إحدى المفارقات الغريبة التي أظهرتها حرب غزة كان فشل الاستخبارات الإسرائيلية في الوصول لأسلحة المقاومة الفلسطينية وأنفاقها وأبرز قادتها، مقارنة بنجاح الاستخبارات الإسرائيلية في عملياتها ضد إيران لا سيما برنامجها النووي.
ورغم محاولات ادعاء النصر، فإن هناك اعترافاً واسع النطاق في إسرائيل بوجود فشل استخباراتي أدى إلى نقص الأهداف ذات القيمة التي يمكن للجيش الإسرائيلي قصفها، وفي الوقت نفسه استمرت الصواريخ الفلسطينية تطلق من غزة حتى اللحظات الأخيرة من الحرب.
ولم تنجح إسرائيل في الوصول إلى عدد مؤثر من القادة العسكريين للمقاومة الفلسطينية خاصة قائد الجناح العسكري لحماس محمد الضيف أو تدمير ذي مغزي لشبكة الأنفاق التي قالت حماس إنها تمتد لـ500 كيلومتر تحت غزة دمرت منها إسرائيل 5%، حسب تصريح يحيى السنوار، رئيس حركة حماس في قطاع غزة، الأربعاء 26 مايو/أيار 2021.
فشل الاستخبارات الإسرائيلية شل قدرات جيش الاحتلال
وحتى قبل الحرب فشلت الاستخبارات الإسرائيلية في الكشف عن امتلاك حماس لصواريخ تصل إيلات، وفي توقع تكتيكات المقاومة الفلسطينية للتغلب على القبة الحديدية مثل تكتيك الزخات أو الرشقات الصاروخية.
وكان من الواضح أن المشكلة بالنسبة لإسرائيل، ليست في القدرات العسكرية الإسرائيلية التي لا شك في تفوقها الهائل على المقاومة الفلسطينية ولكن المشكلة الأساسية في نقص المعلومات وقلة عدد الاهداف التي يمكن ضربها، والفشل في كشف تكتيكات الخداع والتمويه لدى حماس والجهاد بفضل قدرتها على بناء جزء من بنيتها العسكرية وإخفاء قيادتها بطريقة لا تصل إليها أعين الاستخبارات الإسرائيلية ولا أسلحة الجيش الإسرائيلي، حتى لو نجح الأخير في استهداف بعضها.
ووصل الأمر إلى مطالبة بعض المعلقين الإسرائيليين بإجراء تطهير لقيادات جيش الإسرائيلي بسبب أداء حرب غزة، مثلما قال ألوف بن، رئيس تحرير صحيفة هآرتس "Haaretz" الإسرائيلية.
رئيس الموساد الجديد له خبرة في التعامل مع الملف الإيراني
ومع نهاية الحرب، جرى الاحتفاء في إسرائيل بأنه سيتم تعيين رئيس جديد لجهاز الموساد هو ديفيد برنيع، فيما بدا أنه رغبة في إصلاح مواطن الفشل الاستخباراتي الإسرائيلي الذي ظهر في حرب غزة.
اللافت هنا أن تاريخ برنيع مرتبط بملف العمل الاستخباراتي ضد إيران وحزب الله، حيث عمل معظم حياته المهنية في وحدة "تسوميت"، وهو القسم المسؤول عن تحديد العملاء وتجنيدهم والتعامل معهم داخل الموساد.
وحين كان برنيع في وحدة تسوميت جند عملاء من مختلف أنحاء العالم على صلة بالمسائل ذات الأولوية الأعلى لدى الموساد: إيران وحزب الله، الحزب اللبناني.
وفي صيف عام 2018، تمت ترقيته ليصير نائباً لرئيس الموساد، ومن الواضح أنه كان المشرف على الملف الإيراني تحديداً.
وحين كان برنيع نائباً لرئيس الموساد، ومعنياً بالملف الإيراني، تم تنفيذ عملية الاغتيال الجريئة لمدير البرنامج النووي العسكري لإيران، محسن فخري زادة، في 27 نوفمبر/تشرين الثاني 2020.
