شهدت العلاقات التونسية الليبية زخماً دبلوماسياً مكثفاً في الآونة الأخيرة، بدأها الرئيس التونسي قيس سعيد بزيارته المكوكيّة لطرابلس يوماً واحداً بعد أداء المجلس الرئاسي الجديد برئاسة محمد المنفي اليمين الدستورية أمام المحكمة الدستورية في طرابلس، وحصول حكومة الوحدة الوطنية على ثقة البرلمان، في 15 مارس/آذار 2021.
وما كاد يمرّ شهران ونيّف على زيارة سعيّد حتى حطّت طائرة رئيس الحكومة التونسيّة هشام المشيشي بمطار معيتيقة بطرابلس، محمّلة بوزراء ومسؤولين رفيعين وقيادات في المجتمع المدني، وإعلاميين، ومئات من رجال المال والأعمال، وحقائب دبلوماسية مليئة بالنوايا وأفكار للشراكة والاندماج الاقتصادي وإعادة الإعمار وجلب الاستثمارات الليبية لتونس.
وإن كان الدافع المالي والاقتصادي لزيارة المشيشي للجارة ليبيا واضحاً ومدروساً، إلا أن البعد الأمني والإطار السياسي والمسألة الديمقراطية الانتقالية من الأمور التي لا يمكن أن تغيب عن مثل هذه اللقاءات الثنائية بين البلدين، خصوصاً أن الحكومة الليبية المؤقتة والمجلس الرئاسي مشغولون في هذه الفترة بالتحضير للانتخابات المزمع عقدها في نهاية هذه السنة.
وقبل ذلك مؤتمر برلين، الذي سيتطرّق حسب متابعين للشأن الليبي، لعدة مسائل، أهمها القاعدة الدستورية التي سيتم من خلالها تحديد طريقة إنجاز الانتخابات الرئاسية، إضافة لمسألة الحضور العسكري الأجنبي في ليبيا، وملف المقاتلين الأجانب (المرتزقة) في كل من طرابلس وبنغازي.
علاقات متجذرة في تاريخ المنطقة
عرفت العلاقات التونسية الليبية تذبذباً في فترات معينة، واستقراراً وانسجاماً في فترات أخرى، على امتداد القرن الماضي والعقدين الأولين من الألفية الثالثة. وقد سجلت العلاقات بين الشعبين خلال مرحلة ما قبل استقلال البلدين، أي أثناء حقبة مقاومة الاستعمار الإيطالي لليبيا والفرنسي لتونس، درجةً من الدعم والتآزر، وذلك في مسعى للتحرر وإنهاء الاحتلال. وقد ساهم تحرر ليبيا المبكر من الاستعمار الإيطالي سنة 1951 في لعب دور القاعدة الخلفية للمقاومين التونسيين للاحتلال الفرنسي، وهو ما قرَّب بين الشعبين، وأذكى روح التضامن والوحدة بينهما في مرحلة مبكرة.
بعد حصول تونس على الاستقلال من الاستعمار الفرنسي سنة 1956، وُلدت علاقات جديدة بين دولتين مستقلتين حديثاً، طغى عليها الطابع الدبلوماسي، بما أن البلدين في فترة حكمي الرئيس الحبيب بورقيبة في تونس، والملك محمد إدريس السنوسي في ليبيا، كانا في حالة بناء لدولتيهما وإعادة التأسيس لسياسات جديدة مختلفة عن السياسات الاستعمارية القديمة. وتعود أسباب قلة التفاعل بين البلدين كذلك لقلة الموارد والإمكانات، وتأخر اكتشاف الثروات والمواد الأولية، التي تخلق المصالح الاقتصادية والتبادل التجاري بين البلدين.
