كلمات جديدة تدخل القاموس الأمريكي تجاه الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، إنها كلمات بدأت تغير ولو على استحياء النظرة الأمريكية لحال الفلسطينيين وقضيتهم.
في صراعٍ تكون فيه الكلمات ذات ثقلٍ مهم (لدرجة الخلاف على استخدام كلمة "صراع" في حد ذاتها)، تمثل التغييرات في الكلمات المستخدمة لوصفه أهمية خاصة.
وقد بدأت الكلمات تتغير فعلاً في ما يتعلق بنقاش الصراع الفلسطيني الإسرائيلي داخل الولايات المتحدة، وظهر ذلك واضحاً خلال المواقف الأمريكية التي أثيرت في حرب غزة، حسبما ورد في تقرير لمجلة The Atlantic الأمريكية.
لأول مرة توصف إسرائيل بالعنصرية
جاء التحول الأول والأكثر وضوحاً داخل الكونغرس، حيث انتقدت المزيد من الأصوات (التقدمية في غالبها) انتهاكات حقوق الإنسان الإسرائيلية، إلى جانب دور الحكومة الأمريكية في إبقاء الوضع الراهن على ما هو عليه بعد أن شبّهته جماعات حقوق الإنسان وكبار الزعماء -مثل الرئيس الجنوب أفريقي سيريل رامافوزا- بنظام الفصل العنصري (أبارتهايد).
وفي العديد من شرائح المجتمع الأمريكي المحسوبة على الديمقراطيين، بدأت النقاشات حول الصراع الفلسطيني الإسرائيلي تنصرف أبعد فأبعد عن الحجج الدفاعية الواهية والمبتذلة عن "حق إسرائيل في الوجود" و"محاربة الإرهابيين" و"معاداة السامية"، حسبما ورد في مقال نشر في مجلة The American Prospect الأمريكية لسارة ليا ويتسون، المدير التنفيذي لمنظمة الديمقراطية الآن للعالم العربي (DAWN)، والمدير التنفيذي السابق لقسم شؤون شمال إفريقيا والشرق الأوسط بمنظمة "هيومن رايتس ووتش".
وتعمَد بدلاً من ذلك إلى إقرارٍ من نوعٍ جديد بحقوق الفلسطينيين. وبين المحتجين، بدأت تبرز كلمات من نوعية "الفصل العنصري" و"الاستيلاء على الأراضي" و"التطهير العرقي".
وقد بدأ أشد المدافعين عن إسرائيل داخل الحزب الديمقراطي في توجيه الانتقادات الكبيرة لحجم الرد العسكري الإسرائيلي على غزة (والذي تسبّب في مقتل 230 شخصاً على الأقل).
وهذه ظاهرة سابقة حتى على الهجوم الحالي على غزة، فالرأي العام العالمي كان قد شرع بالفعل في الانصراف عن تأييده التقليدي لسياسات الحكومة الإسرائيلية وروايتها عن الصراع الفلسطيني الإسرائيلي.
ففي أبريل/نيسان الماضي، أصدرت منظمة "هيومن رايتس ووتش الأمريكية" تقريراً مستنداً إلى استقصاء دقيق وخلُصت فيه إلى أن السلطات الإسرائيلية مُدانة بارتكاب جرائم فصل عنصري واضطهاد للفلسطينيين، ليس فقط في الأراضي المحتلة ولكن أيضاً في المناطق التي تعتبرها إسرائيل تابعة لها. وكانت هذه هي المرة الأولى التي تُصدر فيها منظمة دولية معنية بحقوق الإنسان تقريراً يحمل استنتاجات من هذا النوع، بناء على بيانات لمنظمات فلسطينية وإسرائيلية كانت قد توصلت إلى النتائج نفسها خلال السنوات القليلة الماضية.