وعلى مدار العقد الماضي، كانت إسرائيل قد ركَّزت انتباهها عسكرياً على الجبهة الشمالية، أي حزب الله اللبناني والصراع مع إيران، بينما اعتُبِرَت غزة جبهة ثانوية يمكن التعامل معها من خلال الإجراءات الاقتصادية، ومن خلال تسهيلات معينة لحصار غزة، مثل السماح بدخول مواد البناء، ومن خلال استثمار الجيش الإسرائيلي في الإجراءات الدفاعية، أولاً وقبل كل شيء منظومة القبة الحديدية وحاجز الأنفاق تحت الأرض على حدود غزة، وهو الحاجز الذي أثبت نفسه بإحباطه محاولات من جانب حماس للتسلل إلى إسرائيل براً، وفقاً للتقارير الإسرائيلية.
وكان يُنظَر إلى حماس في الأروقة العسكرية والاستخباراتية الإسرائيلية باعتبارها جاراً سيئاً، لكنَّه ضعيف ومعزول، وكانت المسألة الوحيدة التي تثير اهتمام الرأي العام الإسرائيلي هي النقاش الدوري حول عودة الأسرى الإسرائيليين وجثث جنود الجيش الإسرائيلي.
اختراقات كارثية
المفارقة هنا هي نجاح حركات المقاومة الفلسطينية في حماية أسرارها وإخفاء جزء كبير من المعدات والبنى العسكرية وقيادتها عين أعين الاستخبارات الإسرائيلية رغم أن غزة قريبة من إسرائيل وتخضع شبكات اتصالاتها وكل مظاهر الحياة فيها للتجسس الإسرائيلي والاختراق على مستويات عدة.
في المقابل كان هناك فشل إيراني تظهره سيرة برنيع الذاتية في حماية أسرار طهران العسكرية حيث لم تستطع إيران حماية أدق خصوصيات برامجها الحساسة مثل البرنامج النووي الإيراني، وهو ما ظهر في شهر أبريل/نيسان 2021 في الهجوم على منشأة نطنز النووية الإيرانية والذي ومن الواضح أنه حادث خطير.
إذ نقلت صحيفة New York Times الأمريكية عن اثنين من مسؤولي المخابرات الأمريكية الذين تم إطلاعهما على الأضرار أن الانفجار نجم عن انفجار كبير دمر بشكل كامل نظام الطاقة الداخلي المستقل -والمحمي بشدة- والذي يزود أجهزة الطرد المركزي تحت الأرض التي تخصب اليورانيوم.
وقال المسؤولون الأمريكيون، الذين تحدثوا للصحيفة الأمريكية شريطة عدم الكشف عن هويتهم، إن الهجوم على منشأة نطنز وجه ضربة قاسية لقدرة طهران على تخصيب اليورانيوم، وإن الأمر قد يستغرق تسعة أشهر على الأقل لاستعادة إنتاج نطنز.
وقال المتحدث باسم الخارجية الإيرانية إنه لم تقع إصابات أو تلوث نووي نتيجة الهجوم، لكن كان من الممكن أن يؤدي إلى "وضع كارثي".
ولكن إضافة لهجوم نظنز واغتيال عدد من العلماء النوويين الإيرانيين منهم فخري زادة، كشفت إسرائيل عن عملية محرجة للغاية للإيرانيين واختراق فادح لأمنهم وهو سرقة الأرشيف النووي الإيراني من قلب إيران.
وتضمن الأرشيف وثائق عن مشروع إيراني للتسلح النووي، ومواقع شهدت أنشطة نووية لم تبلغ عنها طهران، ومن بين الأسماء التي أشار إليها رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، خلال تفاخره بالعملية، العالم النووي محسن فخري زاده، الذي اغتيل بعد ذلك.
وقد اعترف محسن رضائي، أمين مجمع تشخيص مصلحة النظام في إيران، القائد الأسبق للحرس الثوري، بسرقة الأرشيف النووي الإيراني، وقال: "أصيب البلد بتلوث أمني واسع، في أقل من عام وقعت ثلاثة أحداث أمنية، انفجاران في نطنز، واغتيال عالمنا النووي (محسن زاده)، نفذوا مهماتهم بنجاح ولاذوا بالفرار، وقبل ذلك سرقوا مجموعة من وثائقنا النووية السرية، وفي وقت سابق، جاءت طائرات درون مسيرة مثيرة للشك وقامت ببعض الأعمال".