ومع وصول العقيد معمر القذافي للحكم عبر انقلاب عسكري سنة 1969، تغيرت بوصلة العلاقات الثنائية، وشهدت مداً وجزراً، حيث انتقلت من وحدة واندماج بين البلدين سنة 1974 تحت شعارات "قومية" "وحدوية" إلى خلافات وصراعات متتالية، اتّسمت خصوصاً بفض الوحدة الاندماجية بين البلدين بعد 48 ساعة من إمضاء الاتفاق حولها، ودعم القذافي لكوماندوز من المعارضين القوميين التونسيين بالمال والسلاح للقيام بمحاولة انقلاب على بورقيبة، انطلاقاً من محافظة قفصة في الجنوب التونسي سنة 1980، إلا أنهم فشلو في تحقيق أهدافهم.
بعد ذلك تحسّنت علاقات البلدين بمجيء زين العابدين بن علي للحكم، بانقلاب أبيض على بورقيبة، حيث استطاع بن علي أن يحتوي القذافي ويحسن علاقاته بالغرب، بعد عقود من الحصار والعقوبات على نظامه، ووفقاً لصحيفة الشروق التونسية: "… أصبحت ليبيا تدريجيّاً الشريك الاقتصادي الأول لتونس عربيّاً وإفريقياً، والشريك الخامس لتونس عالميّاً. وتشير الأرقام إلى بلوغ المبادلات التونسية مع ليبيا ما يناهز 7% من مجموع مبادلات البلاد مع الخارج، عام 2010، كما بلغ عدد المؤسسات التونسية المستثمرة في ليبيا، أي لها فروع في دولة الجوار، حوالي 1000 مؤسسة، وبلغ عدد التونسيين العاملين في ليبيا حوالي 150 ألف عامل".
تقاطعات في المصالح الاقتصادية والقيم الديمقراطية
بناء على ما سبق، نلاحظ أنه بالرغم من التوتر والقطيعة التي شابت العلاقات التونسية الليبية في فترات تاريخية معينة، فإنها لم تكن تلك أساس العلاقة بين البلدين، ولم تدُم طويلاً أو على امتداد التاريخ المشترك للدولتين. ولعل الثورات التي حصلت داخلهما أبرزت عمق وتجذر هذه العلاقات البينية بين الطرفين، حيث قامت تونس باحتضان الثورة الليبية، وفتحت حدودها للثوار والأهالي للاحتماء بها واللجوء إليها هرباً من اضطهاد القذافي. كما شكلت الحدود الجنوبية لتونس ممرات استراتيجية لإيصال المؤنة والسلاح للثوار الليبيين على امتداد أشهر من الحراك الثوري والعمل المسلح.
وفي هذا السياق التاريخي والجغرافي والسياسي تأتي زيارة رئيس الحكومة هشام المشيشي على رأس وفد رفيع المستوى جمع وزراء وقيادات من المجتمع المدني ورجال أعمال وإعلاميين لتوسيع أفق التعاون الاقتصادي بين البلدين، بحسب بيانات لرئاسة الحكومة.
وقد أكد المشيشي، خلال مؤتمر صحفي عقده السبت الماضي، 25 مايو/أيار، مع نظيره الليبي، أن زيارته تهدف إلى "تأكيد عمق الروابط التاريخية السياسية والاقتصادية، وخصوصاً الروابط الإنسانية التي تجمع ليبيا وتونس"، مضيفاً "مجالاتنا الاقتصادية متكاملة، والذي يمس ليبيا من الناحية الاقتصادية ينفع أيضاً تونس".
فيما قال رئيس الحكومة الليبية عبدالحميد الدبيبة، إن بلاده "لن تترك تونس وحيدة تواجه الظروف الاقتصادية التي أنتجتها جائحة كورونا، وما خلفته الظروف السياسية والأمنية في المنطقة من تأثير عليها، بل سنقوم بعون الله بكل الخطوات الضرورية لمساعدة أشقائنا".