ولكن ما يقلقها أكثر هو كلمة المساواة
لكن التحوّل الأكثر دقة وكشفاً لبواطن الأمور قد جاء من البيت الأبيض نفسه. ففي خطاب إعلان وقف إطلاق النار بين حماس وإسرائيل يوم الأربعاء 19 مايو/أيار، قال الرئيس جو بايدن: "يستحق الفلسطينيون والإسرائيليون على حد سواء أن يعيشوا في أمنٍ وأمان، وأن يتمتعوا بمستويات متساوية من الحرية، والرخاء، والديمقراطية". وقد أكّد نص مكالمة وزير الخارجية أنتوني بلينكن مع نظيره الإسرائيلي على نفس الكلمات حرفياً تقريباً، كما كان الحال مع تعليقات السكرتيرة الصحفية للبيت الأبيض جينيفر بساكي.
وربما لا تبدو هذه التصريحات استثنائيةً في ظاهرها. فلماذا لن تدعم الولايات المتحدة الحرية، والرخاء، والديمقراطية للفلسطينيين والإسرائيليين على حد سواء؟
لكن مراقبي السياسة الأمريكية في هذا الصدد يرون أنّ هناك كلمةً واحدة كانت بارزة على وجه التحديد، حسبما ورد في تقرير لمجلة The Atlantic الأمريكية.
إذ قال مارتين إنديك، الزميل البارز في Council on Foreign Relations والسفير الأمريكي السابق إلى إسرائيل ومبعوث باراك أوباما للمفاوضات الفلسطينية-الإسرائيلية بين عامي 2013 و2014: "فجأة، ومن العدم، بدأت كلمة (متساوية) تظهر في خطاب الرئيس بايدن ووزير خارجيته. وهذا أمرٌ جديدٌ كلياً".
ولم يكُن إنديك هو الشخص الوحيد الذي لاحظ ظهور كلمة (متساوية) أكثر وأكثر في الخطاب الأمريكي بشأن القضية؛ إذ قال يوسف منير، الزميل غير المقيم في Arab Center in Washington الذي يراقب الصراع، إنّ استخدام الكلمة قد يبدو غامضاً لكنها تُشير إلى تحوّل في تركيز الحل السياسي في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي على حقوق الإنسان.
وأضاف منير: "ما بدأنا نشهده هو تحوّل في فكرة أنّ الصراع صار لا يُطاق، كما أنّه غير مقبول أيضاً. وهذا هو الاتجاه الذي تسلكه الأمور حالياً، وهم يحاولون العثور على لغةٍ جديدة للمساعدة في قيادة هذا التحول".
وتتفق سارة ليا ويتسون مع هذ التحليل؛ إذ تشير إلى أن بيانات الحكومة الأمريكية بدأت بالتركيز على ضمان حقوق المساواة للفلسطينيين، مثل تصريحات وزير الخارجية الأمريكي أنطوني بلينكن الأخيرة بأن الإسرائيليين والفلسطينيين يجب أن يتمتعوا بـ"ضمانات متساوية من الحرية والأمن والازدهار والديمقراطية".
لم يكونا يوماً طرفين متساويين
ورغم أنّ الولايات المتحدة لطالما دعمت التسوية السلمية للصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، لكنّها لم تفعل ذلك مطلقاً على أساس المساواة. فالطرفان ليسا متساويين بالكامل في عيون الولايات المتحدة، حسب تقرير The Atlantic.
فإسرائيل تُعتبر حليفاً قوياً يحصل على نحو أربعة مليارات دولار من المساعدات العسكرية الأمريكية سنوياً، بينما يحصل الفلسطينيون على 235 مليون دولار فقط -ولكنها مساعدات غير مستدامة.
وقد أكّد الرئيس هاري ترومان، الذي كان أول من اعترف بإسرائيل بعد تأسيسها عام 1948، على أهمية التحالف الأمريكي-الإسرائيلي. بينما جاء دعم حق الفلسطينيين في تقرير المصير لاحقاً، لكن من دعموا ذلك الحق لم يذهبوا إلى ما هو أبعد من الكلام في السابق.