كما كشف تقارير صحيفة غربية عن أن الموساد جند شبكة من العملاء في إيران تتضمن عميلات لاختراق البرنامج النووي الإيراني.
الإيرانيون يعترفون بالقصور الأمني بل مستعدون للتنازل في المفاوضات النووية بسببه
بل وصل الأمر إلى أن هناك حديثاً عن استعداد إيراني لتقديم بعض التنازل في المفاوضات النووية بما في ذلك تقديم تنازل تاريخي يتضمن الموافقة على فرض قيود على برنامجهم الصاروخي ضمن الاتفاق النووي الإيراني، بسبب المخاوف الإيرانية من الاختراق الإسرائيلي الأمني للبرنامج النووي، بحسب ما ذكره تقرير لموقع Oilprice.com، نشر عقب هجوم نطنز.
إذ يقول التقرير "إنه على إثر الهجوم العلني على منشأة نطنز الإيرانية، خلصت إيران إلى أن درجة اختراق الأجهزة الاستخباراتية الأجنبية، الإسرائيلية بدرجة أساسية، إلى أشدِّ وحداتها العسكرية نخبوية وموثوقية -ومنها الحرس الثوري، وفيلق القدس- أكبر بكثير مما كانت تعتقد في السابق.
وقال مصدر إيراني للموقع: "من الواضح أن إسرائيل باتت قادرة الآن على ضرب الأهداف الإيرانية كما تشاء تقريباً، سواء عن طريق العمل العسكري المباشر أو من خلال الهجمات الإلكترونية على الأصول التي قامت عليها البنية التحتية لإيران منذ فترة طويلة، ومن ثم إلى أن تصل إيران إلى حل لتجاوز هذه الأزمة، فإن أي قدر من التقدم قد تحققه في تطوير أنظمة الصواريخ الخاصة بها وعمليات تخصيب اليورانيوم بعد نقطة معينة يظل محدوداً للغاية".
الغريب أنه يفترض أن حركتي حماس والجهاد باعترافهما، قد تعلمتا بشكل أساسي في الجوانب الأمنية والعسكرية على يد إيران وحزب الله.
بل إن طهران والحزب وأنصارهما يحاولان تقديم نجاح حماس والجهاد في حرب غزة الأخيرة باعتباره ثمرة لجهودهما.
كما أن الأغرب أن إيران دولة ثرية وكبيرة معروفة بمنظومتها الأمنية القوية الصارمة وتقدم نفسها للعالم ولخصومها ليس باعتبارها قوة عسكرية تقليدية ضخمة بالأساس بل بكونها قوة ذكية تعتمد على الميليشيات والعمليات الخفية والاستخباراتية، كما أن الحرس الثوري يسيطر على كافة المناحي في البلاد تقريباً، وكذلك إيران ليست دولة سياحة أو منفتحة ولديها نظام سياسي يشهد انتخابات تحت رقابة صارمة، تقصي أطياف كثيرة من المعارضة.
فكيف تستطيع الاستخبارات الإسرائيلية اختراق البرامج الإيرانية الحساسة بما فيها البرنامج النووي بينما استطاعت الحركات الفلسطينية الفقيرة المتواجدة في قطاع غزة المحاصر الذي يخضع للسيطرة الأمنية والجوية الإسرائيلية حماية بنيتها العسكرية رغم فارق القدرات الهائل بينها وبين إيران.
أسباب فشل إيران في منع الاختراقات الإسرائيلية
تمثل هذه النتيجة بطبيعة الحال فشلاً للإيرانيين ونجاحاً للمقاومة الفلسطينية وهناك أسباب عديدة وراء ذلك، ولكنه يثبت أن التلميذ أحياناً يتفوق على أستاذه حتى لو في نواح معينة.
وعند البحث الموضوعي لأسباب الفشل الإيراني في مواجهة الاختراق الإسرائيلي مقابل نجاح المقاومة الفلسطينية، يجب ملاحظة عدة أشياء.