المفاوضات التي حصلت بين الطرفين التونسي والليبي خلال أيام الزيارة أفضت للعديد من القرارات من الجانب التونسي لصالح الجارة ليبيا، ودعماً لموقفها الاقتصادي والسياسي خلال المرحلة الانتقالية التي تمر بها، لعل أهمها العمل بشكل جدي على تحقيق الوحدة الاقتصادية بين البلدين، كامتداد لفكرة الوحدة الاقتصادية الإقليمية المستلهمة من مشروع اتحاد المغرب العربي، الذي يضم إلى جانب تونس وليبيا الجزائر والمغرب وموريتانيا. وتتجلى بوادر هذه الوحدة في القرارات المتخذة بهذا الشأن، والتي أعلن عنها المشيشي "المواطن الليبي سيعامل مثله مثل المواطن التونسي، وكل العراقيل التي كانت في السابق سيتم تجاوزها باعتبارها من الماضي"، وأضاف "التزمنا مع أشقائنا الليبيين أن نضع كل الإجراءات الكفيلة لتحرير المبادلات بين تونس وليبيا وبتحرير التنقلات والتحويلات".
أفق التعاون الاستراتيجي بين البلدين في واقع إقليمي متقلب
هذا يتضمن إلغاء الحدود الجمركية على البضائع التي تمر من خلال المعابر الحدودية بين البلدين، وتقديم تسهيلات لرجال الأعمال الليبيين لأجل القدوم للإقامة والاستثمار في تونس، ولعل أهمها إجازة حق التملك العقاري لليبيين في تونس، والتي كانت في السابق تتطلب شروطاً كثيرة وصعوبة في الحصول على الرخص اللازمة.
كما وعد المشيشي نظيره رئيس الحكومة الليبية، عبدالحميد الدبيبة، بالنظر بإيجابية في مطلب رفع التجميد عن حسابات لليبيين في تونس منذ الثورة إلى الآن، بسبب معطيات أمنية أو إدارية بيروقراطية.
كل ذلك من شأنه أن يرفع سقف التوقعات من هذه الزيارة نحو مزيد من التكامل الاقتصادي بين البلدين، بالرغم من أن الوضع في ليبيا لا يزال غير مستقر تماماً، وبإمكان توتر الأوضاع الأمنية أن يهدد كل المكتسبات التي وصلت إليها ليبيا خلال حوارات تونس، خصوصاً أن هنالك العديد من المسائل الدستورية والعسكرية لا تزال عالقة لليوم، ولم تحسم فيها لا مفاوضات تونس ولا مؤتمر غدامس.
العديد من المسائل الأمنية والعسكرية والدستورية لا تزال عالقة، سواء تعلق الأمر بمسار الانتقال الديمقراطي الليبي وإنجاز الانتخابات أواخر شهر ديسمبر/كانون الأول، أو في علاقة مستقبل التكامل الاقتصادي والتقارب الدبلوماسي بين تونس وليبيا.
وفي انتظار ما ستسفر عنه مخرجات مؤتمر برلين2، في منتصف شهر يونيو/حزيران المقبل، فإن الملفات التي من المفترض أن يناقشها المؤتمر، حسب متابعين للشأن الليبي، ترتبط خصوصاً بتوحيد المؤسسة العسكرية وإدماج المجموعات المسلحة داخل الجيش والشرطة، والتمسك بموعد الانتخابات، في شهر ديسمبر/كانون الأول القادم، وتحديد القاعدة الدستورية التي سيتم على أساسها انتخاب الرئيس القادم لليبيا.
كل هذه الملفات سيكون لها تأثير قوي على استقرار ونجاح ليبيا في مسارها الديمقراطي، والذي سينعكس منطقياً على علاقتها الإقليمية مع جيرانها، ومن بينهم تونس، التي تراهن كثيراً على الفرص الاقتصادية والمالية التي ستنتج عن نجاح التجربة الديمقراطية في ليبيا، واستقرار أوضاعها السياسية والأمنية والعسكرية، خصوصاً أن ليبيا مقدمة على مرحلة إعادة إعمار تحتاج خلالها إنفاق 600 مليار دينار (حوالي 135 مليار دولار) على فترة تمتد على 10 سنوات، حسب ما جاء في تصريح لوزير الدولة للشؤون الاقتصادية سلامة الغويل لقناة ليبيا 218.