وبقدر ما تتحدث واشنطن عن حقوق الفلسطينيين، لكن الكلمات تنحسر عادةً في لغة الحديث عن الدولة -أو الدولة القائمة على حدود عام 1967، وعاصمتها القدس الشرقية. ويُعتبر دعم حل الدولتين بهذه المعايير هو السياسة الأمريكية القائمة منذ زمن تجاه القضية.
ورغم أن دعم هذا الحل لما يعُد متوافقاً عليه من الحزبين كما كان في الماضي؛ إذ قالت إدارة ترامب إنّها ملتزمةٌ بحل الدولتين، لكنّها عملت في الوقت ذاته على تقويضه بنقل السفارة الأمريكية في إسرائيل إلى القدس وغض الطرف عن توسيع المستوطنات، وهما الخياران اللذان يصبان في صالح إسرائيل وحكومتها اليمينية. وبينما يُواصل الديمقراطيون دعمهم لمبدأ حل الدولتين، لكن بايدن لم يقدم خططاً لصياغة إطار هذا الحل عملياً. ولولا موجة العنف الأخيرة، لكان من المستبعد أن يشعر البيت الأبيض بالحاجة إلى التعامل مع هذه القضية مطلقاً.
ولكن داخل الكونغرس على الأقل، بدأت هذه الديناميكية في التغير، خاصةً بين الديمقراطيين؛ إذ استغل التقدميون في الحزب، ومن بينهم النائبة الأمريكية من أصل فلسطيني رشيدة طليب، منصتهم من أجل الدعوة لمنح الفلسطينيين حقوقهم مع تسليط الضوء على ممارسات التمييز وهدم المنازل واعتقال الأطفال، وهي القضايا التي يرون أنّها تناقض الأهداف الاستراتيجية للولايات المتحدة في المنطقة وهدف إدارة بايدن المتمثل في تركيز سياستها الخارجية على حقوق الإنسان.
ويرى خبير استطلاعات الرأي جون زغبي، الذي طالما عارض المواقف الأمريكية بشأن الشرق الأوسط، أن هناك تحولاً "جذرياً" في الولايات المتحدة، حيث يزيد تعاطف الأجيال الأصغر مع الفلسطينيين، وهذه الهوة العمرية أصبحت واضحة تماماً داخل الحزب الديمقراطي، حسبما ورد في تقرير لموقع هيئة الإذاعة البريطانية "بي بي سي".
يرون حل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي في دولة واحدة تضم العرب واليهود
اللافت هو أن النظر لحل الدولتين بات يتغير في أوساط الأمريكيين، حسب سارة ليا ويتسون.
إذ ترى أنه حتى مراكز الأبحاث الأمريكية الرصينة قد غيّرت تحليلها، وتخلت عن العناصر المكررة في خطابها، وما تتمسك به من أساطير تقليدية عن "حل الدولتين" و"عملية السلام"، التي لطالما اعتمدت عليها تل أبيب وواشنطن، لتبرير الوضع القائم المتعلق بالدعم الأمريكي اللانهائي لجيش الاحتلال.
وهكذا أصدرت مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي، التي ينحدر منها عدد كبير من كبار المسؤولين في إدارة بايدن، توصيات بالعمل على إطار سياسي جديد يركِّز على المساواة في الحقوق وضمان الحريات للفلسطينيين والإسرائيليين، الذين يعيشون تحت سلطة الاحتلال الإسرائيلي في واقع الدولة الواحدة القائم.
مثل هذه الدعوات هي بمنزلة زلزال فكري في سياق التناول لشؤون إسرائيل وسياساتها، التي ترتكز قانونياً وسياسياً على أفكار التفوق اليهودي العرقية القومية ودعوات طرد الفلسطينيين، والأهم من ذلك أنها تطالب بضمان حقوق تصويت متساوية، ومشاركة سياسية متساوية، وحقوق مواطنة متساوية لليهود والمسيحيين والمسلمين الفلسطينيين على حد سواء، في وقت أصبحت فيه قيم المساواة وعدم التمييز وحقوق الإنسان مسائل ليست محل خلاف باعتبار أنها قيم أساسية عالمية.