أولها أن إيران في النهاية، ورغم أنها أقوى وأغنى من الحركات الفلسطينية وحزب الله إلا أن الدول بما فيها الدول المتقدمة مثل إسرائيل وأمريكا عرضة للتأثيرات السلبية للبيروقراطية، والأعراض الطبيعية للمجتمعات البشرية التقليدية التي قد تكون لها تأثيرات سلبية أمنياً وعسكرياً.
فالعاملون في الأجهزة الأمنية والعسكرية والنووية في إيران وإسرائيل على السواء مهما كانت كفاءتهم وقدراتهم وحماسة انتماءاتهم الوطنية فهم موظفون، ليس لديهم الحماسة الأيديولوجية لمقاتلي حماس والجهاد وحتى حزب الله، وهذه الحماسة تؤدي في الحركات الأيديولوجية أحياناً إلى فوضى وارتجال وشعبوية، ولكن الحركات الثلاث المشار إليها تتسم بانضباط عال قد يفوق الدول مع الحماسة الحركية.
ويكون أعضاء الأجهزة والمؤسسات العسكرية في الدول مهما قويت قدراتها الأمنية والأيديولوجية أقل استعداداً للتضحية بأنفسهم أو حتى التخلي عن نمط الحياة العادي مقارنة بأعضاء حركات التحرر الوطني خاصة إذا كانت حركات ذات مرجعية دينية أو وطنية أو يسارية.
فأعضاء الحركات الأيديولوجية عادة مناضلون كرسوا حياتهم لقضيتهم، بينما رجال الجيش والاستخبارات في مثل هذه الدول بدأوا حياتهم كطلاب متميزين، ثم أصبحوا موظفين أكفاء ومقاتلين محترفين، وقد ظهر هذا الفارق من قبل بين الطرفين في النضالات التي خاضتها حركات الاستقلال والتحرر في الدول النامية ضد الدول المتقدمة مثل الجزائر وفيتنام وأفغانستان.
أداء حزب الله أفضل من إيران
أحد مظاهر هذا التباين بين الدولة والحركة يظهر في فارق الأداء بين حزب الله ومؤسسات إيران بما فيها الحرس الثوري الذي درب حزب الله.
فلقد شارك حزب الله في القتال بشكل مباشر في سوريا وبضراوة ولعب دوراً أساسياً في تغيير دفة القتال رغم إرساله أعداداً لا تزيد عن بضعة آلاف في ذورة مشاركته، حسبما قال مصدر لبناني مطلع على شؤون الحزب لـ"عربي بوست"، ولكن هذه المشاركة أنقذت الجيش السوري التابع للأسد الذي كان تقدر أعداده بمئات الآلاف في بداية الحرب.
في المقابل لم يعرف أن الحرس الثوري الإيراني شارك في القتال بشكل مباشر في سوريا والعراق باستثناء دوره الإشرافي والتخطيطي.
ويقول محللون يراقبون أنشطة حزب الله اللبناني لـ"عربي بوست" إنه رغم أن الحرس الثوري هو من أسس حزب الله ودربه والحزب يعتبر فعلياً وحدة من الحرس، فإنهم يعتقدون أن مقاتلي الحزب أكفأ من الحرس (مع مراعاة فارق الحجم والإمكانيات)، بفضل طبيعة الحزب الحماسية والتركيبة اللبنانية المرنة والمنفتحة والجيدة التعليم، مقابل البيروقراطية والانغلاق في إيران، وأيضاً تراجع الحماسة الثورية في المجتمع الإيراني.
هل التوسع الإيراني كان لصالح الكم على حساب الكيف؟
هناك عنصر آخر، وهو أن إيران وسعت نفوذها بشكل كبير في المنطقة في السنوات الأخيرة ليشمل العراق وسوريا واليمن، وهذا التوسع أعطاها ميزة عددية وجغرافية في صراعها مع إسرائيل والسعودية، ولكنه قلل من كفاءة القوات التابعة لها بالذات في المجال الاستخباراتي والتكنولوجي، لأن الحشد الشعبي والميليشيات الشيعية الأفغانية والعراقية في سوريا، أقل كفاءة من حزب الله والحرس الثوري بالأخص في مجالات الاستخبارات والتكنولوجيا والتمويه، وهذا قد يفسر ضخامة الضربات التي وجهتها إسرائيل لإيران وأتباعها في سوريا.
