعلان عن نيتها مقاضاة مروجي الخبر أو الإشاعة أو عن تتبع الصحيفة البريطانية".
وتابع: "لم يصل سعيد إلى إقرار واضح بأن هذه الوثيقة تسربت من قصر قرطاج، لكنه قال إن تلقي الرسائل لا يحمله أية مسؤولية، وهو نصف اعتراف بأن هذه الرسالة قد تكون وردت فعلاً على مصالح رئاسة الجمهورية".
وزاد: "أعتقد أنه (رئيس الجمهورية) لا يجيب عن السؤال الحقيقي، وهو هل طلبت الرئاسة مثل تلك الاستشارة من أحد ما؟ وهنا تكمن خطورة المسؤولية".
صراعات داخلية
كما اعتبر الشارني أن "العلاقة بين الرئاسة وبقية مؤسسات الدولة لا تخلو من صراعات مباشرة وخفية، وضرب تحت الحزام بالوكالة. هذا أصبح عادياً في ظل تنامي التسريبات والوثائق منذ أعوام في إطار الحروب بين السياسيين والمتنفذين في البلاد".
وتابع: "إن تسريب مثل هذه الوثيقة يهدف إلى إحراج الرئيس وخصوصاً من حوله من المستشارين والحلفاء السياسيين بإظهارهم في صورة من يتآمر على الانتقال الديمقراطي ويعمل على نصب الفخاخ والمكائد لخصومه السياسيين، خصوصاً حين يحدث ذلك في ظل الانقلاب على الديمقراطيات الناشئة وآخرها في مالي".
واعتبر الشارني أن "الصراع داخل القصر الرئاسي موجود وعادي، وقد بدأ مع بداية فترة الرئاسة، وتمثل جلياً في رحيل مجموعة كبيرة من المستشارين كانوا مقربين من قيس سعيد".
"وعلى الرغم من الصمت الذي أحاط باستقالاتهم والتزامهم واجب التحفظ الذي نحترمه، فإننا لا نفهم تلك الاستقالات إلا أنها نتيجة صراعات عميقة في القصر"، وفق تعبير الشارني.
وعبر الكحلاوي، في السياق ذاته، عن أمله بأن "لا يضرب الجدل حول الوثيقة المسربة مسار الحوار الوطني. فلا يمكن تغيير هذه الحكومة من دون حوار بين الأطراف الرئيسية المنتخبة".
قصة الوثيقة
وكان موقع Middle East Eye البريطاني، قد كشف في تقرير له نشر الأحد 23 مايو/أيار 2021، عن وثيقة وصفها بـ"السرية للغاية" تكشف عن مخطط كان يعده كبار مستشاري الرئيس التونسي قيس سعيد، من أجل إعلان الانقلاب عن الحكومة المنتخبة الحالية، وذلك بعد جذب خصوم سعيد السياسيين إلى القصر الرئاسي، وإلقاء القبض عليهم، إلى جانب كبار السياسيين ورجال الأعمال الآخرين.
حسب الموقع البريطاني، فإن هذه الوثيقة التي توصل إليها، المؤرَّخة بتاريخ 13 مايو/أيَّار، كانت مُوجَّهة إلى نادية عكاشة، مديرة الديوان الرئاسي، وتحدِّد كيف سيسن الرئيس فصلاً من الدستور يمنحه سيطرةً كاملةً على الدولة، في حالة الطوارئ الوطنية، وذلك في الوقت الذي تكافح فيه هذه الحكومة جائحة فيروس كورونا المُستجَد ومستويات الديون المتزايدة.
تفاصيل عملية
بموجب الخطة، التي سُرِّبَت من مكتب عكاشة الخاص، يدعو الرئيس إلى اجتماعٍ عاجل لمجلس الأمن القومي في قصره بقرطاج، تحت ستار الجائحة والوضع الأمني والحالة المالية العامة للبلاد.
سيعلن سعيد بعد ذلك "ديكتاتورية دستورية" يقول عنها كاتبو الوثيقة إنها ستكون أداةً "لتركيز كل السلطات في يد رئيس الجمهورية".
كما وصفت الوثيقة الوضع بأنه "حالة طوارئ وطنية"، تنص على ما يلي: "في مثل هذه الحالة يكون دور رئيس الجمهورية أن يجمع كلَّ السلطات في قبضته حتى يصبح مركز السلطة التي تمكِّنه حصرياً من كلِّ السلطات التي تمكِّن حكمه".
بعد ذلك، ينصب سعيد كميناً للحاضرين- والذين يشملون رئيس الوزراء هشام المشيشي، وراشد الغنوشي، رئيس البرلمان وزعيم حزب النهضة- بالإعلان عن أنه سيفعِّل الفصل الـ80 من الدستور الذي يسمح للرئيس بالاستيلاء على السلطات في حالة الطوارئ الوطنية.