التنسيق في محاربة التطرف
إلى ذلك، هناك مسائل أخرى على غاية من الأهمية والخطورة، تمسّ الأمن القومي للبلدين وتعطل الاندماج والتكامل الاقتصادي بينهما، وهي المتعلقة بالإرهاب والتهريب عبر الحدود التونسية الليبية، وهما قضيتان وإن كانتا منفصلتين اصطلاحياً إلا أنهما متداخلتان في شبكة من العلاقات والمصالح، يتقاطع فيها المالي بالأمني بالسياسي. كما أن العاملين في اقتصاد التهريب لا يمانعون تهريب السلاح والعتاد العسكري إذا كان يُدر عليهم أرباحاً مالية كبيرة ويجدون الطريق معبداً أحياناً بتواطؤ من أجهزة أمنية وإدارية فاسدة في كلا البلدين، وهذا ما يتطلب تنسيقاً أكثر حول هذه المسائل ومقاربتهما من زوايا مختلفة، لا تقتصر فقط على المسألة الأمنية، بل تشمل أيضاً الجوانب الاجتماعية والجهوية والعروشية، فتجارة التهريب مثلاً، وإن كانت غير قانونية، إلا أنها تعيل آلاف العائلات التي تعيش على المداخيل المتأتية من التجارة الموازية وتهريب البنزين في الجنوب التونسي.
هنالك أيضاً تحدٍّ آخر مهم في سياق التقارب بين دول الربيع العربي التي نجحت ثوراتها في إسقاط الأنظمة الديكتاتورية وتقدمت خطوات، بسرعات متفاوتة، على مسار إنجاح تجاربها الديمقراطية، وهو تدخل بعض الأنظمة العربية التي لا مصلحة لها في نجاح التجارب الديمقراطية في المنطقة العربية، بما أنها تعتبره تهديداً لوجودها واستمرارها في الحكم، وهو ما دفعها للسعي بطرق مختلفة لإفشال هذه التجارب، وعلى رأسها التجربتان التونسية والليبية، والتدخل في شؤونها الداخلية عبر دعم المنظومات السياسية القديمة، بهدف العودة للحكم وإجهاض المكاسب الديمقراطية، أو من خلال تورط أجهزتها المخابراتية في تجنيد المجموعات الإرهابية والمسلحة للقيام بعمليات إرهابية، وخلق مناخ من عدم الاستقرار والخوف، يهدد الاقتصاد ويدفع شعوب البلدين للتفكير في المسألة الأمنية فقط، حتى لو كان ذلك من خلال التضحية بالمكتسبات الديمقراطية التي جاءت بها ثورات الربيع العربي.
المطلوب حالياً من الدبلوماسية التونسية دعم المسار السياسي والديمقراطي في ليبيا، تحضيراً لما سيأتي إثر هذه المرحلة الانتقالية من علاقات تعاون اقتصادي وتبادل تجاري ستكون في مصلحة البلدين على المستوى المتوسط وبعيد المدى. وهو ما يتطلب حضور تونس ومشاركتها في المؤتمرات والجلسات المتعلقة بالملف الليبي، وعلى رأسها مؤتمر برلين، وأن يكون حضوراً فاعلاً وقوة اقتراح وليس مجرد مجاملات وتعبيرات دبلوماسية عابرة.
إن دعم ليبيا في موقفها الحالي يكون من خلال مرافقتها سياسياً في حل الإشكالات التي تهدد بانهيار مسار الحوار الذي بدأ من تونس وانتهى بتشكيل حكومة وحدة توافقية، خاصة أنه لم يقع حتى الآن الحسم مثلاً في الطريقة التي سيتم من خلالها انتخاب رئيس الدولة وتحديد صلاحياته، وحسب أية قاعدة دستورية. وفي هذا السياق يمكن أن تكون التجربة التونسية في الانتخابات نموذجاً ملهماً للشعب الليبي.