كما أن توسع النشاط العسكري الإيراني في سوريا والعراق وكذلك توسع الأنشطة العسكرية والنووية في الداخل الإيراني جعلها أكثر علانية، وأكثر اعتماداً على الاتصالات والتكنولوجيا، وهي المجالات التي تسهل لإسرائيل الاختراق الأمني.
فكلما زادت أعداد المنخرطين في الأنشطة الحساسة وزاد استخدام التكنولوجيا زاد احتمال نجاح التجسس والإيذاء الأمريكي والإسرائيلي، ومهما حاول الإيرانيون تحقيق تقدم مواز في التكنولوجيا لمنع الاختراق (وهم يفعلون ذلك فعلاً) فإنه من الصعب عليهم التفوق على الأمريكيين والإسرائيليين في هذا المجال.
في المقابل، فإن الحركات الفلسطينية لم تحاول الدخول في مباراة مع الإسرائيليين في المجال التكنولوجي، كما أنها تبتعد مجبرة عن العلنية في أنشطتها العسكرية.
كما أن قرب حماس والجهاد وحزب الله من إسرائيل، وعلمهم بالاختراق الإسرائيلي الكامل للبنى الاتصالية والاجتماعية الهشة في لبنان وفي غزة المحاصرة، يجعلهم منذ البداية يتعاملون مع الاختراق الإسرائيلي كأمر بديهي يجب مراعاته في أي عمل بسيط أو حتى شخصي، (على سبيل المثال أصر حزب الله على تأسيس شبكة اتصالات أرضية منفصلة عن الشبكة الرسمية).
والمقاومة الفلسطينية تحديداً كانت في وضع مختلف تماماً عن الإيرانيين.
بالنسبة للفلسطينيين عامة كشعب يعلمون ويتعاملون مع الاختراق الإسرائيلي باعتباره جزءاً من حياتهم كالماء والهواء، عندما يتحدث أي فلسطيني في الهاتف مع زوجته يعلم أن هناك احتمالاً أن هناك ضابطاً أو جندياً إسرائيلياً على الجانب الآخر من الحدود يستمع لما يقوله.
وتاريخ الفصائل الفلسطينية كلها وخاصة فتح والحركات اليسارية عرف محاولات ابتزاز إسرائيلية باستخدام هذه الاختراقات.
كما أن الفصائل الفلسطينية عانت على مدار تاريخها بما فيها حماس والجهاد من خسائر كبيرة في القيادات السياسية والعسكرية تحديداً نتيجة الاختراقات الإسرائيلية الأمنية بدءاً من اغتيال أبوجهاد من حركة فتح في تونس وفتحي الشقافي مؤسس الجهاد والشيخ أحمد ياسين مؤسس حماس .
الضيف يكشف سر نجاح حماس
ينظر دوماً لمنصب قائد الجناح العسكري لحماس بأنه شهيد محتمل خاصة قبل تولي محمد الضيف المنصب ولكن الضيف قلب المعادلة عبر نجاته من محاولات اغتيال إسرائيلية متعددة على مدار نحو 20 عاماً أو يزيد.
ويقدم محمد الضيف نفسه تفسيراً للنجاح الفلسطيني في التغلب على الاختراق الاستخباراتي الإسرائيلي، فالرجل لكي يحقق هذا الإنجاز تخلى عن نمط الحياة التقليدي لإنسان القرن العشرين، عبر الاستغناء عن استخدام أي أجهزة اتصال، بل تخلى عن نمط الحياة العادي الذي عرفه الإنسان، منذ العصر الحجري، عبر الاختفاء في ظروف شديدة القسوة والغموض، والتضحية بنمط الحياة الاجتماعي الطبيعي الذي يحتاجه أي إنسان.
جعل الضغط الإسرائيلي الدائم على المقاومة الفلسطينية، مسألة الاختراق الاستخباراتي حياة أو موت، بالنسبة إلى القيادات العسكرية لحركتي حماس والجهاد.