وتنص الوثيقة على أنه لن يُسمَح للمشيشي والغنوشي بمغادرة القصر، وأن القصر سيُفصَل عنه الإنترنت وجميع الخطوط الخارجية. وفي تلك المرحلة، سيوجِّه الرئيس خطاباً تلفزيونياً إلى الأمة بحضور المشيشي والغنوشي للإعلان عن انقلابه.
الإقامة الجبرية
ثم تنص الوثيقة على تعيين اللواء خالد اليحياوي قائماً بأعمال وزير الداخلية، ومن المقرر نشر قوات مسلحة "على مداخل المدن، والمؤسسات والمرافق الحيوية".
في الوقت نفسه، يتم وضع الشخصيات الهامة قيد الإقامة الجبرية، ورد في الوثيقة السرية: "من حركة النهضة.. نور الدين البحيري، ورفيق عبدالسلام، وكريم الهاروني، وسيد الفرجاني، ومن نواب كتلة الكرامة، وغازي القرعاوي، وسفيان طوبال، ورجال أعمال، ومستشارون في ديوان رئيس الوزراء، إلخ".
وقول الوثيقة أيضاً إنه من أجل زيادة القبول الشعبي للانقلاب، سيتوقف دفع كل فواتير الكهرباء والمياه والتليفونات، والإنترنت، والقروض البنكية والضرائب لمدة 30 يوماً، وستنخفض أسعار السلع الأساسية والوقود بنسبة 20%.
تعليقاً على الأمر، قال عضو في حكومة الرئيس لصحيفة Middle East Eye البريطانية، رداً على سؤاله إن كانوا يظنون أن سعيد خطط لانقلاب: "لا أعتقد ذلك. إنها مجرد شائعة من شائعات فيسبوك. في تونس يمكنك سماع أي شيء".
وتنص الوثيقة على أنه بمجرد أن يفجر الرئيس مفاجأته أمام رئيس الوزراء ورئيس البرلمان سوف يقصيان إلى مكان غير معروف ويتركان للنسيان.
منا تقول الوثيقة: "ثم تنتهي الجلسة ولا يُسمح للحاضرين بمغادرة قصر قرطاج، في حين تُقطع الاتصالات والإنترنت عن منطقة القصر الرئاسي مؤقتاً قبل وبعد الجلسة".
تحييد رئيس الوزراء
تتضمن الخطة أيضاً اقتراحات بمنع أي برلماني مطلوب من المحاكم التونسية من مغادرة البلاد، وإعفاء جميع المحافظين المنتمين لأي حزب سياسي من مناصبهم.
بالإضافة إلى أن رئيس الجمهورية سيُجري "تعديلاً وزارياً شاملاً، إذ يُبقي فقط على رئيس الوزراء، ولا أحد غيره".
في السياق نفسه، قال مصدر سياسي رفيع المستوى تربطه علاقات وثيقة بالرئاسة، رداً على السؤال عن سبب رغبة سعيد في الإبقاء على رئيس الوزراء في ظل استبدال كل وزرائه، إن هذا سيكون سبيلاً لتحييده دون الاضطرار إلى إقالته على الفور، لأنها عملية معقدة تتضمن تصويتاً من البرلمان.
وقال المصدر الذي طلب عدم كشف هويته إنه من المفترض أن يبقى المشيشي رئيساً للوزراء لفترة مؤقتة، لتجنب كل هذه الخطوات.
كما قال المصدر القريب لمستشاري سعيد إن الخطة طرحت للمناقشة في دوائر قريبة من الرئيس منذ شهر أبريل/نيسان 2021، لكنها لم تُقدم له مباشرة.
تمهيد الطريق "لانقلاب ناعم"
سبق اتهام سعيد، الذي تولى السلطة في عام 2019، أنه يعمل على تمهيد الطريق "لانقلاب ناعم" داخل تونس.
في وقت سابق من العام الحالي، وصف منصب الرئيس بأنه "القائد الأعلى للقوات المسلحة العسكرية والمدنية" في خطاب حضره المشيشي والغنوشي.
وقال: "لا يوجد تمييز. القانون ونصوص العالم وقانون العقود والالتزامات كلها تذكر ذلك. القوات المسلحة هي الجيش وقوى الأمن".
كما أثار ذكره الخاص لسلطة الرئيس على قوى الأمن الداخلي أجراس الإنذار داخل المؤسسة السياسية التونسية.
في الشهر الماضي، أوقف سعيد أيضاً الجهود البرلمانية لإنشاء محكمة دستورية، وهي عنصر أساسي في الثورة التونسية، وفعل بديهي لتعزيز الديمقراطية التونسية.
وكانت المحكمة ستصبح الأولى من نوعها في العالم العربي.
في يناير/كانون الثاني، رفض سعيد أيضاً أداء اليمين لوزراء اختارهم المشيشي في تعديل وزاري، قائلاً إن الأفراد المعنيين لديهم تضارب في المصالح.
وقال المصدر السياسي: "الحل الوحيد هو الحوار، الرئيس قيس يرفض كل مبادرات الحوار.. كان مشروعه يقتضي تعديل الدستور، وإلغاء الانتخابات التشريعية".