بالنسبة للإيرانيين فإن قلة الإجراءات الاحترازية قد يعني تأخر البرنامج النووي الإيراني، ولكن بالنسبة للأجنحة العسكرية لحماس والجهاد، أي تصرف خاطئ قد يعني احتمالاً كبيراً جداً لموت صاحبه أو آخرين بما فيهم أهله.
وبينما قد تؤدي الاختراقات الإسرائيلية إلى تأخر برامج إيران العسكرية والنووية لفترة، فإنه في المقابل، لم يكن ليكتب للأنشطة العسكرية لحركتي حماس والجهاد البقاء، لولا هذا الحذر الشديد والفهم لأساليب الاختراقات الإسرائيلية وتطوير الإجراءات المضادة بسرعة.
ميزة التخلي عن التكنولوجيا
الأمر الثالث أنه بما أن العمل العسكري لحماس والجهاد قائم على استخدام أساليب وأسلحة بسيطة لا تعتمد على تكنولوجيا إطلاقاً أو قدر محدود من التكنولوجيا فإن هذا يصعب اختراقهما من قبل إسرائيل.
فالتقدم التكنولوجي يمثل مشكلة كبيرة لخصوم دولة متقدمة مثل إسرائيل لأنه من الصعب التفوق عليها في هذا المضمار لأن إسرائيل في الأغلب تتفوق على أغلب الدول المتقدمة فيه.
وبالتالي التكنولوجيا توفر لإسرائيل في الأغلب بوابة ولوج للاختراق.
إذ تستطيع إسرائيل وأمريكا اختراق أنظمة طائرة حربية إيرانية أو لأي دولة عربية أخرى، ولكنها لن تستطيع أن تفعل ذلك مع صواريخ المقاومة التي لا تحوي أي أجهزة كمبيوتر في الأغلب، ويزداد الأمر سوءاً بطبيعة الحال للدول العربية التي تشتري أسلحة غربية والتي قد تحوي ثغرات معروفة سلفاً لإسرائيل لاختراقها.
ومما يسهل لحماس والجهاد تقليل الاعتماد على التكنولوجيا، صغر مجتمع وبساطة هياكلهما العسكرية مقارنة بالدول، وشبكة العلاقات الشخصية التي تربط أعضاء الحركتين، وبالتالي قلة الحاجة للتكنولوجيا، في عملية التنظيم البيروقراطي الذي يمثل عادة واحداً من أسهل قنوات الاختراق.
وظهر قدرة حماس تحديداً في عزل عملياتها العسكرية والأمنية عن الاختراق الإسرائيلي سواء القائم على التجسس البشري أو الإلكتروني في عملية احتجاز الجندي الاسرائيلي الأسير جلعاد شاليط لمدة خمس سنوات رغم أن غزة قد تكون أكبر مكان مراقب في العالم، حسب وصف قاله أحد الباحثين المتخصصين في الشأن الفلسطيني لـ"عربي بوست".
فالاختفاء هو الاستراتيجية الأساسية للحركات الفلسطينية، التي تعلم أنها لا تستطيع إسقاط الطائرات الحربية التي تقصف غزة، فلم تستثمر في ذلك ولم تحاول، بل ركزت على الأنفاق باعتبارها الوسيلة الوحيدة للهروب من القصف الإسرائيلي.
المفارقة أن هذا يعد تطبيقاً ناجحاً لمفهوم الحرب غير المتماثلة التي يقال إن الإيرانيين وحزب الله من أمهر مستخدميها.
يقدم نجاح الحركات الفلسطينية في مواجهة الاختراق الاستخباراتي الإسرائيلي دليلاً على أن "الحاجة أم الاختراع" وأن الإنسان مهما كان ضعيفاً فإنه عبر الإصرار والتفكير العقلاني غير التقليدي وتراكم الخبرات والصبر يستطيع أن يواجه خصماً يفوق قوته عشرات الأضعاف.
فإسرائيل تعتبر واحدة من أكثر دول العالم تقدماً في مجال التجسس سواء القائم على التجنيد البشري أو التجسس الإلكتروني، ولكنها اليوم لا تستطيع إيجاد آلاف الصواريخ المخبأة على بعد كيلومترات من حدودها.